وسقطت المنارة الحدباء

وسقطت المنارة الحدباء

الأربعاء الماضي المصادف 2017/6/21 هوت المنارة الحدباء بعد أن ظلت مضاءة وواقفة لـ845 عاما منذ بناها نورالدين زنكي حاكم الموصل وحلب ودمشق. كان أهل الموصل يعتقدون أن منارتهم القديمة مائلة لأنها تنحني للنبي محمد احتراما، وبسبب ذلك الانحناء فإن المؤذن لم يجازف بتسلقها أبدا. تمت إعادة بناء الجامع الكبير عام 1942 بأوامر ملكية من الحكومة العراقية غير أن المنارة بقيت على حالها منذ القرون الوسطى.

وعلى النقيض من الموصل، فإن الأنبار أشعلت قلوبنا حين دارت فيها رحى المعارك. أوجعونا على كل كوخ سقطت عليه قنبلة وعلى كل طفلة حافية بالصحراء. لقد أبكى الأنباريون العيون وأدموا القلوب. سيدات الفلوجة المحافظات كنّ يتصلن بي ويرسلن الرسائل كل يوم.

كان الأنباريون قلبا واحدا في المحنة. يضعوننا في الطرقات ساعة بساعة وحتى المرتزقة منهم صمتوا وتألّموا على مدنهم. في الموصل عندنا مشكلة فلا توجد أصوات موصلية عالية، وعند بعض سياسييهم ومثقّفيهم اعتقاد بأنك تزاحمهم أو تأخذ مكانهم حين تبادر إلى الكتابة عن عذابهم. وفوق ذلك السياسة بالموصل صوتها أعلى من وجدان المدينة والانتماء إليها.

الإخوان المسلمون يسيطرون على التمثيل السياسي في نينوى وهم حلفاء إيران. بينما الأنبار كانت كلها على قلب واحد في المحنة لا سياسة ولا انتماءات. لقد وصل الأمر بالموصل أن اشترت الميليشيات الإيرانية بعض الإعلاميين من المدينة وهم يبشّرون بكراهية الذات مقابل القبول والعيش بسلام. لهذا قد اتخذت قرارا بعدم التدخل بشؤون الموصل.

معظم سياسييها وكتابها عندهم عقدة الاتهام بالداعشية ويعتقدون أن تمجيد الشيعة وإيران سيفيدهم في النهاية. كل ما يهمهم اليوم هو حملة غوغائية لا إنسانية لإخراج عوائل الدواعش من المدينة وهي دعوة قبلية للثارات لم تحصل في المحافظات الأخرى. عمل بالنيابة للانتقام لأن الحشد الشيعي لم يمكّن من رقاب أهل الموصل. ما ذنب العجائز والنساء والأطفال؟

أكتب عن الموصل

سيدة من الموصل انتفضت حين عبّرت عن وجهة نظري وقلت بأنكم لا تحزنون على مدينتكم ولا تبالون بغير تمجيد القوات الأمنية والميليشيات خوفا من الاتهام بالدعشنة. فتلقيت منها رسالة ليلة سقوط المنارة الحدباء تقول “أستاذ أكتب عن الموصل قليلا، وعبر عن حزنك لفقد منارة الحدباء. يبدو أنك لم تزرها من قبل، أنا من رأيتها وعايشتها فخذ عيوني وأنظر بها أنا النظرة السجينة في بيوت النازحين والمشردين. كانت المنارة ظاهرة من كل مكان في المدينة وتبدو جميلة. حدباء بصورة طفيفة ولكنها تلاحظ بوضوح. عندما كنت طفلة كانت أهمّ رحلاتنا صيفا مع جدتي تكون إلى الجامع الكبير، نشرب الماء من هناك فهو بارد جدا ونأكل الرطب. نقفز ونلعب في صحن المسجد، لا نؤاخذ لأننا أطفال. كانت جدتي كثيرة الوسوسة لا تسمح لنا بأن نلعب تحت المنارة”، تقول وبالمصلاوي العتيق “اتقدمو من تحت المناغة لا تميل عليك. دائما كنا نضحك كيف ستميل هل هي مثبتة بالصمغ. كل من كان تحت المنارة لا يحسون بها فقط بل ينغمرون تحت ظلها”.

“اليوم كل من هو تحت المنارة تلقى حجارتها. لا أقول إنها مباركة أو مقدسة غير أنها هوية ومعلم تعودنا أن نراه في الأفق من الجانبين الأيسر والأيمن. أبكي وأنتحب في الطرقات والريح ومعي كل المواصلة الذين يعون أهمية الهوية ويبكون في الليل والخيام والبيوت البعيدة ولا حيلة بأيديهم”

“واليوم كل من هو تحت المنارة تلقّى حجارتها. لا أقول إنها مباركة أو مقدسة غير أنها هوية ومعلم تعودنا أن نراه في الأفق من الجانبين الأيسر والأيمن. أبكي وأنتحب في الطرقات والريح ومعي كل المواصلة الذين يعون أهمية الهوية ويبكون في الليل والخيام والبيوت البعيدة ولا حيلة بأيديهم”.

“فقدنا أطفالا وشبابا وشيوخا وطلبة علم حتى آثارنا تم تحطيمها، لقد جردونا ‘عراة نحن في العراء’ إلا من دمنا الذي يغطينا كأكذوبة العيش أذلاء بدور الضحية وعلى الدوام كنا ضحية. نحن لسنا أرض قتال ولم نكن، واليوم قلبت كل الموازين”.

“هناك مائة ألف مدني محاصر في المدينة القديمة لو نعلم أن هدم المنارة سوف ينقذهم من المجازر التي سوف ترتكب بحقهم لكنا جميعا نهدرها فداءا لهم، لكن تفجير المنارة والجامع طعنة أخرى وهي ليست بالأخيرة توجه لوجداننا”.

“يصرخ الأغبياء فداء لقواتنا الأمنية (ههه فداء) كيف تفدي شيئا ليس لك؟ فقط من لا تربطهم بهذه الأرض روابط دم وذكريات ينعقون بهذه الأقاويل. أقول لك هذا متوقع ولكن لا تحرمونا من حق البكاء. المدينة القديمة والمنارة والجامع هويتنا المميزة. لم يتبق لنا إلا لهجتنا العتيقة هي فقط من نستند عليها لنقول بقاف واضحة؛ عيني هذا أبشقد؟ ليرد علي البائع الكردي: أحسن ناس أهل الموصل متستاهلون اللي صار بيكم”.

الخراب في أرض الأنبياء

رجل من الموصل أرسل إليّ رسالة يقول فيها “لطالما كنا نسمع منذ الصغر ‘هاي الموصل أرض الأنبياء ما يصيبها الخراب’ فكان ما عايشناه من أحداث الحروب والأزمات يرسّخ في أذهاننا تلك القناعة. الموصل تنبذ الحرب والدمار وترفع السلام شعارا على الدوام.

كان تجار الدماء يقذفونها بالجبن والخوار لكنها كأمّ حانية تحبّ أبناءها ترفض هذا الهراء. فعجبا ما الذي يجري الآن وكأن الأقدار أبت إلا أن تأخذ موصلنا نصيبها من الدمار والقتل والحصار. فكأنهم عندما قاربوا أن ينهوا كتابة رواية جرمهم احتاروا ما هو العنوان؟ فكان في قتل المنارة الحدباء عنوانا لهم ويا ليته نهاية الكتاب”.

سيدات الموصل أرغمنني على تخصيص مقال يوصل وجعهم للعرب. خصوصا بعد أن كتب عضو مسؤول في اتحاد الأدباء العراقي الشاعر الصفوي حسين القاصد تغريدة تقول “ليش ما يسوون الجامع النوري مرافق صحية عامة؟ لأن المرافق أقل نجاسة منه”. كل جامع فيه مرافق عامة حتى الأضرحة الشيعية كلها تحتوي مرافق عامة كبيرة، ولا نعرف المقصود بتحويل الجامع الكبير إلى “مرحاض”؟ هل المقصود هنا جرح مشاعر أهل الموصل والمبالغة في إهانتهم؟ فلينظر العرب بأنفسهم كيف يمكن لنا أن نعيش بسلام والسلطة والثقافة بيد إيران في العراق؟

قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن أكثر من خمسة ملايين طفل في حاجة ماسة للمساعدة في العراق، ووصفت الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية بأنها “إحدى أشد الحروب وحشية” في التاريخ الحديث. اليونيسيف لم تذكر بأنهم خمسة ملايين طفل سنّي عربي مغضوب عليهم من السلطة الإيرانية ببغداد.

أمّ عظيمة من الموصل تهرب مشيا على الأقدام في المعركة وتقف أمام الجنود لا تبكي الناس فقط بل تبكي الكرامة الإنسانية والبيت الذي تعيش فيه تقول “أين كان جنود العراق حين احتلت داعش المدينة؟ هل هكذا يكون حالنا نطلب الصدقة من الناس ونحن الكرام الذين لطالما تصدقوا وساعدوا الفقراء؟ كيف نترك بيتنا ونهيم على وجوهنا في الصحراء”.

قالت ليز جراندي، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق، إن “القتال كثيف للغاية في المدينة القديمة والمدنيون معرضون لخطر فظيع ولا يوصف تقريبا. وهناك تقارير مفادها أن الآلاف، وربما حتى عشرات الآلاف من الأشخاص، محتجزون كدروع بشرية”

هذا كلام شعب متحضر يحب العيش الرغيد في مدينته. لطالما كانت الموصل “أم الربيعين” لا تحب الهجرة إلى الحضارات البعيدة بل تجذب الحضارة إلى بيتها تحت قمرها ونجومها وتأكل في مطبخها.

البيت بالنسبة إلى السيدة الموصلية هو رنين العالم وركنها. إنه كما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. وكما يقول الفرنسي غاستون باشلار في جماليات المكان نحن نعيش تثبيتات السعادة ونريح أنفسنا من خلال أن نعايش مرة أخرى ذكريات الحماية. البيت يحمي أحلام اليقظة ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء.

ونظرا لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة.

البيت واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية. فدون البيت يصبح الإنسان كائنا مفتّتا، فالبيت يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض. البيت جسد وروح وهو عالم الإنسان الأول. فالحياة تبدأ بداية جيدة فهي مسيّجة ومحميّة في صدر البيت.

في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أنّ كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان. إن المكان يحتوي على الزمن مكثفا. البيوت المتعاقبة التي سكنّاها جعلت إيماءاتنا عادية.

ولكننا نندهش حين نعود إلى البيت القديم بعد تجوال سنين عديدة، أن نجد أدق الإيماءات وأقدمها تعود للحياة، دون أدنى تغيير. وباختصار فإن البيت الذي ولدنا فيه قد حفر في داخلنا المجموعة الهرمية لكل وظائف السكنى.

خمسة ملايين طفل عراقي سنّي فقدوا بيوتهم التي ولدوا فيها بسبب السياسة الإيرانية في العراق. فقدوا “تثبيتات السعادة” وأحلام اليقظة والهناء، فقدوا “ضوء المساء” كما يقول الشاعر الألماني ريلكه “البيت قطعة المرج يا ضوء المساء: فجأة تمتلك وجها إنسانيا/أنت قريب منا للغاية تعانقنا ونعانقك”. هذا ما فقدته وتفتقده الموصل اليوم.

عواصف الحزم ضد إيران

يعرف العرب جيدا لوعة المكان فلطالما وقفوا على الأطلال من ذكرى حبيب ومنزل “تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرارِ”.

الموصليون عرب عشاق لهواء مدينتهم وبيوتهم. والأكثر تجد محبتهم للهجتهم وطبخاتهم المميزة وأسواقهم القديمة وطرقاتهم وبعضهم البعض. إنهم يعيشون في المكان وفِي جيرانهم ومدينتهم العزيزة عليهم. هذا التعذيب بسبب الطائفية والإذلال الإيراني يجب أن يتوقف بعزم الطائرات العربية وعواصف الحزم. فقد سكن الموصليون مدينتهم لمئات السنين ولم تسقط بيوتهم ومنارتهم حتى جاء العهد الشيعي والسلطان الإيراني عليها.

يقول لي شاعر عراقي في رسالة خاصة “حكم السنة في العراق لم يسقط إلا بتحالف عالمي. بينما حكم الشيعة لم يصمد إلا بتحالف عالمي. معادلة تبين الفرق بين ثقافتين، أي أن الحكم الشيعي في العراق عبء على العالم وعلى العراقيين جميعا لأنه يفرض ثقافة طائفية فارسية على شعب عربي بالقوة”.

يقولون داعش فجّر الجامع الكبير لكن التنظيم الإرهابي أنكر. وهذا تنظيم إرهابي قذر ومجرم لم ينكر أيّ جريمة ارتكبها سوى جهاد النكاح وتفجير الجامع الكبير مما يجعلنا في حيرة. وبكل الأحوال فإن السبب الرئيسي لمأساة العراق هو سياسة طهران التي خلقت الظروف لانتشار العنف المذهبي وحريق المدن السنية الذي يصل دخانه اليوم إلى العالم.

من المؤسف أن التحالف العربي لمواجهة إيران جاء متأخرا. فقد كانت للعراقيين العرب مقاتل ومظالم على يد إيران وأذنابها. يا لمصارع الأنباريين والبغداديين والموصليين، تساقط خيرة الفتيان في ثورة الزنج الإيرانية “الريح الصفراء”.

“لهفي على فتيةٍ ذلَّ الزمانُ لهمْ

فما أصابهمُ إلا بما شاؤوا

ما زال يعدو عَلَيْهِمْ ريبُ دهرهمُ

حتى تفانوا وريبُ الدّهر عدّاءُ“.

إمام المغنين معبد المغني/غناء أموي

أسعد البصري

صحيفة العرب اللندنية