تركة بريجنسكي

تركة بريجنسكي

عن تسعين عاماً، توفي، قبل نحو أسبوعين، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، البولندي الأصل زبغنيو بريجنسكي، وهو من ألمع السياسيين والأكاديميين الأميركيين، وقد أدى واحداً من أخطر الأدوار في المنطقة العربية، الخليج، والشرق الأوسط عموماً خلال القرن الماضي.
عندما عيّنه الرئيس جيمي كارتر مستشاراً للأمن القومي مطلع عام 1977، لم يكن هناك ما يؤشر إلى أن الرجل سيواجه أحداثاً جساماً، تتطلب مهاراتٍ سياسية ودبلوماسية غير تقليدية للتعامل معها، فالولايات المتحدة كانت تعيش أجواء سياسة الانفراج التي دشنها الرئيس نيكسون بزيارته الصين عام 1972، ثم التوصل إلى اتفاقية الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية (سالت1) مع الاتحاد السوفييتي في العام نفسه، وصولاً إلى اتفاقية باريس التي أبرمتها إدارة الرئيس جيرالد فورد عام 1975، وأنهت بموجبها الحرب في فيتنام.
في العام الأول من خدمته، كانت إدارة كارتر المثالية الحالمة مهتمةً خصوصاً بحل النزاعات والدفاع عن قضايا حقوق الإنسان على نطاق دولي، وذلك كرد فعل على سياسات التدخل والريالبولتيك (Realpolitik) التي طبعت حقبة نيكسون – كيسنجر. ولاحت فرصة للمضي في تحقيق هذه الأجندة في الشرق الأوسط، عبّر عنها كارتر، القس المتنور القادم من جورجيا، في محاولة حل القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، لكن هذه الأحلام لم تلبث أن تحطمت سريعا، إذ فشل مؤتمر جنيف للسلام الذي اقترحه كارتر، وفاجأ السادات الجميع بزيارة القدس، وانتهت القصة بتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، لتبقى القضية الفلسطينية، وهي جوهر الصراع وأسه، معلقةً من دون حل، لكن هذا لم يكن أسوأ ما واجه كارتر، وساهم، في الوقت نفسه، بصعود نجم بريجنسكي.
واجه كارتر، في منتصف ولايته، أزمتين عاصفتين، ففي مطلع عام 1979 سقط نظام الشاه في إيران. وفي نهاية العام نفسه، غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان. وفي الحالتين، لعب بريجنسكي الدور الأبرز. عندما اندلعت الثورة الإيرانية، انقسمت إدارة كارتر إلى جناحين، تزعّم الأول وزير الخارجية سيروس فانس، وقال إن الثورة منتصرة لا محالة، وعلى الولايات المتحدة أن تساعد في إخراج الشاه من السلطة ولو بانقلاب عسكري، لأن التمسّك به سيؤدي إلى خسارة إيران (تم تنفيذ هذا السيناريو في مصر مع حسني مبارك). قاد بريجنسكي الجناح الثاني الذي رأى أن التخلي عن الشاه سيعطي رسالة خاطئة للحلفاء، خصوصا في الخليج، أن الولايات المتحدة غير مخلصة لأصدقائها، ثم قال كلمته المشهورة في اجتماع لمجلس الأمن القومي، حضره الرئيس كارتر “يجب أن ندافع عن الشاه حتى آخر قطرة دم إيرانية”. أخذ كارتر أول الأمر بنصيحة بريجنسكي، وعندما غيّر رأيه، وأرسل وزير العدل رمزي كلارك إلى باريس للتفاوض مع الخميني، كان الوقت قد تأخر على “إنقاذ إيران“، وعندما كان بريجنسكي مجتمعاً في الجزائر مع مهدي بازركان، أول رئيس وزراء لحكومة الثورة، للتفاهم على شكل العلاقة الجديدة بين واشنطن والحكام الجدد، اقتحمت مجموعة من الطلبة السفارة الأميركية في طهران، لتقضي على أي فرصةٍ لإنقاذ التحالف الإيراني – الأميركي.
الفشل في إيران عوّضه بريجنسكي في أفغانستان، إذ يعزو أكثر المؤرخين لحقبة الحرب الباردة له الفضل الأكبر في إسقاط الاتحاد السوفييتي. كان بريجنسكي، بسبب جذوره البولندية، مسكوناً بالخطر السوفييتي، وكان يبحث في كل الوسائل والإمكانات التي تؤدي إلى القضاء عليه. وكان قرأ مرة تصريحاً استحوذ على تفكيره أدلى به عام 1957 جون فوستر دالاس، وزير خارجية الرئيس دوايت إيزنهاور. قال دالاس إن المنطقة العربية تعوم على بحرين عظيمين، هما النفط والإسلام، النفط عصب اقتصادنا، والإسلام حائط الصد الأهم في وجه أعدائنا (الشيوعية).
عندما غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان عام 1979، طار بريجنسكي على الفور إلى المنطقة لتشكيل “كونسورتيوم إسلامي” لمواجهته، يتكون من باكستان التي تولت تدريب جماعات الجهاد الأفغاني، السعودية التي تولت تمويل المشروع، ومصر والمغرب اللذين توليا تأمين السلاح من السوق السوداء، لأن الولايات المتحدة لم ترد أي آثار على تورّطها. نجحت الخطة، وسقط الاتحاد السوفييتي في المستنقع الأفغاني، لكن آثارها ارتدت على الجميع، وبقيت تؤرقنا حتى بعد أن رحل صاحبها.

مروان قبلان

صحيفة العربي الجديد