الوحدة اليمنية.. من مشروع وطني إلى صراع على ‘غنيمة الجنوب’

الوحدة اليمنية.. من مشروع وطني إلى صراع على ‘غنيمة الجنوب’

في مارس 2015، اجتاح مسلحو جماعة أنصار الله (الحوثيين) والرئيس السابق، علي عبدالله صالح، المتهمين بتلقي دعم عسكري إيراني، مدن جنوب اليمن، قبل دحرهم منها بعد أشهر من قبل القوات الحكومية والمقاومة الشعبية، مدعومة، منذ ذلك الشهر، بتحالف عربي تقوده الجارة السعودية.

لم يفاقم هذا الاجتياح وما خلفه من تداعيات فقط من حالة الاحتقان في الشارع الجنوبي تجاه الوحدة مع شمال اليمن، الذي ينظر الجنوبيون إلى الحكام القادمين منه على أنهم “مجرد ناهبين من أراضي الجنوب”، بل ذكرهم أيضا بتفاصيل ما حدث في التسعينات من القرن الماضي عندما دمر تحالف علي عبدالله صالح والإخوان حلم الوحدة، مثلما يدمر اليوم تحالف الحوثي- صالح كل البلاد.

قبل أن يجفّ حبر التوقيع على إعلان الوحدة في اليمن في مايو 1990 كانت ملامح تحالف جديد بين علي عبدالله صالح والإخوان المسلمين قد بدأت تتشكل للانقلاب على شركاء الوحدة في الحزب الاشتراكي اليمني.

أوعز عبدالله صالح لشيخ قبيلة حاشد للبدء بتأسيس ما سمي لاحقا “التجمع اليمني للإصلاح” والذي جمع بين مكوّنات إسلامية وقبلية شتى اجتمعت حول فكر جماعة الإخوان المسلمين.

وكشف الشيخ عبدالله الأحمر في مذكراته، لاحقا، تفاصيل هذا التآمر على الوحدة الذي كان الإخوان واجهته الأساسية والذي من خلاله تم بث الرسائل السلبية ضد الجنوبيين والإساءة للوحدة اليمنية.

أراد علي عبدالله صالح، كما يقول الشيخ الأحمر، الذي ترأس حزب الإصلاح بعد تأسيسه مباشرة، أن يتولى الإسلاميون مهمة إضعاف الحزب الاشتراكي واختراق معاقله في جنوب اليمن في سيناريو شبيه بالدور الذي لعبته حركة الإخوان المسلمين في سبعينات القرن الماضي حيث انخرطت في حرب شرسة ضد ما كان يطلق عليها جبهة التحرير في المناطق الوسطى، وهو الدور الذي استمرت الجماعة تقوم به منذ ذلك الحين كمخلب قط للانقضاض على خصوم عبدالله صالح ومناوئيه.

بواكير اغتيال الوحدة

حمل المسؤولون الجنوبيون حلم الوحدة معهم إلى عاصمة الدولة الموحدة صنعاء؛ وتركوا خلفهم إرث دولة كانت مستقلة، غير مدركين ما كان يحضّر لهم في الجلسات المغلقة بين علي عبدالله صالح وحلفائه من حركة الإخوان التي بدأت من خلال جناحها المكون من القادمين من أفغانستان في رسم خطة للبدء بتصفية الكوادر الجنوبية.

يتابع الجنوبيون اليوم ما يجري في محافظاتهم وفي عموم بلادهم على أيدي جماعة أنصار الله الحوثية وقوات علي عبدالله صالح، وهم يستحضرون تاريخا من الاغتيالات والأحداث الدامية.

اتضحت ملامح الحلف القائم بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزب الإصلاح وأهدافه، وكان القاسم المشترك هو إجهاض الوحدة

في العام 1991، انطلقت حملة واسعة لاغتيال الجنوبيين في شوارع صنعاء من خلال سيارات مجهولة، لكنها كانت تخرج من مكان معروف في أحد معسكرات العاصمة يهيمن عليها عناصر “الأفغان اليمنيين” الذين تم استقطابهم في مؤسسات الجيش والأمن قبل ذلك بفترة وجيزة.

طالت تلك الحملة العشرات من كوادر الحزب الاشتراكي وقيادات الدولة الجنوبية. ومن أبرز الضحايا حسن الحريبي الذي قتل في سبتمبر 1991 وجرح معه أحد أبرز المنادين بقيام الوحدة، وهو رئيس حزب التجمع الوحدوي اليمني، عمر الجاوي، في رسالة ربما تكون غير مقصودة ولكنها ذات دلالة أن الوحدة هي المستهدف من هذا السيناريو المريع.

استمرت حملة اغتيال الوحدة من خلال تصفية شركائها بعد ذلك ليذهب العشرات من كوادر الحزب الاشتراكي ضحية للجرائم التي كانت تقيد ضد فاعل معلوم.

وتصاعدت وتيرة الاغتيالات لتصل إلى مستويات أعلى مع تزايد الجرأة لدى الفاعلين. ففي أبريل 1992 نجا وزير العدل الجنوبي عبدالواسع سلام من محاولة اغتيال، وبعد ذلك بأيام قليلة انفجرت قنبلة في منزل سالم صالح محمد، عضو مجلس الرئاسة نائب رئيس الحزب الاشتراكي، وفي يونيو من نفس العام تم اغتيال شقيق رئيس وزراء دولة الوحدة المهندس حيدر أبوبكر العطاس في الشحر بحضرموت.

وتعرض منزل رئيس مجلس النواب ياسين سعيد نعمان في صنعاء لهجوم بقنبلة، وفي حادثة رمزية أخرى قامت سيارات الموت باغتيال مستشار وزير الدفاع وعضو اللجنة المركزية في الحزب الاشتراكي اليمني ماجد مرشد سيف.

واستمرت عمليات الاغتيال بشكل ممنهج من خلال العناصر الإسلامية التي استعان بها علي عبدالله صالح مستغلا منهجها الفكري الذي كان ينظر للجنوبيين كماركسيين وشيوعيين يجوز قتلهم.

وهاجم ملثمون القيادي الاشتراكي البارز وعضو المكتب السياسي للحزب أنيس حسن يحيى في يوليو 1992. وتم استهداف منزل رئيس مجلس النواب ياسين سعيد نعمان بهجوم صاروخي في أغسطس قبل أن يعاود المهاجمون الكرة في الشهر التالي من خلال زرع قنبلة موقوتة.

وفي أبريل 1993، واصلت وتيرة الاغتيالات الصعود باتجاه مستويات سياسية وحكومية أرفع، حيث ألقيت قنبلة على منزل رئيس حزب رابطة أبناء الجنوب عبدالرحمن الجفري في شهر أبريل.

ولم تعد صنعاء هي منطقة الاستهداف الوحيدة حيث تم تحريك كوادر متشددة للقيام بعمليات أخرى في مدينة عدن أسفر عنها مقتل ابن اخت نائب الرئيس علي سالم البيض خارج منزله في عدن، ونجاة اثنين من أولاد البيض. وفي نوفمبر قامت ثكنة تابعة للجيش المحسوب على الرئيس السابق علي عبدالله صالح بإطلاق النار باتجاه نجل نائب الرئيس علي سالم البيض.

وما بدا أنه اغتيالات الهدف منها تضييق الخناق على شركاء الوحدة تحوّل الأمر إلى فعل مباشرة، حيث منعت وحدة عسكرية متمركزة في مداخل العاصمة صنعاء في ديسمبر 1993 موكب رئيس الوزراء حيدر أبوبكر العطاس من دخول العاصمة قبل أن تسمح له لاحقا بالدخول عقب وساطات قبيلة.

اتضحت ملامح الحلف القائم بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزب الإصلاح وأهدافه، وكان القاسم المشترك هو إجهاض الوحدة وإفراغها من الداخل. وفي مقابل الخدمات التي كان الإخوان يقدمونها لعلي عبدالله صالح ورجال نظامه عمل عبدالله صالح على تمكين الحزب في الجنوب وتحوّل بواسطة منصبه كرئيس للدولة إلى حصان طروادة للجماعات الإسلامية المختلفة التي سعت إلى تغيير الهوية الثقافية المعتدلة للجنوب واستبدالها بأخرى أكثر تشددا.

ولعب حزب الإصلاح دورا مؤكدا في إفشال كل محاولة للاتفاق تظهر بين علي عبدالله صالح والقادة الجنوبيين، من ذلك إفشال الاتفاق السياسي الذي تم التوقيع عليه بين الطرفين برعاية ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال. لم يكد يجف حبر التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمان في 18 يناير 1994 حتى بدأت قوات علي عبدالله صالح وحلفائه من الإخوان هجومها على المعسكرات الجنوبية في شمال اليمن.

في ذلك الوقت، كانت الوحدة قد خسرت الكثير من رصيدها في الشارع الجنوبي بسبب العمليات العدائية التي أعقبت قيام الوحدة في مايو 1990، حيث تحول نقض الاتفاقات والطعن في خاصرة الوحدة إلى عمل عدائي منظم تجلى في أوضح صوره من خلال اجتياح المحافظات الجنوبية في حرب صيف 1994، بمشاركة قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح والآلاف من ميليشيات حزب الإصلاح التي أعلنت أنها تخوض حربا مقدسة لتحرير الجنوب من الماركسية، وهو ما كشفت عنه الكثير من الفتاوى المنسوبة إلى قيادات بارزة في حزب الإصلاح ذاته.

واليوم، تتعرض الوحدة إلى هزات جديدة، تجسدت في الشعارات التي حملها البعض من الجنوبيين بمناسبة الذكرى الـ27 لتوحيد اليمن. تظاهر الآلاف من أنصار انفصال جنوب اليمن في مدينة عدن. وتدفق المتظاهرون من محافظات جنوبية عدة مرددين هتافات “الاستقلال هدفنا”، ومعلنين تأييدهم لسلطة موازية أعلنها مؤخرا مسؤولون محليون لإدارة شؤون الجنوب.

فرصة ضائعة

لم تستمر الحرب طويلا فقد أدرك الجنوبيون أن علي عبدالله صالح وشركاءه الإسلاميين رتبوا لها بعد توقيع اتفاقية الوحدة مباشرة. وفي يوليو 1994 دخلت دبابات النظام شوارع مدينة عدن في مرحلة مفصلية حولت الوحدة إلى غزو وهو ما لم ينسه الجنوبيون حتى اليوم.

بعد سقوط نظام علي عبدالله صالح، تغيّرت معطيات كثيرة في المشهد السياسي اليمني

كافأ صالح شركاءه في حزب الإصلاح من خلال تمكينهم من تركة الحزب الاشتراكي المهزوم وكافأ ضبّاطه من خلال توزيع أراضي وعقارات الدولة في عدن وهو الأمر الذي ضاعف من المرارة لدى الجنوبيين الذي شعروا بأنه قد تمت سرقة أحلامهم وثرواتهم ودولتهم التي لم يجدوها في اليمن الموحّد.

وشيئا فشيئا كان الشارع الجنوبي يستيقظ من غفوته وصدمة الحرب التي لم يكن يتوقعها. واستطاع الجنوبيون أن ينظموا شتاتهم في ظل غياب معظم القيادات العسكرية والمدنية التي غادرت الجنوب عقب هزيمة 1994.

وكانت بداية الاحتجاجات ذات طابع حقوقي من خلال مطالبات المتقاعدين العسكريين الذي أحالهم صالح على التقاعد ضمن سياسة واسعة لحل بقايا جيش جهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهو الأمر الذي بلغ ذروته في العام 2007 من خلال الإعلان عن الحراك الجنوبي المطالب وبالانفصال.

وقد أتى هذا الحراك بعد رفض علي عبدالله صالح التعامل بجدية مع مطالب الجنوبيين ذات الطابع الحقوقي ومطالب سياسييهم التي كانت حتى ذلك الحين تتحدث عن إصلاح مسار الوحدة وهو ماتحوّل بعد فترة وجيزة إلى المطالبة بفك الارتباط.

بعد أن شعر علي عبدالله صالح بأنه بات قويا بدأ يفكر جديا في التخلص من شركائه السابقين في حزب الإصلاح. وقال في مقابلة ظهر فيها منتشيا بالنصر الذي حققه في الجنوب إنهم كانوا مجرد أدوات استخدمها للضرورة، وهي الرسالة التي تلقفها إخوان اليمن وبدأوا يعدّون العدة للقضاء على حليفهم السابق قبل أن يلاقوا مصير القيادات الجنوبية في الحزب الاشتراكي.

ويرى الكثير من المراقبين أن لحظة تفكك التحالف التقليدي بين علي عبدالله صالح وإخوان اليمن كانت بمثابة فرصة لتحرّر الكثير من القوى الخائفة وخائرة القوى وخصوصا في جنوب اليمن الذي يشهد تصاعدا ملموسا للحراك الجنوبي بلغ مداه في العام 2011 عندما دخل الرئيس السابق في مواجهة مفتوحة مع المعارضين، وبينهم حزب الإصلاح، أفضت في نهاية المطاف إلى مغادرته السلطة.

بعد سقوط نظام علي عبدالله صالح، تغيّرت معطيات كثيرة في المشهد السياسي اليمني، لكن كانت النقطة المفصلية في هذا التغيير نزول الحوثيين من جبال صعدة إلى قلب صنعاء، ضمن عملية لم تكن لتتم لو لا دعم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي خاص ضدهم ستة حروب.

لم يجد علي عبدالله صالح صعوبة في الاستعانة براديكالية جديدة ووضع يده هذه المرة في يد عدو تقليدي له وللإخوان وهم الجماعة الحوثية التي قامت باجتياح شمال اليمن لملء الفراغ الذي تعمد علي عبدالله صالح تركه، قبل أن يورطهم في مأزق كبير من خلال الدفع بهم لتكرار ما قام به مع الإخوان في عام 1994 وهو اجتياح المحافظات الجنوبية مرة أخرى في مارس 2015 بعد عامين فقط من التوقيع على اتفاقية شبيهة بتلك التي وقعها سنة 1994.

وعلى عكس غزو 1994 كان اجتياح 2015 أكثر فظاعة ووحشية وهو ما قوبل بردة فعل جنوبية تمثلت في إطلاق شرارة “المقاومة الجنوبية” التي استطاعت في نهاية المطاف أن تغيّر المعادلة وأن لا تسمح للتاريخ أن يعيد نفسه فتم طرد ميليشيا الحوثي وقوات علي عبدالله صالح في يوليو 2015.

خرج الجنوبيون من الحرب الثانية منهكين ولكنهم أكثر تماسكا وغضبا في مواجهة مشروع الاستحواذ الذي تبادلت لتحقيقه قوى مختلفة قادمة من الشمال، بدءا من تحالف صالح-الإخوان وليس انتهاء بشراكة الحوثي-صالح، ليجدوا أنفسهم أمام جولة جديدة من التحديات التي تمليها رغبات قديمة متجددة لعودة الإخوان للجنوب، عبر حصان طروادة جديد، وهو الرئيس عبدربه منصور هادي.

وفي مفارقة أغضبت الجنوبيين وألهبت شرارة الرغبة في الانفصال وقّع الرئيس عبدربه منصور هادي، في ذكرى توقيع إعلان صالح والإخوان الحرب على الجنوبيين في صيف العام 1994، قرارات تمهد لسيطرة حزب الإصلاح على الجنوب، وتحقيق ما فشل فيه حلفه مع علي عبدالله صالح.

صالح البيضاني

صحيفة العرب اللندنية