وثيقة حماس: ضجيج من أجل الهمس!

وثيقة حماس: ضجيج من أجل الهمس!

ربما يجب الاعتراف بأن حركة حماس نجحت في جعل الضجيج حول وثيقتها الجديدة حدثا إعلاميا كبيرا تنبهت له منابر الصحافة منذ أشهر. وربما أيضا يجب على حماس الإقرار بأن المبالغة في قرع طبول المناسبة، كشفت تواضع المضمون ووهن الحدث وقصوره عن أن يكون مفصلا لافتا في تاريخ حركات التحرر الفلسطينية.

والحال أن حركة حماس، على ما يبدو، كانت مدركة أن وجع الجدل الداخلي الذي استغرق سنوات لإخراج الوثيقة الميمونة لا يهم كثيرا العالم خارج حماس، عالم الفصائل الفلسطينية وعالم العواصم العربية وعالم المنابر الدولية.

ولهذا فإن اللغط الذي دار حول وثيقة مفترضة، ووثيقة محتملة، ووثيقة مقبلة، ثم استنكار الحركة لتسرب بعض المسوّدات، أو استهجانها لقيام قناة الميادين مثلا بالكشف عما ما زال داخل أقبية النقـاش، لا يعدو كونه جلبة متعمّدة بأن شيئا كبيرا قيد الحدوث إلى أن تمخّض الجبل فأنجب وثيقة الدوحة.

حتى في الساعات الأخيرة التي سبقت الإعلان الرسمي عن الوثيقة، تواترت أنباء عن تأجيل الموعد وتبديل المكان وعن رفض فنادق استضافة الحدث والتفتيش عن أخرى، وكل ذلك أمعن في حقن جرعات إضافية من البهرجة والتشويق على نحو بوليسي لا يليق بمفصل تاريخي جدي في مسيرة حركة الشيخ الراحل أحمد ياسين، ولا بالمرامي التي تصبو حماس لبلوغها من خلال هذا المفترق الأيديولوجي الأليم.

مرّت كافة الحركات والتيارات السياسية في العالم، لا سيما الثورية الأيديولوجية منها، بتحوّلات نظرية نقلتها من طور إلى آخر، ومن تكتيكات عقائدية إلى أخرى. يكفي تذكّر ابتعاد الشيوعيين الإيطاليين عن موسكو وتفشي حالة الانقسام الأيديولوجي لدى المشاريع الماركسية وتشظيها بين لينينية وماوية وتروتسكية، ويكفي تذكّر الجراحات التي تولتها الواقعية السياسية داخل كل جماعات اليسار في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى درجة أن حزب العمال البريطاني سعى بقيادة طوني بلير إلى الاهتداء لطريق ثالث ما بين يمين ويسار.

على أن حماس تكتشف تلك الواقعية مكرهة، وتكاد وجوه الحاضرين من قياداتها الذين حضروا مؤتمر خالد مشعل لإعلان الوثيقة، تشي بمقدار الظروف القاهرة التي نالت من ثوابت الحركة الإسلامية وبمقدار الجهد المبذول لابتلاع علقم الاعتدال والواقعية والتعقلن. فإذا ما تأخرت الحركة في الاعتراف بقواعد الراهن، فذلك أنها كانت تراهن على تحوّلات كبرى بشّر بها “الربيع العربي”، لتطويبها امتدادا طبيعيا لتيار الإسلام السياسي الذي لاح حراكه في ميادين ذلك “الربيع” المختلفة.

يسلط المتغير عند حماس المجهر على ما كان من الثوابت في ميثاقها عام 1988. في نفس المرحلة التي كانت فيها منظمة التحرير، بشخص الراحل ياسر عرفات، تعترف بتقادم ميثاقها (1989) وتعلن قبل ذلك “قيام دولة فلسطين” (1988) على حدود الرابع من يونيو 1967، كانت حماس تعلن تحولها من حركة دعوية إلى حركة تحرر، وتكتشف “الكفاح المسلح” سبيلا وحيدا لتحرير فلسطين، كل فلسطين.

وفيما كانت حركة فتح قد أعلنت في أوائل عام 1965 مشروعها لإقامة دولة فلسطينية يعيش داخلها المسلمون والمسيحيون واليهود، مميّزة بين اليهودية والصهيونية، أطلت حماس في ميثاقها بعد 23 عاما على مسألة فلسطين بصفتها صراعا بين المسلمين واليهود، كل اليهود.

وبالتالي فإن آليات التغيير في وثيقة حماس الجديدة تطرح أسئلة حول غرابة ما انطلقت به حماس، وشذوذه عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية حتى تلك التي تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، أي قبل انطلاق حركة فتح وقبل إنشاء منظمة التحرير.

والحال أن منطقا حقيقيا أملى نفسه على ديناميات حماس التاريخية. فالحركة تتقدم بصفتها تيارا دينيا يعمل وفق وصفات دينية من أجل تحقيق هـدف ديني.

وبناء عليه فإن نظرتها إلى الصراع في فلسطين على أنه بين مسلمين ويهود يتّسق تماما مع عقيدتها الفقهية التي تحيل أي صراع إلى صدام بين المؤمنين والكافرين، تمثّلا بتاريخ الإسلام وسيرة رسـول المسلمين. ولا عجب من أن علاقة دياليكتيكية تربط فك علاقة حماس بجماعة الإخـوان المسلمين بفك ارتباط المسألة الفلسطينية بالسيرورة الفقهية للدين.

ولا عجب في هـذا الإطـار من أن تقـر حركة حماس أخيرا بتنوّع المجتمع الفلسطيني، وتعترف بفلسطينية هويتها وفضائها ومنتهاها، وبانقطاع أهدافها عما يبشر به الإسلام السياسي (الإخواني) من صالح من أجل “الأمة” العابرة لكل هوية وحدود.

وفيما البديهيات تتتالى على سطور وثيقة حماس والتراجعات تتسرب من بين سطورها، وفيما تقبل الحركة بإقامة دولة على حدود العام 1967، بما يعني اعترافا لن تربكه الديباجات الأخرى من أن ما هو خارج هذه الحدود ليس فلسطينيا، فإن السؤال الملح الذي يطرح نفسه لا يدور حول نوعية التحوّلات وأهمية النصوص ومخارج الجمل والسطور، بل يهتم بالحوافز الحقيقية والمعطيات التي تملكها الحركة للقبول ببديهيات قبلت بها الفصائل الفلسطينية مند ثـلاثة عقـود (البرنامج المرحلي عام 1974) والتي انتهت إلى واجهات “حل الدولتين” واتفاقية أوسلو ومسلسل التفاوض في كـامب دايفيد ووايت ريفر وشرم الشيخ.. إلخ، والذي ينتهي هذه الأيام إلى تغوّل إسمنت المستوطنات وزحفها على ما تبقى من هذه الدولة الفلسطينية الموعودة.

سيكون على حماس أن تشرح لجمهورها قبل الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي عن الحكمة من تقديم اكتشاف تم اكتشافه قبل عقود، وأن تبرر استغراقها في الانفراد بخيار الكفاح المسلح، فيما أن من سبقوها، حين كان يقتصر جهد “حماس” على الدعـوة، قد خبروا ذلك وأدركوا أن موازين القوى الفلسطينية والعربية والدولية لا تتيح تسجيل إنجاز بل مراكمة الويلات والخسائر.

وإذا ما كانت حماس تمثل بديلا عن الخيارات التي قادتها السلطة الفلسطينية منذ “أوسلو” وتقدم نموذجا معارضا لـ“تسووي” فتح، وإذا ما كان “القسام” حضر بديلا عن غياب “العاصفة”، والمقاومة بديلا عن التخاذل، فأي فائدة تقدّمها حماس من اغتيال الخيار البديل والالتحاق المتأخر بما اعتبرته سابقا “خيانة” يستحق طرد السلطة برمتها من قطاع غزة.

لا شك أن حماس تدرك ما لا ندركه وتعرف ما لا نعرفه، ولا شك أن لهذا التحوّل أسبابا تتعلق بالدور الذي تنتظره الحركة في مستقبل المنطقة عامة ومستقبل فلسطين خاصة.

ولا شك أن لإعلان الوثيقة من الدوحة وليس من غزة مثلا مرامي ما فوق فلسطينية، وأن خضوع الوثيقة لتدقيق من قبل مراجع قانونية، وفق ما أعلن مشعل، يروم اتساقها مع معايير دولية مطلوبة ليتم التصديق على أوراق اعتمادها من قبل المراجع الدولية الكبرى.

وبالإمكان تخيـل أن كثيرا مـن الفتحـاويين القدماء يتأملون الحدث ويتذكرون به ما عوّلوه على التحوّلات التي أدخلوها على مواثيقهم طمعا في تفهم دولي حنون ينهي مأساة الاحتلال ويجد سبيلا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة تطوي صراعا يقض مضجع كل المنطقة منذ أكثر من ستة عقود.

خاب أمل فتح وسيخيب أمل حماس، ذلك أن أمر فلسطين يقرره المحتل ولا تقرره النصوص في ثوابتها ومتغيراتها، وأن إسرائيل، وإن كانت مغتبطة بما أثمره بطشها من “تعقلن” فلسطيني، إلا أنها غير معنية بشكل ومساحة وحدود الدولة التي يقبل بها الفلسطينيون، وغير آبهة بأي اعتراف فلسطيني، معلن ومضمر بها، لا يتضمن وفق نسخة نتنياهو وصحبه اعترافا واضحا بيهودية دولة إسرائيل.

حسنا فعلت حماس. خرجت من جماد عقيدتها السياسية وأقرت أن السياسة فن الممكن.

تحتاج حماس إلى وثيقتها للانتقال نحو خطوات عملية تنفيذية كبيرة. سيكون على الحركة أن تطبّع علاقاتها كاملة مع القاهرة، فحماس لا تملك في هذا الكون إلا سطوتها على قطـاع غزة، ولا تستقيم سلطتها في هذا القطاع إلا على قاعدتين.

الأولى اتساق وانسجام واتفاق شامل كامل مع مصر يفتح الحدود مع غزة.

الثانية الاندفاع بعيدا في المصالحة الداخليـة الفلسطينية على نحو يعيـد الوحدة للأراضي الفلسطينية التي تقبل وثيقة حماس الأخيرة بإقامة دولة فلسطينية على مساحتها. فأهل غزة قبل الضفة سيسألون حماس عما تفرقه وثائقها عن وثائق فتح حتى يبقى الانقسام شرعيا ومقبولا.

سيكون على حماس أن تعدّل ما عدلته من خلال وثيقتها. فإذا كان النص يخاطب العالم وهذا هدفه، فإن العالم لن يقبل لبسا في تعابير تتعلق بالاعتراف بإسرائيل وبالحدود النهائية القصوى للدولة الفلسطينية وبالموقف من العنف والإرهاب والكفاح المسلح وبالموقف من التفاهمات الدولية التي أنتجتها اتفاقات أوسلو.

ستفعل حركة حماس كل ذلك بعد انتهائها من تسويق وثيقتها الجديدة داخل قواعدها وترويج ذلك داخل دوائر الإسلاميين في العالم العربي، وستقدم للعالم الوجبة الكاملة التي قدمتها فتح ومنظمة التحرير قبل ذلك، لكنها ستكتشف متأخرة ما اكتشفه سابقوها من أن النصوص تعجز عن فك طلاسم التاريخ، فلذلك مفاتيح أخرى.

محمد قواص

صحيفة العرب اللندنية