ماكرون رئيسا: فرنسا تعيد تصويب التاريخ!

ماكرون رئيسا: فرنسا تعيد تصويب التاريخ!


اجتازت فرنسا امتحانا صعبا حبس أنفاسا في داخل البلد كما في المحيط الأوروبي الكبير. فاز إيمانويل ماكرون في انتخابات الأحد بنسبة مريحة وصلت إلى حوالي 66.10 بالمئة، وسيدخل خلال أسبوع قصر الإليزيه كرئيس للجمهورية الفرنسية.

ومهما قيل في الأشهر الأخيرة التي حملت ماكرون لنهائيات السباق في الدورة الأولى، ومهما كثرت التحليلات حول شكل الحملة الانتخابية ومضمونها بينه وبين منافسته مارين لوبان، فإن الرئيس المنتخب يمثّل المفاجأة الكبرى لهذه الانتخابات من ألفها إلى يائها.

كشفت الأحزاب الفرنسية التقليدية الكبرى عن مرشحيها في الأشهر الستة الأخيرة التي سبقت الانتخابات. وحدها مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، كانت تعدّ لحملتها منذ خمسة أعوام. لم تلحظها انتخابات عام 2012، ولم تكن تعوّل عليها كثيرا، لكنها مذاك أضحت وجها مسترئسا يعمل كل يوم من أجل اللحظة الرئاسية في مايو 2017.

ولا عجب في ذلك من أن يتراجع مرشحا حزب “الجمهوريون الديغولي” و”الحزب الاشتراكي”، اللذان اكتشف الفرنسيون ترشحهما حديثا (مقارنة بلوبان)، فخرج الحزبان العريقان من السباق مقابل تقدّم مريح وواثق وأكيد لابنة مؤسس الجبهة الوطنية جان ماري لوبان.

ماكرون يعيد فرنسا إلى العالم. يتنفس الأوروبيون الصعداء، فاحتمال لوبان رئيسة كان يعني انتهاء المشروع الأوروبي برمته
لم يكن مفاجئا أن تتقدم مارين لوبان السباق، لكن المفاجأة التي تليق حكايتها بالروايات الكبرى تتمثل في ظاهرة إيمانويل ماكرون التي مازالت عصيّة على افتاء الخبراء وكبار المتخصصين بجمهورية فرنسا الخامسة.

والحال أن مفارق التاريخ تحتاج إلى ردود غير رتيبة لا تقلب الثوابت لكنها تعيد ترتيب قواعد الحكم والحوكمة في البلاد. وعليه يمثّل ماكرون هذا الخليط بين التمرد على السائد الذي يحكم فرنسا وفق دستور عام 1958، والتوق إلى منع البلد من الخروج عن قواعد قيمه المتوارثة من روح الثورة الفرنسية عام 1789.

حسابات الرئاسة

ينتخب الفرنسيون رئيسهم مباشرة بالاقتراع الشعبي العام منذ عام 1962. ولحسابات الرئاسة معايير وقواعد تتعلق بشخص المرشح وطباعه ومهاراته وسمعته ومواهبه بغض النظر عن انتماءاته الحزبية والأيديولوجية.

أبعد الفرنسيون شارل ديغول عن الحكم عام 1946، أي بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين لم يوافقوا على التخلي عن نظامهم البرلماني ثم أعادوه رئيسا لجمهوريتهم الخامسة ليعودوا ليلفظوه بعد ثورة عام 1968.

وتدلل الفرنسيون كثيرا للقبول بفرنسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، رئيسا، لكنهم أعادوا، حين تهاوت بدائل اليمين، وحملوه رئيسا لفرنسا عام 1981، ولمدة 14 عاما. وفي حالتي ديغول وميتران، انتخب الفرنسيون كاريزما الزعامة دون كثير تأثّر بيمينية هذا ويسارية ذاك.

هوت مارين لوبان نهائيا منذ المناظرة التلفزيونية الأربعاء الماضي. خاضت مرشحة اليمين المتطرف حملة لافتة وبإيقاع مدهش على مدى الشهور الماضية، ثم برعت في الأسبوع الأول الذي تلا الدورة الأولى للانتخابات في 23 أبريل الماضي. لكن بدا أن إعياء في الأسبوع الثاني أوهن ما تعملق وأن لوبان تنكشف يوما بعد آخر وأنها ليست جاهزة، وربما لن تكون أبدا، لرئاسة دولة كبرى مثل فرنسا.

أظهرت لوبان في المناظرة الأخيرة ركاكة حججها وصبيانية سلوكها. أظهرت جهلها للملفات وشعبوية وصفاتها وميلها للسخرية والتهكم درءا لجفاف معرفي ومواراة لغياب قواعد العقل مقابل النفخ بالغرائز.

سقطت لوبان مذاك، حتى في نظر مؤيديها ولدى ناخبيها، وحتى والدها، وبدا أن ايمانويل ماكرون أطاح بها بالضربة القاضية.

فرنسا التعددية تفوز
خسرت لوبان، لكنها حصلت على 33.94 بالمئة من أصوات الناخبين. يقدّر عدد ناخبيها بحوالي 11 مليونا، فيما صوّت حوالي 5 ملايين لوالدها عام 2002.

ستبني لوبان على الشيء مقتضاه محاولة بإنجازها اختراق البرلمان المقبل. وأول هذا البناء هو التخلي عن حزب الجبهة الوطنية، من “أجل تشكيل سياسي آخر”، بالتالي التخلي عن هذا الميراث المشين الذي تحمّله، لا شك، مسؤولية إخفاقها.

لم تكن مارين لوبان تبالغ في أحلامها حين كانت ترى أن أبواب الإليزيه قادمة إليها. قبل حوالي العام (23 يونيو الماضي) صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي. شكّل الأمر صدمة عالمية لم تتوقعها الاستطلاعات. نجحت الشعبوية البريطانية في رهانها فلماذا لا تراهن لوبان على شعبويتها؟

وقبل حوالي 6 أشهر (8 نوفمبر) انتخب الأميركيون دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. تقدم الرجل بخطاب شعبوي تقدمه أحزاب اليمين المتطرف الصغرى في أوروبا، فأطاح بكل مرشحي الحزب الجمهوري واحدا تلو آخر قبل أن يزيح مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ويفوز بعقد البيت الأبيض لأربع سنوات، فلماذا لا تراهن لوبان على ذلك؟

لكن شيئا ما خان مارين لوبان وقلب حساباتها. لم تخرج فرنسا ضد مارين كما خرجت ضد والدها عام 2002 محذرة من احتماله رئيسا. بدا أن فرنسا عام 2017 لا تشيطن يمينها المتطرف، وبدا أن حجج كثير من مرشحي اليمين كما اليسار تنهل من نصوص وخطب الجبهة الوطنية في مسائل الهجرة والإرهاب والإسلام والمسلمين.

وبدا أن احتمال فوزها برئاسة البلاد، بالنسبة للكثير من الفرنسيين، ليس كارثة أخلاقية ولن يكون نهاية الكون. ومع ذلك لم تستسغ فرنسا العميقة هذا الخيار فلفظته، وربما أخّرته إلى مواعيد لاحقة.

فشل لوبان

يحمل إيمانويل ماكرون لفرنسا زادا أخلاقيا غاب عن لغة السياسة منذ سنوات. وفد الرجل إلى كواليس الحكم من ميدان المصارف، لكن دراسته في الفلسفة حصّنت مواهبه الاقتصادية بخلفية فكرية تعيد للسياسة مادتها العقيدية وليس عدّتها الماركنتيلية.

فحين كان بإمكان ماكرون الغرف من العروض الرائجة للبريكست البريطاني ومواسم دونالد ترامب الأميركية، ذهب إلى برلين وأطل من داخل إحدى جامعات ألمانيا ليطلق رشقات مكثفة ضد الترامبية والانعزالية والأنانية والشعبوية والتطرف، وليعلن تمسكه بالمشروع الأوروبي وبإزالة الحواجز بين البشر، وراح بثبات يروّج لقيم لا تمس بالإسلام والمسلمين، وتعيد تخصيب الهجرة بجرعات أخلاقية غابت عن خرائط الأرقام والإحصاءات وجداول الربح والخسارة.

فشلت لوبان في مسعاها الرئاسي. كان انتخابها رئيسة لفرنسا سينعش كافة تيارات التطرف اليميني في أوروبا. كان سيعيد تعويم الشعبوية الأوروبية ليصبح هدف تدمير الاتحاد الأوروبي شاملا عابرا للحدود. وكانت دول الاتحاد ستعود لرفع حدودها وفرض تأشيراتها، وبالتالي سيعاد الاعتبار للعصبيات القومية بين الدول والعصبيات القومية، وربما الطائفية داخل هذه الدول. كان التاريخ سيعود إلى الوراء حين كانت القارة مسرحا لحروب لا تنتهي. فشلت لوبان وكأن قدرا أراد إعادة تصويب مسار التاريخ.

انتخاب رئيس شاب يحمل لفرنسا زادا أخلاقيا غاب عن لغة السياسة منذ سنوات، ودراسته في الفلسفة حصّنت مواهبه الاقتصادية بخلفية فكرية تعيد للسياسة مادتها العقيدية وليس عدّتها الماركنتيلية.
تسقط مارين لوبان، لكن ما حققته من أصوات يعتبر تاريخيا بالنسبة لحزب يميني متطرف. وتكمن جسامة الأمر في الحساسية الفرنسية المفرطة حيال كل ما يرتبط بإرث يستلهم النازية وخياراتها. فأن ينال حزب لوبان رضى ثلث الفرنسيين، فذلك مؤشر إلى تحوّلات مقلقة طرأت على المجتمع الفرنسي أبعدته عن قيم “فرنسا الحرة” التي بشّر بها الجنرال ديغول منذ ندائه الشهير من إذاعة لندن عام 1940، وأبعدته عن قيم اليسار، الشيوعي والاشتراكي، الذي خصّب الوعي الفرنسي بروحية ميّزت البلاد عن أمم غربية أخرى.

موعد تاريخي

نعم انتخابات الأحد تاريخية في جدلها ونتائجها. وأهمية ما سينتجه الحدث على راهن ومستقبل البلاد هي رهن إمكانية أن يستمر الرئيس إيمانويل ماكرون في إبهار الفرنسيين كما فعل حين كان مرشحا.

سيحتاج الرئيس الجديد إلى فريق عمل لحكم فرنسا يجمع بين القطيعة والوصل. القطيعة مع طبقة سياسية خيبت أمل الفرنسيين خلال العقود الماضية، والوصل مع كفاءات سياسية هي بالنهاية نتاج هذه الطبقة السياسية نفسها.

يتحرر الرئيس من براثن اليمين كما براثن اليسار. فالرجل بات رئيسا دون أحزابهم، وبالتالي فهو يملك أن يملي قواعده وشروطه وأسلوب عمله ومروحة خياراته. سيكون عليه خوض الانتخابات التشريعية المقبلة (11 و18 يونيو) لتوسيع شرعيته داخل البرلمان وفق خارطة لا تمثل انقلابا بقدر ما تمثل بداية ورشة إصلاحية كبرى لطالما وعد بها. وسيكون عليه أن يجد تحت قبّة البرلمان مكانا رحبا لتياره السياسي الفتيّ دون استدراج خصومة كل الطبقة السياسية التقليدية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها.

يعيد ماكرون فرنسا إلى العالم. يتنفس الأوروبيون الصعداء، فاحتمال لوبان رئيسة كان يعني انتهاء المشروع الأوروبي برمته. فأن تخرج فرنسا من الاتحاد، كما وعدت لوبان، كان سيؤدي إلى اندثار هذا الصرح الكبير. فإذا ما كانت الفكرة فرنسية ألمانية في جذورها وأصولها، فإن ألمانيا وحدها لن تتمكن من الدفاع عن هذا الحصن العريق.

أبعد الفرنسيون لوبان عن الإليزيه. امتعض فلاديمير بوتين في الكرملين. بيد أن الأمر أصبح لا يزعج دونالد ترامب في البيت الأبيض. سقطت لوبان حين أسقطت جدران البيت الأبيض الترامبية.

العرب اللندنية