خطوة إيران التالية في المعركة ضد الإرهاب

خطوة إيران التالية في المعركة ضد الإرهاب

بوجودها محصورة بين العراق وأفغانستان وباكستان، كان من شبه المعجزة أن لا تعاني إيران من عمل إرهابي محلي رئيسي على مدار 15 عاماً. لكن هذا الحال تغير يوم 7 حزيران (يونيو)، عندما خلف هجومان توأمان في طهران 17 قتيلاً وحوالي 50 جريحاً. وعلى الإثر، أعلن تنظيم “داعش” سريعاً مسؤوليته عن الهجوم. وتحرك جهاز الأمن الإيراني بأقصى طاقته للعمل على تطويق المشتبه بهم والحيلولة دون تنفيذ مخططات أخرى. وقد دأبت إيران على حماية أراضيها المركزية بقوة وصرامة، حتى وإن كانت أطراف البلد المتوترة مصدر عدم استقرار تقليدياً. والآن، ينتاب طهران القلق حيال المناطق الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية من البلد، خاصة وأن هناك صعوداً في التشدد في أوساط مجموعات الأقليتين الكردية والسنية اللتين تعيشان هناك. ورداً على رسالة النوايا العنيفة لتنظيم “داعش”، ارتفعت وتيرة النشاط المناهض للإرهاب في كل أنحاء البلاد، ونفذت قوات الأمن غارة يوم 14 حزيران (يونيو) في مقاطعة سيستان-بلوشستان، والتي استهدفت إرهابيين مشتبهاً بهم، مما أسفر عن سقوط قتيلين واعتقال خمسة آخرين.
يبدو السبب في تصعيد “داعش” نشاطه في إيران واضحاً: من الأسهل والأرخص كلفة شن حملة إرهاب وحركة تمرد مقارنة بخوض قتال تقليدي يهدف إلى احتلال والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي. وقد عانى “داعش” في الفترة الأخيرة من خسائر جسيمة في ميدان المعركة، وهو ما ألحق الضرر بسمعة التنظيم وصورة، في نتيجة تنطوي على مشاكل بالنسبة لتنظيم يزدهر بسبب وحشيته وقدرته المحسوسين. وتأمل المجموعة التي تحتاج بشكل يائس إلى تجديد وتلميع اسمها إلى تحقيق نجاحات ذات صدى واسع، مثل الهجمتين الأخيرتين على إيران، مما يشحذ همم قاعدة دعمها مرة أخرى.
أصبح هذا الهدف يحدد استراتيجية “داعش” العابرة للحدود، والتي ستصبح أكثر وضوحاً مع اضمحلال الأراضي المركزية للمجموعة بشكل لا مفر منه. وسوف يصبح الوضع أكثر خطورة بشكل خاص عندما لا تعود لدى المجموعة المزيد من الأراضي التي تحتفظ بها وعندما يسقط معقلاها الأخيران في الموصل والرقة. وعندما تخسر المجموعة الشعور بأنها قوة لا يمكن قهرها، سوف تتحول “الدولة الإسلامية” إلى نوع من التشدد المترحل، وسوف تعمل على تأجيج نيران القلاقل الطائفية في الأماكن الأخرى، ونشر الإرهاب على جبهة عريضة، على أمل خلق ظروف ناضجة لاستغلالها.
الضرب
في واقع الأمر، لطالما سعى “داعش” إلى توسيع وصوله إلى داخل إيران نفسها؛ حيث يرى التنظيم فرصة لتعبئة الأجزاء الطائفية في البلد لدعم قضيته. ويلاحظ أن التنظيم عمد في الأشهر الأخيرة إلى زيادة حجم دعايته الموجهة باللغة الفارسية -في محاولة واضحة لدفع الأقلية السنية في إيران إلى التمرد. ويبدو أن ذلك المخطط يعمل، حيث يعتقد بأن الأشخاص المتورطين في الهجومين يوم 7 حزيران (يونيو) الحالي هم من المواطنين الإيرانيين الذين ينتمون للأقليتين العربية والكردية، والذين عملوا وفقاً لأوامر من القيادة المركزية لتنظيم “داعش”.
بالإضافة إلى تأسيس ثورة راسخة ومتنامية في الوطن، لدى “داعش” حافز أعلى لاستهداف إيران: العمل على تقويض نفوذ تنظيم القاعدة هناك البروز في المنطقة. ونظراً إلى النظرة العامة إلى “داعش” باعتباره تنظيماً أكثر تطرفاً من القاعدة، واصل التنظيم انتقاداته صراحة عدم رغبة التنظيم السابق في استهداف الشيعة الإيرانيين خوفاً من انتقامهم. ولم يكن أسامة بن لادن قد أقر شخصياً العمل المباشر ضد إيران، لكن لنظرته القليل من التأثير على “داعش”، وهو المجموعة التي لا يعرف عنها الانضباط.
في محاولة لإدارة الوضع بعد الهجومين، أصدر الرئيس الإيراني حسن روحاني دعوة متوازنة إلى الوحدة والتعاون ضد “داعش”، حتى أنه دعا إلى العمل مع منافس إيران التاريخي، المملكة العربية السعودية، ضد العدو المشترك. لكن تأثير روحاني في الشؤون الإيرانية يظل محدوداً بسبب الآليات التي تعمل بها الدولة. والمعروف أن المرشد الديني الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، هو الذي يترأس مجلس الأمن القومي في البلد ويتولى في الوقت نفسه قيادة جهاز الحرس الثوري الإيراني. وتمتد سطوة خامنئي لتشمل أموراً تتجاوز مسائل الأمن إلى شؤون السياسة الخارجية. وبتخويل منه، من الممكن أن يجد جهاز الحرس الثوري الإيراني نفسه مخولاً بالعمل بمزيد من الاستقلالية في عموم المنطقة، وليس بالضرورة ضد “داعش” وحسب.
رد جهاز الحرس الثوري الإيراني على الهجومين (اللذين استهدفا البرلمان وضريح الإمام الخميني) بغضب وبتوجيه دعوات إلى الانتقام، لكن سخطه الجمعي ليس مقصوراً على “داعش” وحده. فقد اتهم المتشددون في داخل الجهاز الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بالتواطؤ في الهجومين، مستشهداً بزيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة للرياض كدليل على نوع من التواطؤ ضد إيران. ولدى جهاز الحرس الثوري الإيراني أصلاً أسباب للتطاحن مع واشنطن بعد الضربات الجوية المتعددة التي نفذتها قوات الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد مواقع للمتشددين المرتبطين بإيران في سورية، والتي أعقبتها تهديدات بالرد من جانب جهاز الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني الشيعي.
كان بوصع روحاني أن يتحدى هذا النوع من المواقف العدائية، لكن قيامه بذلك لن يفيده. وكان قد فاز بإعادة انتخابه في أيار (مايو) الماضي بالتعويل على دعم المعتدلين والإصلاحيين لكسب السباق الرئاسي. ويضعه ذلك في خلاف مع أصحاب الخط المتشدد في طهران، بمن فيهم وزير الخارجية جواد ظريف وغالبية قيادة جهاز الحرس الثوري الإيراني. وتحتاج إيران إلى عرض وجه قوي مباشر، لكن ذلك لا يعني عدم استمرار المناظرات الأيديولوجية خلف الأبواب المغلقة.
ما التالي؟
على الصعيد الداخلي، سوف تستمر قوى الأمن الإيرانية في ملاحقة المرتبطين بالهجومين أو تنظيم “داعش” بلا هوادة. وخارجياً، سوف يظل التزام جهاز الحرس الثوري الإيراني تجاه سورية والعراق باقياً. لكن وجود الوحدات المرتبطة بجهاز الحرس الثوري الإيراني والقوات الموالية على بعد شبر أقرب إلى قوات الائتلاف وحلفائها من الثوار في سورية سوف يفضي إلى احتمال ارتفاع وتيرة التداعيات. وفي الحقيقة، تحدثت الأخبار غداة هجومي طهران عن ضربة جوية وجهتها القوات الموالية للنظام السوري إلى قوات سورية الديمقراطية بالقرب من طبقة.
مع ذلك، تظهر إيران المزيد من ضبط النفس في العراق. ولا يأتي ذلك فقط لأن طهران غير راغبة في المخاطرة بتلقي ضربة ارتدادية من جارها المباشر، وإنما لأنها تدرك أيضاً أهمية القوات الخارجية عندما يتعلق الأمر بإضفاء الاستقرار على الحالة الأمنية المتردية في العراق. ومن دون دعم أميركي مباشر، فإن الجهد الرامي إلى تفكيك مجموعة “داعش” وطردها من الموصل سوف يتعثر على الأرجح. وسوف ترضى طهران بقصر نفوذها على بغداد، حيث تقوم بتقديم المساعدة للمليشيات الشيعية في البلد وتوفير الدعم لشخصيات وأحزاب سياسية مختارة. وعلى المدى البعيد، سوف يؤتي هذا النهج ثماره جيداً بالنسبة لإيران، وسوف يقوض في الوقت نفسه نفوذ واشنطن في العراق.
بالإضافة إلى ميداني المعركة العراقي والسوري، تستطيع إيران استخدام وكلائها لنثر بذور الفتنة في عموم المنطقة، ولو أن هذا الشأن يبقى أقل احتمالاً. وإذا أرادت إيران السعي إلى تقويض النفوذ الأميركي في الخليج، فإنها تستطيع السعي إلى زعزعة استقرار البحرين التي تبدو في مدى وصولها. وبالإضافة إلى ذلك، يقدم الخلاف المتواصل بين قطر ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي فرصة كبيرة للتدخل الإيراني. ولعل من المفارقات أن الضغط الذي تمارسه دول خليجية أخرى على قطر لحملها على اتخاذ موقف أكثر تشدداً من إيران ربما يكون السبب الجوهري الذي يجعل من البلد هدفاً للوكلاء الإيرانيين. وبكلتا الطريقتين، من الواضح أن إيران تشعر بأن هذه مواجهة يتوفر لديها فيها المحفز الآن -بالإضافة إلى القدرة- لصب الزيت على نار مشاعر السخط والاستياء في جزء من العالم تتصاعد فيه ألسنة اللهب مُسبقاً.

صحيفة الغد