تطييف لا طوائف ولا طائفية

 تطييف لا طوائف ولا طائفية

يتحدى كتاب «تطييف: رسم خرائط السياسات الجديدة في الشرق الأوسط»، أطروحات سائدة في فهم الصراعات الجارية في منطقتنا، تردها إلى صراع سني شيعي ينبع من واقعة وجود السنة والشيعة، أو بصورة أوسع إلى صراعات طائفية، تنبثق من تكوين مجتمعات الإقليم. الكتاب الذي حرره نادر هاشمي وداني بوستل من مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة دنفر الأمريكية، يتألف من مقدمة للمحررين، ومن 14 بحثاً، توزعت على قسمين. يعتني القسم الأول بالتطييف من منظور تاريخي وجيوسياسي ونظري، تتصدره مقالة مهمة لأسامة مقدسي عن بدايات ظهور الطائفية الحديثة في القرن التاسع عشر العثماني، فيما تختبر تسعة أبحاث في القسم الثاني أطرحة التطييف في بلدان مثل باكستان والعراق وسوريا والسعوية وإيران واليمن والبحرين ولبنان والكويت، وتهتم خاتمة الكتاب ببناء السلام في صراعات مطيفة.
هذا العرض التعريفي الوجيز يقتصر على تناول مقدمة المحرريْن، وعلى البحث المخصص لسوريا في المتن.
عنوان الكتاب «Sectarianization» أي تطييف، يكثف بكلمة واحدة أطروحة المحررين: يجري تطييف صراعات اجتماعية وسياسية راهنة، بمبادرة من نخب نافذة، خاصة نخب السلطة في بلدان المنطقة، وليست تلك الصراعات نتاجاً طبيعياً لوجود طوائف على ما يفضل الاعتقاد أمثال باراك أوباما الذي تكلم غير مرة على «اختلافات طائفية قديمة» أو على «انقسامات قديمة» كتفسير للصراع السوري، وأعاد جذور هذه الصراعات إلى «ألوف السنين»؛ أو مثل السناتور تِد كروز الذي رأى أن «السنة والشيعة منخرطون في صراع أهلي طائفي منذ العام 632» (يعني منذ لحظة وفاة الرسول)؛ وتفوق عليهما معاً المعلق التلفزيوني الأمريكي بيل أورايلي الذي يبدو متيقناً مما يقول: «السنة والشيعة يريدون قتل بعضهم. يريدون تفجير بعضهم. يريد الواحد منهم تعذيب الآخر. يستمتعون بذلك… هذا ما قال لهم الله أن يفعلوا، وهذا ما يفعلون»؛ الله حاضر أيضا فيما اقترحته سارة بالين، حاكمة ألاسكا، على السياسة الأمريكية من وجوب «ترك تصريف هذا الشأن لله».
لكن خلافاً لنظرية المؤسسة الأمريكية هذه، الطوائف أقرب إلى نتاج للصراع منها إلى ذواتها المستنفرة دوماً للانقضاض على أعناق بعضها. «التطييف» يقول هاشمي وبوستل، هو «عملية يرتبها فاعلون سياسيون يعملون في سياقات محددة، بغرض تحقيق أهداف سياسية تقتضي تعبئة شعبية حول سمات هوياتية معينة، دينية تحديداً». وللتسلطية السياسية موقع مركزي في أطروحة التطييف. التسلطية، وليس اللاهوت، هي العامل الحاسم الذي يشكل عملية التطييف. وقد «تعمدت النظم التسلطية في الشرق الأوسط استغلال الهويات الطائفية بصور متنوعة كاستراتيجية لحرف مطالب التغيير السياسي بعيداً عنها ولإدامة سلطتها». وبعبارة أخرى، فإن «الصراع الطائفي في الشرق الأوسط اليوم هو استمرار لنظم الحكم القائمة، وذلك عن طريق التعبئة الهوياتية».
ويميز المحرران بين ثلاث مدارس عرفتها العلوم الاجتماعية فيما يخص التعبئة القومية الإثنية، أو الدينية الإثنية: المدرسة الدائمية التي ترى أن «حس الهوية عضوي» عند الجماعات، وأنه «مترسخ بعمق في العلاقات الاجتماعية وفي السيكولوجية البشرية». وتنزع هذه المدرسة التي صدر عنها الاستشراق في عمومه وعمل على ترسيخها إلى ترويج تفسيرات من صنف ما سبق ذكره على ألسنة مسؤولين وإعلاميين أمريكيين، أي اشتقاق الصراعات الإثنية والدينية من تكوينات قديمة ودائمة للجماعات. وفي فصل نظري تاريخي كتبه أسامة مقدسي في بداية القسم الأول من الكتاب، يذكر اسمي كل من المستشرق الأمريكي برنارد لويس والشاعر السوري أدونيس كمثالين على هذه المقاربة. المدرسة الثانية هي الأداتية، وهي تقترح أن الروابط الدينية الإثنية «مطواعة»، وميسرة لـ»التلاعب» بها في العمليات السياسية. «التعبئة الدينية الإثنية هي أداة في خدمة الفاعلين القادرين على تقديم مصالحهم السياسية والاقتصادية من خلال القيام بدور رواد مشاريع سياسية». وعليه، تعتبر المدرسة الأداتية الطوائف أدوات في الصراع السياسي تستخدمها النخب لمصالحها. المدرسة الثالثة هي البنائية، و»يرى مناصرو هذه النظرية أن الهوية الدينية أو الإثنية ليست ثابتة، وإنما هي بناء سياسي قائم على شبكة كثيفة من العلاقات الاجتماعية المشكلة لسياق الحداثة». ولا يؤمن البنائيون بأن النزاع متأصل في الإثنية أو الدين، بل هو ينبع من «نظم اجتماعية مريضة» ومن «بنى للفرص السياسية» مولدة للنزاع عبر «تشققات اجتماعية متعددة تتجاوز قدرة الأفراد على التحكم».
أطروحة الكتاب، التطييف، تنحاز إلى هذه المدرسة الثالثة، لتكون الطوائف بناءات اجتماعية تتشكل في الصراع، وليكون المدخل إلى فهم الصراعات الطائفية ليس وجود «طائفة» سنية وأخرى شيعية مثلاً، أو وجود مسلمين ومسيحيين، بل الصراعات السياسية على السلطة والموارد. وكمثال داعم لأطروحتهما، يذكر المحرران أنه بعد حرب 2006 الإسرائيلية على لبنان أظهر «سبر للرأي العام أن حسن نصرالله (الشيعي) هو القائد الأكثر شعبية في المنطقة (ذات الأكثرية السنية)، وهي واقعة تظهر الهوة بين الدولة والمجتمع في العالم العربي، وكيف أن مناهضة الامبريالية تتغلب على الهوية الطائفية على المستوى الشعبي حينذاك».
أطروحة الكتاب مناسبة جداً لإضاءة الصراع السوري، لكن البحث المخصص لسوريا: الأمة المحطمة: تطييف الصراع السوري، وقد كتبه باولو غابرييل حلو (أو هلو) بنتو، أضاع الأطروحة في تناول تقليدي يحاول أن يكون عادلاً دون معرفة، وعارفاً دون عدالة، فيضيع ويُضيِّع، ولا يكاد يضيف شيئا عما يمكن أن يقوله أي باحث غربي قرأ مقالات وكتباً (ليست كثيرة) عن سوريا. يقرر الرجل منذ البداية تقريباً أنه «مما لا جدال فيه أن المحتجين السوريين استنفروا إحالات دينية منذ بداية الانتفاضة». بل هناك كثير من الجدال في ذلك وكثير من الحاجة للتدقيق والاستدراك. يتكلم بنتو على «وطنية دينية» سورية يقول إن النظام رعاها لنيل الدعم من المسلمين الورعين وقت كان الضغط الدولي يشتد على سوريا إثر اغتيال الحريري. يبدو لي هذا كلاماً «أجنبياً» وانطباعياً إلى أقصى حد، مبنياً على مشاهدات سطحية، تخلط بين عناصر إعلامية ورمزية يجري توظيفها سياسياً وبين البنى السياسية والمؤسسية التي ظلت كما كانت متمركزة حول النظام وشخص الرئيس. الكلام على وطنية دينية سورية بعد عام 2005 في «سوريا الأسد»، وهو فكرة رئيسية في بحث بنتو، يبيح لنا التساؤل عما إذا لم يكن بنتو ضحية تلاعب إيديولوجي لم ينطل على أحد من السوريين. كنا نحتاج إلى من يزيل حجب التضليل في التفكير في الشأن السوري، لا لمن يكتب جاداً أن بشار الأسد ونظامه عملا من أجل «وطنية دينية سورية»، إسلامية فيما يبدو.
ويعطي الكاتب انطباعاً بأن المظاهرات السورية خرجت من الجوامع لأنها لم تستطع الإشغال الدائم لفضاءات عامة مدينية. هذا خلط انطباعي بدوره: خرجت مظاهرات من جوامع فعلاً، لكن مظاهرات كثيرة لم تخرج من جوامع، ومنها خاصة تلك التي حاولت احتلال ساحات رئيسية. ويخطئ بنتو أو ربما تعرض لتضليل من مصادر معلوماته حين يقول «إن جغرافيا الاحتجاجات تتراكب جزئيا مع المناطق التي تحوز السلفية فيها حضورا أقوى، مثل حوران ووادي الفرات وإدلب وظواهر المدن الكبرى». الرجل لا يحيل إلى أي مصدر لدعم ما يقول، ولا يحيل إلى سوريين، ويكشف عن جهل مؤسف حين يعتقد أن منطقة حوض الفرات (نتكلم على ما قد يقترب من ثلث مساحة البلد) أو حوران، أو حتى إدلب، كان فيها حضور سلفي قوي قبل الثورة. الواقع أن كل ما كتبه بنتو يظهر قلة معرفة الرجل بسوريا ومجتمعها، واعتماده إما على مصادر تعرف القليل بدورها، أو على مقالات في الصحف. يأسف المرء أن مادة عن التطييف في سوريا لم يكتبها سوري، أو أقله باحث غربي معروف بمعرفته بسوريا (ترد على البال أسماء كثيرة). إحدى مشكلات تناول الشرق الأوسط في العلوم الاجتماعية في الغرب أن المعنيين ليسوا هم من يكتبون عن بلدانهم. هذا هو مصدر الانطباعية الشائعة، وهو في رأيي يتوافق مع المدرسة الدائمية التي يتكلم عليها هاشمي وبوستل في مقدمة الكتاب. بنتو لا يبدو أنه يقرأ العربية، وهو لا يحيل إلى مصدر سوري واحد تناول قضية الطائفية أو أي جانب من جوانب الثورة السورية، أو الحياة السياسية السورية عموماً. مصادره كتابات غربية، ومقابلات بشار الأسد ووسائل إعلامه بالانكليزية. لا أقول إنه يجب كف يد غربيين عن الكتابة عن سوريا مثلاً، لكن سيكون أمراُ طيباً أن يكتب سوريون أكثر.
ليس بحث بنتو خاليا من القيمة على كل حال. يتكلم محقاً على «التوزيع الطائفي للعنف» بغرض «تعميق الشروخ الطائفية بين المحتجين وتقسيمهم وعزلهم». لكن في افتقار تام إلى الحس السياسي والتاريخي، يعود بعد ذلك إلى الكلام على «طرفين» (النظام وطرف آخر غير محدد، لكنه يبدو متجانساً) يوزعان الهويات الدينية على الأراضي التي يسيطران عليها بهدف إنتاج مناطق متجانسة، ويضيف شيئاً عن «منطق العنف والانتقام الذي يمزق النسيج الاجتماعي» الذي تزعم كل «الأطراف» الحرض عليه! أسلوباً ومضموناً، هذا كلام يفتقر إلى حس الزمن، إلى حس التفاصيل، إلى حس الموقع، إلى كل شيء تقريباً.
على أن الكتاب بالغ الأهمية رغم ذلك، ليس في أطروحته الرئيسية فقط، ولكن في أكثر أبحاثه. إنوّه بخاصة ببحث والي نصر عن باكستان: السياسات الدولية، الإلزامات المحلية، والتعبئة الهوياتية: الطائفية في باكستان 1979-1998؛ وبحث ستيسي فلبريك ناداف عن البحرين: التطييف والأمننة: سياسة الهوية والثورة المضادة في البحرين؛ وبحث إسكندر صادقي بروجردي عن إيران: العمق الاستراتيجي، مكافحة التمرد ومنطق التطييف: العقيدة الأمنية لجمهورية إيران الإسلامية وتضميناتها الإقليمية.

القدس العربي