الانتخابات الفرنسية ومستقبل الاتحاد الأوروبي

الانتخابات الفرنسية ومستقبل الاتحاد الأوروبي

د.سليم محمد الزعنون*

تؤشر تجربة التاريخ إلى تجربة مشابهة لتجربة الانتخابات الفرنسية اليوم، فهي تتشابه مع انتخابات عام 2002، عندما وصل (جان ماري لوبان) مؤسس الجبهة الوطنية للجولة الثانية، إلا أنه فى الجولة الثانية صوتت فرنسا بشكل كبير لصالح “جاك شيراك” المحافظ، بما يجعلنا نحسم من البداية وفقاً للتجربة التاريخية أن فرنسا لن تصوت لليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، وأن الجمهور الفرنسي سيحسم النتائج لصالح ايمانول ماكرون.

بيدَّ أن الإختلاف بين التجربتين يتمحور أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الفرنسية الحديثة، يأتي الرئيس القادم من خارج المؤسسات السياسية المخضرمة لليسار أو اليمين، حيث أن ماكرون لم يرشحه حزب مؤسسي وهو الأمر النادر للغاية في فرنسا، ولوبان منبوذة من قبل المؤسسة السياسية وتعتبر التهديد الأكبر بالنسبة لها، كما أن الانتخابات الحزبية التي أجريت داخل الأحزاب لم يتمكن مرشحسها من الوصول إلى انتخابات الرئاسة، بما يدفع للتساؤل عن الأسباب.

أولاً: اسباب صعود لوبين وماكرون للجولة الثانية

يوجد سببان لتفسير صعود لوبان وماكرون لانتخاب الرئاسة ، وتراجع مرشحي أحزاب اليمين واليسار.

أولاً: انعدام ثقة المواطنين في النخبة السياسية الأوروبية خاصة في ظل عدم القدرة على معالجة قضايا والهجرة، والاهاب، والاقتصاد، وأظهر دراسة نشرتها مجلة بوليتيكو أن الفرنسيين هم أقل الشعوب سعادة بوضعهم الاقتصادي، مقارنة بباقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وتعاني فرنسا من مستويات مرتفعة في البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي وتراجع الأوضاع الأمنية، وبدأ الفرنسيين ينادون بالتغيير، ويبحثون عن مخارج في اطار تفويض سياسين جدد، والابتعاد عن النظام السياسي السابق.

ثانياً: صعود اليمين بصورة عامة.

نلاحظ خلال السنوات الأخيرة أن هناك تحولاً بالمزاج العام نحو تيارات اليمين المتطرف، ىسواء على المستوى السياسي أو على المستوى الشعبي:

على المستوى السياسي تمكنت الأحزاب اليمينية من تعزيز شعبيتها في الاستحقاقات الانتخابية في كثير من دول الاتحاد الأوروبي ، مثل السويد بريطانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وسويسرا، فيما أصبح حزب يميني شريكاً في الائتلاف الحاكم بالدانمارك.

وعلى المستوى الشعبي، ارتفاع حدة العنصرية تجاه المسلمين، ففي فنلندا شكَّل متطرفون جماعة أطلقوا عليها “جنود أودين”، يجوبون الشوارع لحماية المواطنين الفنلنديين من خطر المهاجرين وما أسموهم “الغزاة المسلمين”، كما شهدت ألمانيا تكوين مجموعة مشابهة تُعرف إعلامياً بمجموعة “فرايتال”، وهي تدَّعي أن “الدولة عاجزة عن حمايتنا، وأن مشكلة اللاجئين يجب أن نتولاها بأنفسنا”، وهناك زيادة في جرائم عنف اليمين المتطرف، ارتفع عدد الأعمال المتطرفة لليمين في عام 2015 بلغ 1150 قضية، مقارنةً بحوالي 750 في عام 2014، وأيضاً في ألمانيا، ارتفع مستوى جرائم العنف ذات الدافع اليميني السياسي أكثر من 40% في عام 2015 مقارنةً بالعام السابق له، كما ازدادت أعمال العنف ضد منازل إيواء اللاجئين لتبلغ 177 جريمة في عام 2015 مقارنةً بنحو 26 جريمة في عام 2014.

غير أن الجانب الخطير في صعود اليمين المتطرف، يقوم على محاولته لتشكيل تيار يميني متطرف فوق قومي، يمتد ليشمل جميع دول أوروبا، فقد عقد في الشهر المانيا، قادة اليمين المتطرف في فرنسا وهولندا وألمانيا اجتماعهم بهدف الاتفاق على إقامة جبهة موحدة في مواجهة الاتحاد الأوروبي، والعودة الى الدولة القومية.

ثانياً: اسباب صعود اليمين المتطرف:

الهجرة واللاجئين والأزمات الأقتصادية، تعتبر نتائج وليست أسباب رئيسية في صعود اليمين المتطرف، وفي تقديري يرتبط صعود تيار اليمين المتطرف بثلاث عوامل رئيسية:

  1. التغيير في بنية النظام الدولي.

بانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة عام 1991 تحول النظام الدولي من ثنائية القطبية إلى أحادية القطبية، حيث تربعت الولايات المتحدة على عرش النظام السياسي الدولي، وأصبحت صاحبة الحل في الأزمات المستعصية، فأجبرت قوى البلقان المتصارعة على توقيع “اتفاق دايتون” لإنهاء الحرب في البوسنة والهرسك، وتدخلت عسكريا في كوسوفو ضد صربيا وخارج تفويض مجلس الأمن،

في مطلع القرن الواحد العشرين تحول النظام الدولي إلى نظام شبه تعددي بقيادة أمريكية، بحيث أصبحت الولايات المتحدة فاعل بين مجموعة من الفاعلين الدولين.

ولكن تعثر المشروع الأميركي في كل من العراق وأفغانستان، وما رافقه من تراجع الدور الأمريكي، بدأ النظام الدولي منذ عام 2010 بالانتقال إلى نظام بلا اقطاب، لم تتمكن فيه أي قوة من الهيمنة على مجريات السياسية الدولية، وبدأ الانسحاب الأمريكي من القضايا الكبر ومن الشرق الوسط، بما ترك فراغاً ، وعملت دول مثل روسيا وإيران على ملئ هذا الفراغ وتأمين لها موقع في النظام الدولي الجديد باستخدام روسيا القوة العسكرية في سوريا، وباستخدام ايران ميليشياتها واتباعها في المنطقة، فالتمدد الروسي والإيراني الباحث عن مكان في “النظام الدولي ولّد صراعات جديدة وزاد حدة صراعات قائمة، الأمر الذي تسبب في موجات هجرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث تجاه أوروبا الغربية تحديداً.

معظم المهاجرين هم عربا ومسلمين؛ بما فجّر صراعَ الهويات في أوروبا حيث رأى المجتمع الأوروبي أن هويته الثقافية مهددة، واستغله اليمنين المتطرفه في مراكمة النقاط،، وضخمت من خطر التهديد الإسلامي، وفقم من صراع الهوية الأعمال الإرهابية التي شهدتها باريس ولندن وبوروكسل

  1. الفشل الأمني للنخب السياسية في أوروبا.

فشل النخب السياسية في أوروبا في التعامل مع صراع الهويات، من خلال عجزها عن التعامل مع المهاجرين بطريقة مناسبة،، وساهمت سياستها الخارجية في تفجر العنف ببلاد المهاجرين الأصلية، ودفعتهم للوصول إلى المجتمعات الغربية، فلم توفر النخب السياسية الحاكمة البرامج الملائمة لدمجهم في مجتمعات الهجرة، ولم يكن باستطاعتها إيقافهم عن الوصول إلى قلب أوروبا الغربية، فكانت النتيجة تزايد حدة صراع الهويات وتفاقم ظاهرة العداء للمسلمين واستفحال ظاهرة الإسلاموفوبيا، وفي النهاية تحقيق اليمين المتطرف لمكاسب انتخابية متعددة.

  1. العولمة

تغلغل العولمة في مفاصل النظام الدولي، والمستفيد الأكبر من العولمة هو الطرف الأقوى القادر على نشر ثقافته ، فقد دعم انتشار سلسلة مطاعم ماكدونالذ وكنتاكي أكثر مما حققه انتشار القوعد العسكرية الأمريكية في العالم.

وكان لذلك تأثيره وفي المجتمعات الإسلامية أخذت جماعاتٌ فيها ردَّ فعلٍ عكسياً ومتطرفاً، فبدل أن تلحق بثقافة العولمة الغربية ارتدّ قسم ليس باليسير منها نحو العودة إلى الأصول، في محاولة لإحياء الثقافة الإسلامية، وكرد فعل على الهجوم المتواصل لقوى وأدوات العولمة الثقافية والاقتصادية على الثقافات المحلية ومنها الثقافة العربية الإسلامية، وهذا التطرف تمت ترجمته بطريقيتينـ، الأولى تعقيد مسألة الاندماج في المجتمعات الغربية، والأخرى أمنية كالتفجيرات في المدن الأوروبية والأميركية، ومهاجمة مقرات صحف أوروبية تعرضت لرموز إسلامية مختلفة.

ثالثاً: الفُرص

تشير جميع استطلاعات الرأي إلى أن إيمانويل ماكرون، الأوفر حظا للفوز في ا انتخابات الرئاسة الفرنسية، وبحسب إلى أن إيمانويل ماكرون سيحصد ما بين 59 إلى 62% من أصوات الناخبين مقابل 38 إلى 41 لمرشحة “الجبهة الوطنية” مارين لوبان، وبالتالي حظوظه في الفوز عالية جداً، خاصة مع وجود استطلاع رأي يشير إلى ان 40% من اليسار مؤيدي ميلينشون سوف يصوتون لصالح ماكرون، ولكن قد تنهار خلال الساعات القادمة في حال حدوث هجمات إرهابية جديدة على فرنسا، بما يُحدث تحول وتوجيه جزء من ناخبي اليمين تجاه لوبان، أو في حال تصويت اليسار المتطرف للوبان.

ثالثاً: التداعيات.

تداعيات فوز لوبان

تتبنى لوبان مجموعة من المبادئ  تتعارض مع الغرب بشكل عام، فتنكر التكامل والتسامح، القانون الدولي، وتسعى لإخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي وإغلاق الحدود لمنع دخول اللاجئين، وتتوافق مع رؤية روسيا فيما يتعلق شبه جزيرة القرم، قانوني، وفي حالى فوزها لن تدمر فرنسا فحسب، وإنما الاتحاد الأوروبي بالكامل، فسياساتها لا تستهدف فقط النظام الجمهوري (بمعناه الفرنسي)، بل أوروبا بأسرها،

أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شكلت تجربة ذات ملامح فريدة في إطار ظهر رسميا عام 1952، وتطور بمرور السنين، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، ونجح ذلك الإطار في دفع 28 دولة تخلت عن أجزاء كبيرة من سيادتها والإنضواء تحت جناحي “اتحاد”، له صلاحيات واسعة، وحدود مفتوحة، وعملة مشتركة، ومع فوز لوبان قد ينهار هذا الإطار كلياً على اعتبار أن فرنسا والمانيا رأس القاطرة في تشكبل الاتحاد الأوروبي، لقد ترك خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي أثر محدود وشكل خروج بريطانيا حدثا زلزاليا لكنه لم ينهِ الاتحاد الأوروبي، لكن خروج فرنسا في حال حدوثه سيكون أمرا كارثيا.

تداعيات فوز ماكرون

في حال فاز ماكرون، سوف يدعم قيم مثل التسامح الديني، والمشاركة الفرنسية في المؤسسات الغربية مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، وهذا سوف يخفف بشكل مثير حالة الخوف السائد في الداخل والخارج، لكنه ماكرون يواجه تحديات كبرى، يجب أن يتعامل معها، كالهجرة والارهاب، والبطالة، والتي تشكل المحركات الرئيسية لليمين المتطرف، وبالتالي فإن فوز ماكرون سيمنح الاتحاد الأوروبي فرصة جديدة للبقاء على قيد الحياة.

تجربة الاتحاد الأوروبي على المحك ورهن الانتخابات الفرنسية، فإما ان ينهار أو ينهض من جديد، خيار الفرنسيين ليس بين برنامجين مختلفين أو اثنين من الشخصيات السياسية المختلفة، خيار الفرنسيين بين طريقين مختلفين لفرنسا “، وبالتالي الفرنسيين بصدد اتخاذ قرار أخلاقي واضح، بالاختيار بين قيم الجمهورية وبين من يخططون لانهاء تجربة الوحدة.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية