لست واثقا ولا متفائلا بشأن القضية الفلسطينية

لست واثقا ولا متفائلا بشأن القضية الفلسطينية

خلال وقت مربك وغير مستقر، جاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وكما كان واقع الحال في معظم القضايا، كان ترامب غير قابل للتنبؤ به بطريقة مدهشة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع قضايا الشرق الأوسط. وخلال حملته للوصول إلى البيت الأبيض، لم يقتصر الأمر على خلو برنامج حزبه من أي ذكر لـ”حل الدولتين” للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وإنما أدان هو نفسه الرئيس أوباما بسبب تخليه عن إسرائيل في الأمم المتحدة، ووعد بأن يكون “أكثر رئيس دعماً لإسرائيل على الإطلاق”. كما أنه التزم بأن يقوم بنقل السفارة الأميركية فوراً من تل أبيب إلى القدس، وأن لا يمارس أي ضغط على إسرائيل لوقف التوسع الاستيطاني. وبعد أن فاز بالرئاسة، قام ترامب بتعيين ثلاثة من أقرب مستشاريه: ديفيد فريدمان، وهو متشدد بروابط عميقة مع حركة المستوطنين في الضفة الغربية، وجيسون غرينبلات، وصهره جاريد كوشنر، ليكونوا مبعوثيه للتعامل مع موضوعات المنطقة المليئة بالنزاعات.
في وقت أحدث، أصبح ترامب يرسل إشارات أخرى، مختلفة بعض الشيء. وعلى سبيل المثال، خلال وفي أعقاب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبعد عودة غرينبلات وكوشنر من جولاتهما الأولى في منطقة الشرق الأوسط، شرع البيت الأبيض في غناء ما بدا أنه لحن آخر. ويتحدث الرئيس الآن بثقة عن طموحه إلى صنع “صفقة كبرى” يكون من شأنها جلب السلام إلى المنطقة. ولم يتم عرض أي تفصيلات عن هذه الخطة، ولكن، كما كان الحال مع الكثير من تعهدات ترامب، قيل لنا أن نثق به حين يقول إن “ذلك سوف يحدث” و”سوف يكون عظيماً”.
في حين لم يتم الكشف عن عناصر خطة ترامب حتى الآن، فإنها تتضمن على ما يبدو إعادة استئناف محادثات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية، مصحوبة بجهود لتحقيق درجة ما من التعاون الإقليمي بين إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة من العرب.
أفضت ثقة ترامب الجريئة والصاخبة، والتغيير الواضح في لهجته، وشخصيته المتقلبة، أفضت كلها إلى وضع القادة الفلسطينيين في وضع حرج. وأصبحوا معلقين على حبل مشدود، ويحتاجون بشدة إلى دعم الولايات المتحدة لهم، سياسياً ومالياً على حد سواء. وربما  يكونون قلقين أو غير واضحي الرؤية إزاء وجهات نظر الرئيس والمرتبطين به، لكنهم يخشون –بالنظر إلى ضعفهم- من إثارة نفوره. وفي مواجهة هذه الحقائق المريبة، حاول عباس تحقيق أفضل ما يمكن من وضع صعب، عن طريق الظهور بأنه يستعير صفحة من كتاب ترامب الإرشادي نفسه –اللعب على الأنا المتضحمة للرئيس بواسطة التعبير عن الثقة في قدراته ووصف رئاسته بأنها “فرصة تاريخية” لجعل السلام حقيقة.
لكن المعضلة الفلسطينية حقيقية جداً. ففي المقام الأول، يخلق رفض ترامب الالتزام بإقامة دولة فلسطينية وافتقاره إلى الوضوح مشكلة، بما أن الفلسطينيين لا يعرفون ما هو المطلوب منهم وما الذي يُعرض عليهم. وهنا، لا تبدو الإشارات واعدة كثيراً.
لقد أعاد القادة العرب التأكيد مرة أخرى على التزامهم بمبادرة السلام العربية، التي تؤسس هدف تطبيع العلاقات مع إسرائيل فقط بعد انسحابها من الأراضي المحتلة في العام 1967، والتفاوض على حل عادل لقضية اللاجئين. لكن  الإسرائيليين رفضوا رفضاً قاطعاً مجرد النظر في الشروط الأساسية لمبادرة السلام العربية.
الحديث في واشنطن (وإسرائيل) هو أن ترامب سوف يحاول التعامل مع هذا الوضع الصعب عن طريق اقتراح مسارين متوازيين: واحد يتضمن استئناف المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية من دون شروط مسبقة، وآخر، يجمع إسرائيل والدول العربية لمناقشة مسألة التعاون الإقليمي. وإذا حدث ذلك فعلياً، فإنه ينصب فخاً خطيراً لكل من الفلسطينيين والدول العربية. ربما تريد الولايات المتحدة وإسرائيل مظهر “عملية سلام” لتوفير غطاء لتعاون عربي-إسرائيلي لمحاربة التطرف وإيران. لكن الخطر على الفلسطينيين واضح. لقد ساروا على هذا الطريق من قبل –في عملية لا تنتهي وبلا أي نتيجة. كما أن الخطر على العرب واضح أيضاً. فحتى مظهر إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، على حساب الفلسطينيين، سوف يؤدي فقط إلى تعزيز مواقف المتطرفين، بينما ينتج في الوقت نفسه هدية دعائية للإيرانيين.
بما أن كلاً من الفلسطينيين والعرب يعرفون جيداً هذه المخاطر، فإن اقتراحاً يقلب مبادرة السلام العربية على رأسها، لن يكون بداية مناسبة.
في الأثناء، كانت المراكز الفكرية المختلفة والمتنوعة في واشنطن، والتي تشغلها الآن مجموعة من مفاوضي الشرق الأوسط الأميركيين السابقين الفاشلين، عاكفة على تقديم المشورة لإدارة ترامب، موضحين أنهم تعلموا القليل جداً من تجاربهم. فهم مايزالون يقترحون إحداث تحسينات طفيفة في “نوعية حياة” الفلسطينيين، ويضعون على عاتق السلطة الفلسطينية ضرورة أن يتخلى قادتها عن “مطالبهم غير الواقعية” بخصوص المستوطنات، والقدس، واللاجئين، كل ذلك بينما يتظاهرون بأن الدول العربية يمكن أن تخطو فوق الفلسطينيين وتتجاوزهم في طريقها نحو إقامة علاقات مع إسرائيل من أجل تأسيس جبهة موحدة ضد إيران والتطرفية. ولم يكن أي من هذا قد عمل في الماضي، كما أنه لن يعمل اليوم أيضاً.
من جانبها، واصلت إسرائيل –على الرغم من بعض المقاومة البسيطة من الإدارة فيما يتعلق بسياساتها الاستيطانية- المسير في طريقها المستفز، معلنة عن إقامة مشروعات بناء جديدة هائلة في الضفة الغربية والقدس، إلى جانب الاستمرار في هدم منازل الفلسطينيين وعمليات التطهير العرقي للمجتمعات البدوية الفلسطينية، من أجل تمهيد الطريق للمزيد من التوسع الاستيطاني.
من الواضح أنه لو كان ترامب جاداً بأي مقدار إزاء كبح جماح التصرفات الإسرائيلية (وليس هناك دليل على أنه كذلك)، فسيكون عليه أن يتحول من اللهجة الاعتذارية إلى الفرقعة بالسوط. لكن ذلك لن يحدث بما أن الكونغرس يحتفظ بدور حاسم  ليلعبه في تخفيف أي شيء قد يرغب أي رئيس في فعله.
يدفع الكونغرس بقوة في اتجاه معاقبة أي وكل جهود أميركية أو دولية لمعارضة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. وقد حث الكونغرس الرئيس على الطلب من السلطة الفلسطينية حجب الأموال التي تُدفع لعائلات الأسرى، أو مواجهة خفض في الدعم المالي الأميركي. وهو يهدد بتخفيضات عقابية في تمويل الأمم المتحدة والوكالات الأخرى التي تعارض الاحتلال وتعترف بالمطالب الفلسطينية –وبذلك يهدد المكاسب القليلة التي كسبتها المبادرات الدبلوماسية الفلسطينية.
يحتاج أولئك الذين يعتقدون أن الرئيس يمكن أن يسيطر على الكونغرس فقط إلى النظر في عجزه عن تمرير أجندته من حشد الكونغرس. وسوف تقابَل أي محاولة لجعل موقفه أشد مع الإسرائيليين بتحالف في الكونغرس، والذي سيعرقل أي جهد من هذا القبيل.
وهكذا، بينما أتفهم حقيقة أن عباس ليس في حاجة إلى تنفير الرئيس الأميركي، فإنني لست واثقاً ولا متفائلاً بأنه سيرى أي تحرك حقيقي في اتجاه تحقيق سلام عادل.
قبل عقود من الزمن، عندما كنت في بداية عملي، تعلمت درساً من المعلم، إبراهيم أبو لغد. وقد علمني أن لا أولي انتباهاً إلى تدفقات الأخبار اليومية. وسيعني مثل هذا الانتباه، كما حذر أبو لغد، إلى خلق حس تفاؤلي غير حكيم أو يأس غير مبرر. وبدلاً من ذلك، نصحني بأن أركز على التيارات العميقة التي تحدد المشهد السياسي. ولا تشير هذه التيارات في الوقت الحالي إلى اتجاه واعد.

جيمس زغبي

صحيفة الغد