اتفاق أستانة الثلاثي.. خلفياته وفرص نجاحه

اتفاق أستانة الثلاثي.. خلفياته وفرص نجاحه

توصلت الدول الراعية لمحادثات أستانة (روسيا وتركيا وإيران) في الرابع من أيار/ مايو الجاري في العاصمة الكازاخية إلى اتفاقٍ ينصّ على خفض التصعيد في أربع مناطق رئيسة في سورية، تشمل المناطق التي تشهد مواجهاتٍ بين النظام السوري وحلفائه من جهة، وفصائل المعارضة المسلحة من جهة أخرى، في أجزاء من ثماني محافظات على امتداد الشريط الغربي من البلاد، الممتد من حلب شمالًا إلى درعا في الجنوب. ويهدف الاتفاق، كما جاء في نصه، إلى وضع نهايةٍ للعنف في هذه المناطق، وإدخال المساعدات إليها من دون عوائق، وخلق ظروفٍ مواتيةٍ لتحقيق تقدّم باتجاه حل الأزمة سياسيًا، وليبدأ سريان الاتفاق، اعتبارًا من منتصف ليل السادس من أيار/ مايو ستة أشهر قابلة للتجديد بموافقة الدول الضامنة. وكان الاتفاق قد ظهر، بملامحه الأولى، عشية القمة التي جمعت الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في منتجع سوتشي على البحر الأسود، قبل يوم من انطلاق محادثات “أستانة 4″، إذ طرح بوتين مبادرةً، قال إنها تهدف إلى تخفيف حدة القتال في سورية، ووافق عليها أردوغان، قبل أن تُطرح على الأطراف المشاركة في محادثات أستانة لاعتمادها. فما هي حظوظ نجاح هذا الاتفاق؟ وما الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه؟

أبرز بنود الاتفاق
نص الاتفاق الذي توصلت إليه الدول الراعية الثلاث لمحادثات أستانة على عددٍ من البنود، أهمها:
1. إنشاء أربع مناطق للتهدئة أو خفض التصعيد، وتشمل: كامل محافظة إدلب، وأجزاء من محافظات اللاذقية وحماة وحلب. أجزاء من ريف محافظة حمص الشمالي. الغوطة الشرقية. أجزاء من محافظتي درعا والقنيطرة.
2. يتم وقف استخدام كل أنواع الأسلحة، بما فيها سلاح الطيران، ضمن مناطق خفض التصعيد، وتأمين دخول آمن وسريع للمساعدات الإنسانية، ومن دون عوائق، إلى هذه المناطق، وتوفير ظروف مناسبة لعودة آمنة وطوعية للاجئين والنازحين.
3. إنشاء مناطق آمنة ضمن مناطق خفض التصعيد لمنع نشوب أية حوادث ومواجهات عسكرية بين الأطراف المتنازعة.
4. تشمل المناطق الآمنة إنشاء نقاط تفتيشٍ لضمان التنقل للمدنيين غير المسلحين من دون

عوائق، وإيصال المساعدات الإنسانية، وتسهيل الأنشطة الاقتصادية، وإنشاء نقاط مراقبة لضمان الالتزام ببنود اتفاق وقف إطلاق النار. ويتم تحديد مهمات وعمليات نقاط التفتيش ونقاط المراقبة وإدارة المناطق الآمنة من طرف قوات الدول الضامنة، وفق الاتفاق بينها. ويمكن مشاركة طرف إضافيٍّ عند الضرورة بموافقة الضامنين.
5. يتخذ الضامنون الإجراءات اللازمة لمتابعة القتال ضد “داعش”، وجبهة النصرة، وجميع الأفراد والمجموعات والكيانات الأخرى المرتبطة بالقاعدة أو “داعش”، كما حدّدها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضمن مناطق وقف التصعيد وخارجها.
6. يؤلف الضامنون، خلال أسبوعين من توقيع الاتفاق، مجموعة عملٍ مشتركة لخفض التصعيد، مكونة من ممثلين مفوضين لترسيم حدود مناطق خفض التصعيد والمناطق الآمنة، وتسوية المشكلات العملية والفنية المتعلقة بتنفيذ الاتفاق.
7. تتخذ الدول الضامنة الخطوات اللازمة، بحيث تنجز خرائط مناطق خفض التصعيد والمناطق الآمنة وخطوط فصل مجموعات المعارضة المسلحة عن المجموعات الإرهابية المذكورة في الفقرة رقم 5 من الاتفاق، حتى يوم 4 حزيران/ يونيو 2017.

سياق الاتفاق
جاء اتفاق أستانة بعد أن فشلت الجهود التركية – الروسية السابقة في إدامة وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه روسيا وفصائل من المعارضة السورية المسلحة، بوساطة تركية في أنقرة، يوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 2016. وسعت موسكو، من خلال هذا الاتفاق، إلى إطلاق مسار سياسي في أستانة، يهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار في 24 كانون الثاني/ يناير 2017 خطوةً على طريق فرض رؤيتها للحل في سورية. لكن الخروق الكبيرة لقوات النظام وحلفائه من المليشيات المدعومة إيرانيًا، وخصوصًا في محيط مدينة دمشق (تحديدا في وادي بردى والغوطة الشرقية)، أدت إلى تداعي الاتفاق، وصولًا إلى انهياره بصورة كاملة تقريبًا، فقد عادت المشاركة الروسية القوية إلى جانب النظام، لصد هجوم كبير قادته قوات المعارضة على أطراف دمشق الشرقية، وفي ريف حماة الشمالي، منتصف آذار/ مارس الماضي، ردًا على استخدام النظام وحلفائه اتفاق وقف إطلاق النار غطاءً للاستمرار في عملية حسم الصراع عسكريًا.
وفي الرابع من نيسان/ أبريل الماضي، وردًا على الهجوم الكبير الذي نفّذته المعارضة في

أرياف حماة الشمالية، استهدفت قوات النظام بلدة خان شيخون التي تسيطر عليها المعارضة في ريف إدلب الجنوبي بالسلاح الكيماوي؛ ما أدى إلى مقتل عشراتٍ من المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة نحو 400 شخص ممن وجدوا في مجال الهواء الملوّث بالغاز السام. وخلافًا لموقف إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، المتردّد في قضية معاقبة النظام السوري على استهدافه غوطتي دمشق بالسلاح الكيماوي (آب/ أغسطس 2013)، سارعت إدارة الرئيس دونالد ترامب، ولأول مرة منذ اندلاع الأزمة في سورية، إلى استهداف قاعدة الشعيرات الجوية في ريف حمص التي انطلقت منها الغارة على خان شيخون، وذلك بصواريخ من طراز “توماهوك” رد فعل عقابي على انتهاك النظام السوري قرار مجلس الأمن رقم 2118. ومع أن الرد الأميركي جاء زجْريًا محدود النطاق، أثارت هذه الخطوة مخاوف روسيا من تغيّرٍ في السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية، أو عودة الانخراط الأميركي بقوة في الأزمة السورية، على الأقل، بعد أن نأت واشنطن بنفسها عنها طوال عهد الإدارة السابقة، تاركة لروسيا مطلق الحرية في تحديد مسارات الصراع السوري ميدانيًا وسياسيًا.
عادت إدارة الرئيس ترامب، فور تسلمها السلطة، إلى طرح فكرة إقامة مناطق آمنة في سورية، من منطلق أنّ ذلك يمثّل حلًا لقضية اللاجئين، وهو أمرٌ كانت ترفضه إدارة أوباما باستمرار، بحجة أنه قد يجرّ الولايات المتحدة إلى التدخل عسكريًا ضد النظام. وقد طلب ترامب من وزارتي الدفاع والخارجية وضع خطةٍ لإنشاء مناطق آمنة داخل سورية في غضون 90 يومًا. ولم يُخفِ الروس استياءهم من هذا الطرح الذي جاء بمنزلة تشويشٍ على جهدهم، فقد ظهروا في أستانة مستفردين بوضع أُسس الحل السوري، بمساعدة تركيا التي تولّت الضغط على المعارضة لحضور المحادثات. ويبدو أن روسيا، بطرحها مبادرة إقامة مناطق خفض التصعيد، تحاول قطع الطريق على أي تحرّكٍ من إدارة ترامب لإقامة مثل هذه المناطق، أو أخذ الحل بعيدًا عن رؤيتها له، بعد أن اعتادت على اعتباره حقًا حصريًا.

الأهداف الروسية من الاتفاق
ثمة هدفان رئيسان تسعى روسيا إلى تحقيقهما من اتفاق مناطق خفض التصعيد، هما:
1. إعطاء الانطباع بوجود عمليةٍ سياسيةٍ جاريةٍ تقودها موسكو؛ بهدف إجهاض أي محاولة لفكّ قبضتها على الملف السوري سياسيًا وميدانيًا، من جهة، بينما يستمر تحالف النظام وإيران وروسيا في محاولة ضرب المعارضة على الأرض من جهة أخرى، وخصوصا أن الاتفاق يدعو، في الفقرة الخامسة منه، إلى الاستمرار في مواجهة تنظيمي “داعش” وجبهة النصرة في مناطق خفض التصعيد، والتي طالما اتخذتها روسيا وحلفاؤها ذريعةً لاستمرار استهداف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، حتى إخراجها منها، كما حصل في وادي بردى واتفاق المدن الأربع، وكما يحصل حاليًا في منطقتي برزة والقابون من ضواحي دمشق. لقد استُخدمت الاتفاقيات الثلاثية التي لم تُشرك فيها أطراف الصراع السورية التي حضرت أستانة في عزل مناطق للمعارضة وتصفيتها حتى التوصل إلى اتفاقٍ آخر تُعزل فيه مناطق أخرى.
2. قطع الطريق على أي تغيير في السياسة الأميركية نحو الأزمة السورية، وخصوصا بعد أن أبدت واشنطن استعدادها لاستخدام القوة ضد النظام السوري، بعد استهدافه خان شيخون بالسلاح الكيماوي، بدليل أن موسكو سعت إلى إلزام واشنطن بالاتفاق، فقد دعا المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، الولايات المتحدة إلى دعم الاتفاق، والالتزام بعدم التحليق فوق مناطق خفض التصعيد. وقد اكتمل المسعى الروسي بالتوجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارٍ يدعم الاتفاق بهذا المعنى، وذلك لتكريس شرعيته دوليًا، وتكريس مسار أستانة بين روسيا وتركيا وسورية.

ردات الفعل
بينما رحّب بشار الجعفري، رئيس وفد النظام السوري في اجتماع “أستانة 4″، بالاتفاق،

معتبرًا أنه يساعد على فتح الباب للحل السياسي للأزمة السورية، رفض وزير الخارجية، وليد المعلم، أي دور للأمم المتحدة في مراقبة مناطق خفض التصعيد؛ فقد قال في مؤتمر صحافي في دمشق “لا نقبل بدور للأمم المتحدة، ولا لقواتٍ دوليةٍ في مراقبة حسن تنفيذ المذكرة… الضامن الروسي أوضح أنه سيكون هناك نشر لقوات شرطة عسكرية ومراكز مراقبة في هذه المناطق” من الدول الضامنة. أما المعارضة فقد انقسمت حول تقييم الاتفاق؛ ففي حين انسحب جزءٌ من وفدها في محادثات أستانة من الاجتماع الختامي، احتجاجًا على اعتبار إيران ضامنًا للاتفاق، بينما تعد خصمًا للشعب السوري، وتشرف على عملية قتل السوريين واقتلاعهم وتهجيرهم، اعتبر يحيى العريضي، المتحدّث باسم وفد المعارضة إلى أستانة، أن مسألة مناطق خفض التصعيد تساهم في منع عمليات القصف بالطيران والبراميل المتفجّرة على رؤوس المدنيين، كما أكد أن من شأن الاتفاق على هذه المناطق أن يمهّد إلى الحل السياسي الشامل، والذي يتضمّن عملية انتقالٍ للسلطة، رافضًا الاتهامات التي اعتبرت أن الاتفاق يساعد على تثبيت النظام السوري. وأبدى جزءٌ ثالث من المعارضة تخوفًا من أن يكون الاتفاق مقدمة لتقسيم البلاد.
أما المواقف الدولية، فقد كان تركيز موسكو على الموقف الأميركي الذي لم يحدّد حتى الآن، ففي حين أعربت وزارة الخارجية الأميركية عن قلقها من الدور الإيراني في الاتفاق، قالت وزارة الدفاع الأميركية إنها تدرس بعناية المقترح الروسي إلى إنشاء مناطق لخفض التصعيد، لتقدير ما إن كان تطبيقه ممكنًا، علمًا أن وزارة الدفاع (البنتاغون) كانت قد رفض أن يحدّ الاتفاق من حرية حركة سلاح الجو الأميركي فوق سورية.

خاتمة
مع أن روسيا تأمل من هذا الاتفاق أن تستمر في قيادة الجهود السياسية في سورية، فإنها قد تكون معنيةً هذه المرة باحترامه، تجنبًا لتدهورٍ قد يؤدي إلى تدخلٍ أميركي جديد. ومع ذلك، لا تبدو فرص نجاح التهدئة أفضل مما كانت عليه سابقًا؛ فكل العوامل التي أدّت إلى فشل الاتفاقات السابقة، لا تزال قائمة؛ إذ ما زال جزءٌ من معسكر حلفاء النظام يؤمن بإمكانية الانتصار عسكريًا، ويتخذ من الاتفاقات المتكرّرة غطاءً لتحقيق هذا الهدف، عبر قضم مناطق أكثر، وتفريغها من سكانها وتجميع المعارضين في إدلب، أملًا بتصفيتهم في مرحلةٍ لاحقة. ويزداد أمل النظام وحلفائه في تحقيق انتصارٍ، لأنّ مثل هذه الاتفاقات غالبًا ما أدت إلى مزيدٍ من الصراعات والانقسامات داخل صفوف المعارضة المسلحة. أخيرًا، يبقى الموقف الأميركي الأكثر أهميةً في تقرير مصير الاتفاق ومساره، خصوصًا في ضوء عودة الولايات المتحدة إلى الساحة السورية، ورغبتها المعلنة في احتواء التمدّد الإيراني في المنطقة، انطلاقًا من سورية.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات