القلق: عنوان العراق في مرحلة ما بعد داعش

القلق: عنوان العراق في مرحلة ما بعد داعش

يبدو أن مرحلة ما بعد داعش ستكون أكثر خطورة من مرحلة داعش،فمع تقهقر تنظيم داعش الارهابي في العراق واقتراب حسم معركة تحرير الموصل، طفت على السطح جملة مشاكل بعضها قديم متجدد كتحديد عائدية المناطق المتنازع عليها بعد تحريرها من سيطرة التنظيم وما يرتبط بها من صراع مكوناتي، وبعضها الاخر جديد له ابعاد قديمة وتحديدا فيما يتعلق بطريقة إدارة الحكم في العراق بعد التخلص من سطوة التنظيم، في ظل عودة مشروع الاقاليم الى الواجهة من جديد وتبنيه من قبل اطراف كانت معارضة له في السابق، والمقصود هنا (بعض الفصائل السنية). كل ذلك يحصل في ظل صراع إرادات دولية وإقليمية جعلت من الساحة العراقية مسرحا لها. لذا لا تبدو مرحلة ما بعد داعش واضحة الملامح في المدى الزمني المنظور. فكل ما يجري اليوم في العراق إنما يمتّ بصلة إلى محاولات الأطراف كلّها استغلال الفراغ الذي حدث بتأثير تداعيات ظهور داعش والقضاء عليه. فراغ لم تنج الحكومة من تأثيراته حين بدت ضعيفة في مواجهة الحشد الشعبي كما لم تعد الشخصيات السياسية السنيّة التي تمّ تكريسها من قبل النظام تحظى بالقبول القديم على المستوى الشعبي. وهو ما سينعكس على انتخابات 2018. يومها سيكون ممكنا الحديث عن مرحلة ما بعد داعش. وتبدي الأطراف السياسية في العراق اهتماما استثنائيا بما صار يسمّى بمرحلة ما بعد داعش. غير أن اللافت أن أحدا من تلك الأطراف لم يقدم رؤيته السياسية لتلك المرحلة.

تكتسب قوات الحشد الشعبي أهميتها من كونها تمثل الجناح العسكري لمحاربة تنظيم داعش في العراق، ورغم ما تلعبه من دور محوري في الحرب في البلاد فإن استمرار انتشارها بشكل واسع في عموم المحافظات العراقية يكتنفه الغموض. ويقدر عدد المقاتلين المنضوين تحت رايات الحشد الشعبي بأكثر من ستين ألفا، 35 ألفا منهم يشكلون قوام القوة البالغ عددها تسعين ألف مسلح. لذا يشكل بقاء الحشد الشعبي الذي تأسس بعد احتلال الموصل من قبل داعش، مشكلة اقتصادية وعسكرية للحكومة العراقية، فهو يستحوذ على نسبة توازي ميزانية الجيش الرسمي، فضلا عن مهامه السياسية وارتباط غالبية فصائله بإيران تمويلا وتوجيها وتدريبا. ويرى مراقبون للشأن العراقي إن الحشد أصبح قوة رسمية بقانون وهو منجز إيراني وتدين أغلب فصائل وقيادات الحشد بالولاء إلى المرشد الإيراني علي خامنئي ويشرف عليها النظام المخابراتي المتمثل بفيلق القدس وقائده قاسم سليماني، مذكرين بزيارة العبادي الأخيرة إلى طهران وتحذير خامنئي له من إضعاف قوة الحشد، معتبرا أن المساس بالحشد سيزلزل بغداد. وأكدوا على أن الحشد الشعبي يشكل ما بعد مرحلة داعش تهديدا خطيرا للأمن والسلم الأهليين وستكون له تداعيات على المشهد السياسي والانتخابات المقبلة، مبديا اعتقاده بأن إنهاء الحشد بقرار حكومي ليس سهلا ولا بد من اتّباع خطوات مبرمجة لإنهاء هذا الموضوع.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن الحشد الشعبي في العراق سيكون هدف الإدارة الأمريكية التالي، بعد القضاء على تنظيم داعش؛ وهو ما يتوضح من خلال تصريحات في أوقات سابقة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي شن مراراً حملات كلامية على إيران، مؤكدة أن الحشد الشعبي ستكون أبرز التحديات بعد الخلاص من تنظيم داعش في العراق. وبينت الدراسات أنه يتعين على الحكومة العراقية أن تقرر هل ستسمح لبعثة الدعم العسكري الأمريكية المتبقية، بالبقاء في العراق، وذلك في إطار حديثه عن دخول الحرب ضد تنظيم داعش جولتها الأخيرة. وترى هذه الدراسات أن لدى الإدارة الأمريكية خطتين في المنطقة بشأن العراق، الأولى “تقتضي أن يلجم العبادي تأثير الحرس الثوري الإيراني على الحشد الشعبي”. وأنه “مطلوب من العبادي منذ لقائه بترامب آذار/مارس الماضي أن ينفذ هذا السيناريو وهو الأفضل، أما السيناريو الأسوأ فهو في حال لم ينفذ العبادي هذا الاتفاق، ومن ثم يصبح أثر الحرس الثوري أقوى من العبادي نفسه. هنا سيكون العراق ساحة محتملة للمواجهة مع النفوذ الأمريكي المتزايد في المنطقة”.في تلك الحالة ستلجأ الولايات المتحدة الأمريكية للخطة الثانية”، والتي تتمثل بمواجهتها الحشد الشعبي من خلال حلفاء سنة أو حلفاء من أهل المناطق، مثلما واجهت القاعدة”، في إشارة إلى الصحوات التي دعمتها أمريكا لمقاتلة القاعدة في 2006.

أما فيما يتعلق بالمشهد الانتخابي القادم في العراق، تسعى الأطراف السياسية إلى التحقق من حجم تمثيلها في تلك المرحلة التي لا يزال تقسيم الأدوار فيها غامضا، بسبب الصراع على مواقع النفوذ بين أطراف المكوّن الحزبي نفسه. فالتحالف الوطني الحاكم وهو ائتلاف الأحزاب الشيعية منقسم على نفسه في مواجهة الموقف الواجب اتخاذه من مسألة المشاركة السنيّة في الحكم، حجمها ونوعها والشخصيات السنية التي لا تزال موضع ثقة بالنسبة إلى إيران أولا والتحالف ثانيا. أما المعسكر السنّي الذي عرف بتشظي موقفه من العملية السياسية برمّتها فإن هناك محاولات تبذل لإعادة إنتاج الرموز الطائفية التي تم استبعادها أو إخفاؤها بذريعة القبول الذي تحظى به تلك الرموز على المستوى العربي وهو ما يساعد على جذب الاستثمارات في المناطق المدمرة. وكما يبدو فإن تلك المحاولات لا تزال تصطدم بالحظر الذي فرضه صقور المعسكر الشيعي على الانفتاح عربيا.

وإذا ما كان خطر داعش بدأ بالغياب من يوميات الإنسان العراقي العادي فإن الخراب الذي لحق بالموصل وهي كبرى المدن السنية سيترك تأثيرا مخيبا للآمال وسوداويا على المشهد. ذلك أن لا أحد من دعاة المشاركة السنيّة في الحكم سيجرؤ على الإفصاح عن حجم الخسائر البشرية والمادية التي نتجت عن عمليتي استيلاء داعش على الموصل وتحريرها. فلقد دفعت مدينة الحدباء الثمن مرتين. مرة حين سُلّمت إلى داعش في سياق خطة مدبّرة ومرة أخرى حين تمت استعادتها من التنظيم الإرهابي.على صعيد آخر فقد كان أمل الزعماء الأكراد وكلهم من دعاة انفصال الإقليم الكردي عن العراق كبيرا في أن تسمح القوى الإقليمية وبالأخص تركيا وإيران بإعادة رسم حدود إقليمهم من خلال قضم المزيد من الأراضي التي سمّيت بالمتنازع عليها مستغلين قيام البيشمركة بتحرير تلك الأراضي من قبضة داعش. وكان الاستفتاء الموعود هو محاولة لجس النبض. غير أن ردود الأفعال لم تكن مشجعة لذلك خفتت حماسة أولئك الزعماء وصارت أصواتهم لا تُسمع في انتظار ما يمكن أن ينتج عنه الصراع الشيعي-الشيعي من جهة ومن جهة أخرى الصراع السنّي-السنّي. المهم إن استعادة العراق وسورية من «داعش» شرعت أبوابه أمام القوى التي ساهمت في عملية التحرير مثل وايران والولايات المتحدة.

معركة الموصل ضد داعش تكاد تنقضي بهزيمة داعش لكن الهزات الإرتدادية وتوابع الزلزال الذي أحدثه في العراق ربما تقود إلى وضع أكثر خطورة في هذا البلد الذي يعاني خلافات سياسية واجتماعية ومذهبية. حذّر مراقبون للشأن العراقي من إمكانية تقسيم العراق في ظل لافتات تهميش ومظالم ترفعها مكونات عراقية ، ودعوات تقرير المصير ينادي به الأكراد واتهامات بالفساد والهيمنة وخلق الفوضى. ومع قُرب انتهاء معركة الموصل، بدأت الأحزاب العراقية تتحدث عن فكرة الأقاليم ومحافظات جديدة قد تكون المدخل الفعلي لنهاية وحدة العراق، خاصة إذا ما اتخذ هذا التقسيم الإداري المقترح صبغة الطائفة أو القومية. هذا كله يأتي في ظل تمدد مليشيات مدعومة من دول إقليمية ربما ترغب في إبقاء الأوضاع في عراق هشة أو تقسيمه خدمة لمصالحها الاستراتيجية.

ربما يكون تقرير المصير الذي تنوي حكومة إقليم كردستنان العراق تنظيم استفتاء بشأنه مدخل لتقسم العراق مع تحفظات تبديها الحكومة العراقية عليه، لكن إذ تم هذا الاستفتاء فإنه من شأنه أن يشجع المكونات العراقية الأخرى على المطالبة بذات المصير. إذن،هل تكون معركة الموصل بداية نهاية داعش في المنطقة وبداية أيضًا لتجاذبات سياسية كبيرة تعصف بالحد الأدنى من وحدة العراق؟، هل بوسع العراقيين تجاوز مرحلة ما بعد الموصل بسلام؟ أسئلة تبقى معلقة ورهن بقدرة الساسة العراقيين على تفادي عقبات مرحلة قد تكون الأصعب في تاريخ العراق المعاصر. أن تعقد المشهد العراقي الراهن، لا سيما من خلال الصراع الإيراني الأميركي كما من خلال ما يطرحه استفتاء كردستان من تحديات وعدم التوصل إلى مصالحة داخلية حقيقية،  يجعل القلق يكتنف مرحلة ما بعد داعش في العراق.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية