دونالد ترامب يسمم العالم

دونالد ترامب يسمم العالم

في الفترة الأخيرة، كتب اثنان من كبار مستشاري دونالد ترامب، هما هـ. ر. مكماستر وغاري كوهن، في مقالة لهما نشرت في صحيفة “وول ستريت جورنال”: “انطلق الرئيس في أول رحلة خارجية له برؤية واضحة، مؤداها أن العالم ليس ‘مجتمعا كونياً’، وإنما هو حلبة تنخرط فيها الدول واللاعبون غير الحكوميين والأعمال التجارية ويتنافسون على المزايا”.
تشكل هذه الجملة خلاصة مشروع ترامب. وهي تؤكد أن الأنانية هي الدافع الوحيد وراء الشؤون الإنسانية. وهي تأتي انطلاقاً من وجهة نظر عالمية تقوم على أن الحياة لا تعدو كونها كفاحاً تنافسياً من أجل الكسب. وتوحي بأن المجتمعات التعاونية هي عبارة عن أغطية منافقة للتسابق الأناني الكامن تحتها.
يفسر المقال السبب في أن جماعة ترامب يشكون في أي ترتيب عالمي تعاوني، مثل حلف الناتو والاتفاقيات التجارية المختلفة. ويفسر لماذا انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ. كما يفسر المقال السبب في انجذاب ترامب إلى قادة مثل فلاديمير بوتين ومختلف الرجال الأقوياء في العالم: لأنهم يشاركونه وجهة نظره العالمية الجوهرية القائمة على أن الحياة بصراحة هي كفاح أناني من أجل المال والهيمنة.
بالإضافة إلى ذلك، يفسر المقال السبب في أن الناس في بيت ترامب الأبيض وحشيون جداً تجاه بعضهم بعضاً. وبعيداً عن أن يكون رباطاً من الإخوة، يتسم عالمهم بأنه حلبة عنيفة يتنافس فيها الموظفون من أجل الاستحواذ على قصب السبق.
وفي المقال، يوضح مكماستر وكوهن العمل الكبير للفصل الأخلاقي الذي تقوم بحياكته هذه الرئاسة. في هذه النظرة العالمية، ليست للأخلاقية أي صلة بأي شيء. فالإيثار والثقة والتعاون والفضيلة ترف لا يمكن النهوض به في الكفاح الذي يخوضه الجميع ضد الجميع، وحيث يدور كل شيء حول المصلحة الذاتية.
كنا قد شهدنا هذه الفلسفة من قبل، بطبيعة الحال. فقد تبنى الناس النافذون والأنانيون دائماً هذه الواقعية قذرة التفكير لتبرير أنانيتهم الخاصة. وتكمن المشكلة في أن هذه الفلسفة تستند إلى خطأ حول الكائنات البشرية، وهي تقود إلى سلوك مدمر للذات في كل الحالات.
الخطأ هو أنها تسيء فهم ما يدفع عمل البشر. من الطبيعي أن الناس ينقادون وفق النوازع الأنانية -لغاية تحقيق المكانة الشخصية والمال والسلطة. لكنهم يتحركون أيضاً بدفع مجموعة أخرى من المحفزات المساوية في القوة، بل والتي تكون أكثر قوة في بعض الأحيان -من أجل التضامن والحب والإشباع الأخلاقي.
إن الناس بطبيعتهم ميالون إلى التعاون. وبدلاً من أن تكون شأناً تافهاً، تشكل الرغبة في التعاون المزية التطورية الإنسانية الرئيسية التي تميزنا عن باقي الحيوانات.
غني عن البيان أن للناس حسا أخلاقيا. ولديهم مجموعة من المؤسسات الكونية التي تساعد على تأسيس عرى الوئام والانسجام بين الناس. ومنذ لحظاتهم الأولى، يدرك الأطفال ألم بعضهم بعضا. وأنت لا تحتاج إلى تعليم أطفال ما هي النزاهة: إنهم يعرفونها أصلاً. ولا يوجد أي مجتمع على وجه البسيطة حيث يحصل الناس على الإعجاب بسبب الهروب من المعركة أو الكذب على أصدقائهم.
وللناس عواطف أخلاقية. فهم يشعرون بالغضب تجاه الظلم، وبالاشمئزاز تجاه الجشع وبالتبجيل تجاه التميز وبالخشية تجاه الشيء المقدس وبالانتشاء من العمل الخيّر.
إن الناس يتوقون إلى الاستقامة، ويريدون أن يشعروا بمعنى وغاية حياتهم، وبأن حياتهم موجهة نحو الخير.
الناس ينجذبون نحو الخير ويأنفون من الأنانية. وكان عالم النفس الاجتماعي في جامعة نيويورك، جوناثان هايدت، قد درس تصاعد النشوة الذي نشعر به عندما نشاهد شخصا ما بينما يؤدي عملاً غير أناني. ويصف هايدت الوقت الذي يخرج فيه شاب بشكل عفوي من سيارة لمساعدة سيدة عجوز في تجريف الثلج من مخرج سيارتها.
أحد أصدقائه، الذي شاهد هذا العمل البسيط، كتب لاحقاً يقول: “شعرت برغبة في أن أقفز من السيارة لكي أعانق هذا الشاب. أحسست برغبة في الغناء والركض أو الوثب والضحك. أحببت أن أكون نشطاً وشعرت برغبة في أن أقول أشياء جيدة عن الناس، كنظم قصيدة جميلة أو قصيدة حب. أردت أن ألعب في الثلج مثل طفل، وأن أحدث الجميع عن صنيعه”.
لقد أدرك القادة الجيدون، مثل لينكولن ورزفيلت وريغان، العناصر الأنانية التي تحرك السلوك الإنساني. ولكن، كانت لهم قدم أخرى في عالم الدوافع الأخلاقية. وكانوا يسعون إلى إلهام الإخلاص من خلال عرض الشخصية الجيدة، وحاولوا تحفيز العمل من خال الإشارة إلى المثل الكبرى.
أما القادة الواقعيون، من أمثال ترامب ومكماستر وكوهن، فسيعون إلى استبعاد هذا العالم الأخلاقي برمته. ومن خلال التصرف من منطلق الأنانية المحضة تجاه الآخرين، فإنهم يسممون العالم المشترك ويجبرون الآخرين على التصرف من منطلق أنانية العارية تجاههم.
من خلال معاملة العالم ببساطة كحلبة للتنافس على المزايا، يقطع ترامب ومكماستر وكوهن العلاقات ويدمرون مبدأ التبادلية ويعرضون الثقة للتآكل، ويبخرون إحساس التعاطف والصداقة والولاء التي تمس حاجة الدول إيها عندما تدلهم الخطوب.
وبعدم النظر إلى أي شيء سوى المصلحة المادية، يحول ترامب ومكماستر وكوهن أميركا إلى أمة تهين العواطف الأخلاقية لكل أحد آخر. وبذلك يجعلون بلدنا يبدو مثار اشمئزاز في أعين العالم.
لم يكن جورج مارشال ساذجاً مثالياً. فقد أدرك أن أميركا توسع سلطتها عندما تقدم يداً تعاونية وتتطوع للخدمة العامة في اتجاه تحقيق مثال كبير. لكن الواقعيين يعكسون تلك الصيغة. وهم يتخذون موقف الصراع ويثيرون بذلك موجة من الكفاح ضدهم.
أتمنى لو كان مكماستر تلميذا أفضل لثوسيدايدس (المؤرخ والجنرال اليوناني). كان ليعرف أن أهل أثينا تبنوا اللهجة نفسها غير الأخلاقية التي يتبناها: “الأقوياء يفعلون ما يستطيعون فعله، والضعفاء يعانون ما يجب أن يعانوه”. وقد انتهى المطاف بالأثينيين وقد كونوا أعداء لا نهاية لهم، وتسببوا بتدمير إمبراطوريتهم الخاصة.

ديفيد بروكس

صحيفة الغد