دور إيران ووكلائها الإقليميين في أزمة سوريا

دور إيران ووكلائها الإقليميين في أزمة سوريا

580

لم يطل الوقت كثيرا بالثورة الإيرانية حتى تحولت من دعوة دينية قامت على مبادئ جامعة وشعارات جذابة من نوع “لا شيعية ولا سنية.. إسلامية إسلامية”، إلى دولة طائفية تسعى إلى تحقيق مصالحها القومية ومصالح الفئة الحاكمة لها. فكان أول ما انقلبت عليه مبدأ “نصرة المستضعفين” الذي تخصص له الحكومات الإيرانية حتى اليوم بندا ثابتا في الموازنة المالية العامة.

فقد قام الإمام الخميني (قائد ثورة المستضعفين) بالتحالف مع حافظ الأسد جزار حماة في الثمانينيات من أجل الحفاظ على تحالف المصالح في وجه العدو العراقي لكليهما آنذاك. أما اليوم فتبدو تناقضات السياسات الإيرانية مع مبادئها التي تدعيها جلية وواضحة لدى مقارنة مواقفها من الثورات العربية.

ففي حين قام المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بتوجيه تحية لثورة ٢٥ يناير في رسالة وجهها للشعب المصري، ووصف الثورة المصرية بأنها “صحوة إسلامية مستلهمة من روح الثورة الإسلامية الإيرانية”، وعبر عن تأييده ودعمه لمطالب المحتجين في البحرين، فإنه لم يدخر جهدا لدعم مساعي النظام السوري في قمع الثورة السورية، وذلك بعد السعي الممنهج لشيطنتها وعزوها إلى مؤامرة خارجية تسعى للإطاحة بما يسمى محور الممانعة.

بدأت الجهود الإيرانية في هذا الخصوص في العام الأول للثورة السورية بتقديم الدعم المعلوماتي وتقديم الاستشارات المختصة والمستندة إلى الخبرات التي جمعتها إيران في قمع الاحتجاجات التي اجتاحت إيران في ٢٠٠٩، والتي تمت تسميتها بالثورة الخضراء حينذاك.

ثم قامت الجمهورية الإيرانية بعد ذلك باستضافة معسكرات تدريبية لتقديم التدريب العسكري والخبرات التنظيمية لعناصر الشبيحة والمتطوعين من أنصار النظام بهدف تحويلهم إلى مليشيات نظامية، أصبحت تشكل فيما بعد “جيش الدفاع الوطني”.

إلا أن انهيار القوى العسكرية للنظام السوري في منتصف عام ٢٠١٢ واقتراب كتائب الثوار من تطويق مدينة دمشق بشكل كامل، دفعا العديد من مراكز الأبحاث لتوقع انهيار النظام السوري خلال عام على الأكثر. الأمر الذي انعكس في تتابع التصريحات السياسية للعديد من السياسيين الأوروبيين المنددة بالنظام والتي توقعت نهاية قريبة له.

ولذك قام العديد من الدول الأوروبية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري في تلك الفترة، كما كانت محفزا للبدء في التحضير لمؤتمر جنيف الأول الذي انتهى بإصدار بيانه الختامي في ٣٠ يونيو/حزيران ٢٠١٢، بينما كان النظام يعاني فيه من انكسار حاد.

في تلك الفترة، انتقلت الجهود الإيرانية إلى التدخل الميداني المباشر والموسع بشكل ممنهج. فدفعت بحزب الله إلى دخول الساحة السورية، وكذلك عملت على إرسال قوات منظمة من المليشيات العراقية الشيعية أشهرها كان لواء أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق، وعملت أيضا على تشكيل مليشيات جديدة من المتطوعين الشيعة القادمين من الأحياء الفقيرة في إيران أو من باكستان وأفغانستان.

“بدأت الجهود الإيرانية بخصوص دعم النظام السوري في قمع الثورة السورية في العام الأول للثورة السورية بتقديم الدعم المعلوماتي وتقديم الاستشارات المختصة والمستندة إلى الخبرات التي جمعتها إيران في قمع الاحتجاجات التي اجتاحت إيران في ٢٠٠٩”

كما وثقت عدة تقارير صحفية وتلفزيونية المشاركة المباشرة لبعض قادة الحرس الثوري الإيراني في توجيه المعارك ضد قوى المعارضة السورية. أشهرها كان الفيلم الوثائقي الذي أعدته بي بي سي في شهر أكتوبر/تشرين الثاني عام ٢٠١٣، والذي وثق مشاركة عناصر الحرس الثوري في معركة انتهت بمقتل الضابط في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل حيدري في إحدى جبهات حلب.

استطاع الزخم العالي والمنظم للتدخل الإيراني أن يغير ميزان القوى على الأرض ويوقف المد الجغرافي لقوى المعارضة المسلحة. فقد قدرت أعداد العناصر الشيعية المسلحة التي استقدمتها إيران وحزب الله بحوالي ٣٠ إلى ٤٠ ألف مقاتل (انظر تقرير “المليشيات الشيعية في سوريا” الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان).

كما أنهم توفروا على خبرات وتدريب أفضل من ذلك المتوفر لعناصر الجيش السوري النظامي، مما جعلهم في الخطوط الأمامية للمعارك وخاصة في ريف دمشق وفي معارك حلب. بينما أصبح الدور الأساسي للنظام السوري هو الإسناد الجوي والصاروخي، ثم عملية التطهير بعد انتهاء عملية الاقتحام.

وبالتالي استطاع النظام خلال عدة أشهر تجاوز أزمته العسكرية الحادة، وتمكن من استعادة العديد من المناطق الحيوية التي خسرها فيما مضى مثل القصير ويبرود، وأجزاء مهمة من مدينة حمص وريف حماة، وعدة مناطق من مدينة دمشق وريفها.

الأمر الذي انعكس بدوره على فتور النشاط السياسي الساعي للوصول إلى حلول سياسية في ظل هذه المعطيات. حيث يراهن النظام وحلفاؤه على الوقت من أجل تغيير التوازنات السياسية أيضا واستعادة السيطرة تدريجيا على المناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام.

الجدير بالذكر، أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله كان قد قال: “إننا لو لم نتدخل لسقطت دمشق في أسبوع”. وكذلك فإن العديد من الجهات الإيرانية صرحت بأن “الأسد باقٍ لأن إيران أرادت ذلك”.

وآخر هذه التصريحات كان لعلي رضا زاكاني (نائب في البرلمان الإيراني عن مدينة طهران)، حيث قال في سبتمبر/أيلول ٢٠١٤: “لو تأخرنا في اتخاذ القرارات الحاسمة تجاه الأزمة السورية، ولم نتدخل عسكريا لسقط النظام السوري منذ بداية انطلاق الثورة”. الأمر الذي أدى عمليا إلى سيطرة إيران على القرار الميداني والقرار السياسي السوري كنتيجة مباشرة لارتباط استمراره بالتدخل الإيراني.

فعلى سبيل المثال، قام نظام الأسد بتزويد حزب الله بسلاح الدبابات كي يخوض الحزب في القصير أولى معاركه الحربية بهذا السلاح. ثم استلم الحزب بعد ذلك إدارة المنطقة بين وادي خالد والقصير وجرود القلمون بشكل كامل، وأصبحت قرارته اليوم في تلك المنطقة مستقلة بشكل شبه كامل عن نظام الأسد. كما أن المفاوضات حول الهدنة في حمص في مايو/أيار ٢٠١٤ جرت مع ضباط إيرانيين وليس مع النظام السوري.

وكذلك هناك العديد من المعطيات التي تؤكد أن النظام السوري لم يكن على علم بوجود الدورية التي استهدفتها إسرائيل في القنيطرة وكان “جهاد عماد مغنية” أحد ضحاياها. أي أن حزب الله والحرس الثوري الإيراني يتنقلون اليوم على طرفيْ الحدود السورية بدون أي أدنى اعتبار للسيادة السورية.

“إيران استطاعت اليوم -عبر أذرعتها العسكرية ومليشياتها الإقليمية- اليوم تحويل النظام السوري إلى مليشيا طائفية تدير أجزاء من سوريا وتعمل في سياق تحقيق المصالح الإيرانية الكبرى. الأمر الذي يبرر ويفسر تصريح المسؤول الإعلامي الإيراني مهدي طالب بأن سوريا هي المحافظة الـ٣٥ في إيران”

كما أكد شهود عدة من داخل النظام السوري أن ضباط وعناصر الحرس الثوري يصلون اليوم إلى سوريا عبر مطار دمشق القديم، وينتقلون مباشرة إلى داخل دمشق دون المرور بإجراءات التفتيش والختم المتعارف عليها.

أي أنه من حيث النتيجة فإن إيران استطاعت اليوم -عبر أذرعتها العسكرية ومليشياتها الإقليمية- تحويل النظام السوري إلى مليشيا طائفية تدير أجزاء من سوريا، وتعمل في سياق تحقيق المصالح الإيرانية الكبرى. الأمر الذي يبرر ويفسر تصريح المسؤول الإعلامي الإيراني مهدي طالب بأن سوريا هي المحافظة الـ٣٥ في إيران.

من المهم الإشارة، إلى أن جميع أشكال التدخل العسكري الإيراني المباشر أوعبر الوكلاء تندرج في سياق إستراتيجية أوسع تتعامل مع الملف السوري على عدة مستويات، وتنطلق من رؤية إقليمية متكاملة. حيث ترافق الدعم العسكري للنظام السوري مع دعم دبلوماسي للسردية السورية الرسمية لدى حلفاء إيران في الدول التي تمتلك فيها تأثيرا ماليا وسياسيا.

فقد انعكس ذلك في التصويت لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان النظام السوري واعترف بالائتلاف طرفا في عملية الانتقال السياسي، حيث عارضته ١٢ دولة وامتنعت ٥٩ دولة عن التصويت.

كما استخدمت إيران حزب الله للضغط على المعارضة السورية وحلفائها في معرض المفاوضات لحضورها اجتماع جينيف ٢. حيث كانت ضربات الحزب في القلمون تشتد أو تتوقف على وقع الموقف السياسي الدولي من قضية مشاركتها في اجتماع جينيف.

أضف إلى ذلك أن إيران تسعى منذ بداية هذا العام للتوسع في عملياتها بالمنطقة الجنوبية (القنيطرة وريف درعا الغربي)، لتكثيف وجودها في المناطق المحاذية لإسرائيل، الأمر الذي يمكنها من تحويل هذا الوجود إلى ورقة تفاوضية جديدة في يد المفاوض الإيراني.

فإيران اليوم تسعى لاستخدام الملف السوري في إطار تصورها لنفسها قطبا إقليميا قادرا على فرض إرادته على دول الإقليم بما يحقق مصالحه. ففي حين تشكل سوريا حجر الأساس في هذا المشروع، فإن خسارتها لنفوذها في سوريا سيعني عمليا انكفاءها إقليميا وتحولها إلى دولة قوية داخل حدودها، ما لم تؤدّ هزيمتها في سوريا إلى اضطرابات داخلية وصراعات سياسية داخل النخبة الحاكمة نفسها.

الأمر الذي يدفع إيران اليوم للاستمرار في طريق التدخل المباشر في الشأن السوري حتى النهاية. إلا أن تكتيكات هذا التدخل تتغير بتغير الظروف والمعطيات بما يحقق الإستراتيجية العليا للنظام الإيراني.

فعلى الرغم من أن إيران ما زالت اليوم تمد النظام السوري بكافة أسباب الحياة والاستمرار، فإن ثبات واستقرار النظام السوري لم يعد أولويتها الأولى. فقد أصبح السعي لخلق وتشكيل مليشيات عسكرية محلية وقوية قادرة على حماية مصالحها هي الأولوية العليا لإيران، بغض النظر عن اسم الحاكم القابع في دمشق. ويمكن تفسير ذلك بأنه نتيجة لضعف ثقة النظام الإيراني بقدرة الأسد على الاستمرار ضمن المعطيات الحالية.

فالعديد من المعلومات الواردة من داخل المنظومة العسكرية والأمنية لنظام الأسد تؤكد توسع وانتشار عملية خصخصة المليشيات الشيعية المنتشرة في سوريا، وربطها مباشرة بالحرس الثوري الإيراني دون مرور سلسلة القيادة بالنظام السوري.

“إيران تسعى لاستخدام الملف السوري في إطار تصورها لنفسها قطبا إقليميا قادرا على فرض إرادته على دول الإقليم بما يحقق مصالحه. ففي حين تشكل سوريا حجر الأساس في هذا المشروع، فإن خسارتها لنفوذها في سوريا سيعني عمليا انكفاءها إقليميا وتحولها إلى دولة قوية داخل حدودها”

وبالتالي ستشكل هذه المليشيات ذراعا عسكرية لإيران تعمل على إضعاف وزعزعة أمن أي نظام جديد يأتي بعد انهيار الأسد، وبالتالي ستعمل هذه المليشيات كورقة تفاوضية في لعبة تبادل المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد أن أثبت هذا الأسلوب نجاعته في لبنان واليمن.

رغم ذلك، تصر إيران -في المحافل السياسية وعبر الرسائل التي يحملها موفدوها- على ضرورة استمرار بشار الأسد جزءا من أي حل سياسي قادم، أو على الأقل في المراحل الأولى منه. حيث ترغب القيادة الإيرانية في رؤية حكومة سورية صديقة وقادرة على إسباغ الشرعية والصفة القانونية على مليشياتها الطائفية المنتشرة في سوريا.

كما أن بعض المطلعين على خبايا السياسة الإيرانية الداخلية يعزون تمسكها بالأسد أيضا إلى خوف إيران من ترك انطباع لدى حلفائها بأنها يمكن أن تتنازل عنهم، أو تستخدمهم كأوراق تفاوضية في مرحلة من المراحل.

من حيث النتيجة، فإن إيران هي الطرف الإقليمي الوحيد الذي يعمل على تعظيم ومراكمة إنجازاته في سوريا بشكل منهجي مع مرور الوقت، وبالتالي فهي المستفيد الأكبر في المنطقة من استمرار الأزمة، حيث إنها تعمل على استغلال الوقت في تغيير الوقائع على الأرض بما يخدم مصالحها على المدى المتوسط والبعيد.

كما أن تكاليف تدخلها في سوريا تعد منخفضة مقارنة بنتائجه وفعاليته، نظرا لاعتمادها بشكل أساسي على المتطوعين من الشيعة، وعلى تدريب القوات المحلية من سوريا ولبنان والعراق.

وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن الطموحات الإمبراطورية الإيرانية لا تنطلق من أرضية متينة وإمكانيات متقدمة. فالتمدد الإيراني في المنطقة اليوم يستند إلى أرضية شعبية هشة واقتصاد متهالك، يعتمد بشكل أساسي على النفط الذي تتقلب أسعاره وفقا لإرادات خارجية. مما يجعل ليس فقط مستقبل الطموحات الإيرانية موضع تسائل، بل ويترك حتى مستقبل إيران كدولة موحدة في مهب الريح.

فالتاريخ علمنا أن الدول القائمة على الاستبداد تنتهي في أغلب الأحيان بالدمار، وخاصة عندما يسعى الاستبداد لتحقيق طموحاته في النفوذ والسيطرة على حساب قوت شعبه، وما واقع ثورات الربيع العربي عنا ببعيد.

فمن المتوقع على المدى البعيد أن ينتهي التوسع الإيراني إلى التراجع مع تراكم التناقضات الداخلية المتزايدة داخل المجتمع والدولة الإيرانية، نتيجة لافتقار الدولة الإيرانية إلى آليات حكم متبعة من شأنها تنفيس الاحتقانات الشعبية وحل التناقضات الداخلية.

وكذلك فإن التوسع الإيراني سيتعرض لانتكاسات على المدى المتوسط كنتيجة طبيعية لاستنزاف الموارد المتناقصة أصلا. مما يجعل المشروع الإيراني يُصنَّف باعتباره تهديدا مؤقتا -وليس إستراتيجياً- لمراكز القوى الأخرى المنافسة في العالم. الأمر الذي يفسر محاولة العديد من الدول الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- السعي لاحتواء إيران سياسيا، والسعي لاستنزافها في معارك متعددة الجبهات تؤدي إلى تسريع عملية السقوط والانهيار.

غياث بلال

نقلا عن الجزيرة