استعادة الموصل إما طريقًا لوحدة العراق أو تقسيمه

استعادة الموصل إما طريقًا لوحدة العراق أو تقسيمه

في العاشر من تموز/يوليو الحالي أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في بيان، عن تحرير مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، بشكل كامل من تنظيم “داعش” بشكل كامل، وذلك بعد تسعة أشهر من القتال المتواصل في أكبر حملة عسكرية يشهدها العراق منذ الإحتلال الأمريكي له في التاسع من نيسان/إبريل 2003. وقال العبادي في كلمة له بثها التلفزيون الرسمي من مقر قيادة قوات مكافحة الإرهاب بالموصل، إنه يعلن من هنا وللعالم أجمع “انتهاء وفشل وانهيار دولة الخرافة والإرهاب الذي أعلنت من هنا من مدينة الموصل قبل ثلاث سنوات”. واعتبر العبادي أن “من حق العراقيين أن يفتخروا بهذا النصر الذي صنعوه لوحدهم”. وأشار إلى أن “العمليات العسكرية تمت بتخطيط وإنجاز وتنفيذ عراقي ولم يشارك العراقيين أحد من باقي الجنسيات في القتال على الأرض”. وتابع أن أمام العراق اليوم مهمة الاستقرار والبناء وتطهير خلايا تنظيم داعش.

من جهته، رحب التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بإعلان النصر في الموصل وأكد أن القوات العراقية تسيطر تماما على المدينة، لكنه أشار إلى أنه لا يزال يتعين تطهير بعض مناطق الموصل من العبوات الناسفة وأي فلول من تنظيم داعش. وأضاف التحالف أن “النصر في الموصل لا يعني نهاية التهديد العالمي لتنظيم الدولة، وعلى العراق أن يتحد لهزيمة التنظيم وضمان عدم عودة الظروف التي أدت لظهوره”.

 وكان أحد المحتفلين أيضاً جنرال الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني الذي هنأ العراقيين على انتصارهم لكنه نسبه إلى جهود «الحشد الشعبي» وفتوى المرجع الشيعي علي السيستاني، في إبعاد متقصّد لفكرة الدولة العراقية (التي يمثّلها السيد العبادي نفسه، ومؤسسات الرئاسة والحكومة والبرلمان والجيش) وفي تركيز على الجانب الجهاديّ الشيعيّ، وكان التأكيد البليغ على وجه معيّن للبلاد قول الجنرال إن العراق «لن يسمح ببقاء أي قوّات أجنبية طامعة»، وهو يعني، بالضرورة، أن إيران، هي خارج تعريف «القوّات الأجنبية الطامعة»، أو أن العراق نفسه هو مقاطعة إيرانية.

وقال متابعون للشأن العراقي أنه من حق حيدر العبادي أن يرفع يده تحية للقوات التي تحتفل بالنصر. إنه رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة. والأكيد أن مصير موقعه وتجربته كان معلقاً على نتائج معركة الموصل. واليوم باستطاعته القول إن الجيش اندحر في عهد سلفه لكنه انتصر في عهده. وإن الموصل سقطت في عهد المالكي واستعيدت في عهد العبادي. وإن انتصار الموصل يضاعف شرعيته داخل حزبه والمكون الذي ينتمي إليه وكذلك على الصعيد الوطني. وهذا ليس قليلاً بالنسبة إلى من يعرف قصة العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء الحالي وسلفه الذي بقي ظله مهيمناً على الحياة السياسية رغم خروجه من مكتبه تحت وطأة كارثة الموصل.

وعلى الرغم من هذا النصر، تستمر حالة غموض المشهد في الموصل بشكل خاص والعراق بشكل عام  في مرحلة ما بعد داعش، حيث  ينتظر الموصل والعراق العديد من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، فيما يتعلق بالموصل هناك تحدي النازحين من الموصل وإعادتهم إلى بيوتهم المدمرة، والدعوات التي تنادي بتقسيم الموصل، فجميع الأطراف التي شاركت في معركة الموصل كانت متفقة على استعادتها من داعش لكنها لم تتفق على كيفية إدارتها بعد استعادتها. وأن الموصل ” لن تعود كما كانت قبل 2014″.  و وعراقيًّا قد يشهد تفجر صراعات مستقبلية فيه بأي لحظة. كالصراع العربي الكردي حول كركوك وسهل نينوى وسنجار والمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والحكومة العراقية، إذا أخذنا بعين الاعتبار الرفض الكردي الانسحاب من محيط مدينة الموصل والإصرار على ضم مناطق عديدة في محافظة نينوى للإقليم الكردي، ضمن ما يسميه الزعماء الكرد «حدود الدم» والبدء في أيلول/سبتمبر القادم بعملية الاستفتاء لشرعنة انفصال الإقليم محليا ودوليا،

والصراع السني الشيعي حول نزاهة العملية السياسية وعدالة التمثيل وتوازن النظام السياسي بمؤسساته المختلفة. وصراع شيعي شيعي بين مقتدى الصدر ونوري المالكي، وصراع بين مختلف المكونات الكردية، والصراع مع الفساد والترهل الإداري وتضخم الجهاز البيروقراطي وانعدام كفاءته وقضايا النمو الاقتصادي وإعادة البناء والإعمار وغير ذلك الكثير من تحديات الداخل ، الأمر الذي بات يهدد وينذر بمشكلات سياسية خطيرة، قد تؤثر على التوازن الإقليمي ووحدة العراق، نتيجة للاشكاليات الناتجة عن تدخل الدول المجاورة في مستقبل هذه العراق، والتجاوز على ثوابت الدولة الوطنية العراقية وخطوط سيادتها.

وفي خضم هذه التحديات والصراعات، المرتبطة بعملية تحرير مدينة الموصل، يبقى السؤال الأول الذي يهم الشارع العراقي منحصراً في سياق ما ستؤول إليه الأمور بعد طرد عناصر داعش من مدينة الموصل، والمخاوف المشروعة من المشاكل والأزمات المحتملة المقبلة لمرحلة ما بعد التحرير، بعد السيطرة التامة على المدينة وقصباتها، في الوقت الذي تتصارع تركيا وإيران لرسم خريطة المنطقة المقبلة حيث تقترب إيران عن طريق مشاركة مستشاري الحرس الثوري مع قوات «الحشد الشعبي» من إكمال تمددها نحو الحدود الدولية بين العراق وسوريا، وتستمر تركيا في تعزيز تواجدها في شمال العراق، عن طريق دعمها لقوات «الحشد الوطني» ومتطوعي «أبناء نينوى» لبسط سيطرتها على جبل بعشيقة والمناطق المجاورة لمدينة الموصل.

بعد ثلاث سنوات وبعد كل الدمار الذي لحق بالعراق من الصعوبة بمكان الرهان على الحل الأمني والعسكري لإنهاء ظاهرة الإرهاب واقتلاعها من جذورها، إذ أن محافظة نينوى هي واحدة من أكبر محافظات العراق، وفيها تنوع قومي وديني ومذهبي وطائفي، وحتى الآن لا نلمـح وجود خطة  محكمة من حكومة بغداد للتعامل مع الوضع المستجد الذي يستلزم المرور بمرحلة انتقالية تنتقل فيها الموصل وجوارها من الفوضى إلى المرحلة الدستورية عبر تنشيط المؤسسات من جديد مع دور أساسي للعرب السنة لملء الفراغ الذي سيتركه داعش في الموصل. أما الاكتفاء بالقبضة العسكرية بعد الخراب الذي سببه داعش، فيعني أن البعض يحول النصر ضد الإرهابيين إلى انتقام وإخضاع يمكن أن يؤديا إلى نكسات في هذا المكان أو غيره.

تقدر قيمة إعادة الخدمات البسيطة إلى الموصل على أثر الدمار الذي خلفه تنظيم داعش في العراق – بعد اتباعه سياسة «الأرض المحروقة» – بأكثر من مليار دولار، بينما تفوق تقديرات مجمل أعمال إعادة الإعمار مبلغ 100 مليار دولار. ولكن لا يصح تقييم أضرار «داعش» على العراق بالتكلفة المالية فقط؛ فأضرار «داعش» متعددة الأوجه، وعلى رأسها الأضرار التي ضربت المجتمع، بالإضافة للخسائر البشرية والأضرار الكبيرة التي أصابت الثروة التاريخية والمعالم الأثرية. وبينما من الضروري حصد الأضرار البشرية – ولم تعلن رسمياً إحصاءات حول أعداد القتلى والجرحى بين المدنيين والمقاتلين حتى الآن – هناك ضرورة لمنع تكرار الأحداث التي أدت إلى تغلغل مقاتلي «داعش» في الموصل والأنبار، وغيرها من مناطق داخل كل من العرق. وذلك يعني منع تكرار الانفلات الأمني، واضطهاد فئات معينة من المجتمع، بناء على هويتها الإثنية أو الطائفية، كما يعني البحث عن حلول جذرية لفشل الدولة. وإعادة إعمار مدن تاريخية تجسد الحضارة العربية، مثل الموصل وحلب، ضرورة من أجل رسم الخريطة السياسية لما بعد «داعش»، في كل من العراق وفي العالم العربي بشكل أوسع. فمناظر الدمار لا يمكن أن تكون هي السائدة في ذهن المواطن العربي عندما تكون مكافحة الإرهاب هي الهدف الأسمى في هذه المرحلة.

يتوجب كذلك على حكومة حيدر العبادي والطبقة السياسية السنية المتعاونة معها وقيادة إقليم كردستان التعاون في مواجهة القضايا الشائكة بروح جديدة مثل منع تكريس التغير الديمغرافي في الموصل والإسراع في استيعاب النازحين وتحقيق المصالحة الوطنية بحدها الأدنى ومكافحة الأفكار الإرهابية التي زرعها داعش، خصوصا عند الجيل الجديد وذلك في موازاة منع كل خطاب مذهبي مدمر للهوية العراقية.

ربما يوجد من يعترض ويقول إن الرهان على الوطنية العراقية أمر مثالي بعد كل الذي حصل وبعد تراكم التدمير والأحقاد. لكن لا بد من الملاحظة أنه في الحرب ضد داعش كان هناك مناخ عام من التعاون في العراق بين السنة والشيعة والأكراد، وأن الحرب على التنظيم جمعت الفصائل المتعارضة سويا. حصل ذلك من قبل خلال حرب العراق وإيران (1980-1988) حيث صمدت الوطنية العراقية ولم ينهشها الفيروس المذهبي إلا منذ 2003.

لمنع عودة «داعش» إلى هذه المدينة أو تلك. ولمنع ولادة ما يشبه «داعش» أو ما هو أخطر منه، لا بد للعبادي من تحويل انتصار الموصل إلى تفويض بالعودة إلى بناء الدولة العراقية على قاعدة المصالحة والمشاركة، وهي قاعدة تتخطى المحاصصة الطائفية والمذهبية. على حيدر العبادي أن يلتفت إلى ساعته. الصعوبات هائلة والضغوط كثيرة. لكن جعل معركة استعادة الموصل بداية لعودة العراق تستحق المغامرة. عودة العراق دولة طبيعية بعد ترميم العلاقات بين المكونات. وإذا سادت هذه الروح في بغداد سيمكن العثور بالتأكيد على صيغة لإبقاء إقليم كردستان جزءاً من العراق، حتى ولو قال المكون الكردي كلمته في الاستفتاء.
عودة العراق حاجة عراقية ملحة. وحاجة عربية وإقليمية. انكسار الضلع العراقي أطلق شهيات الدول غير العربية في الإقليم. وانكسار الضلع العربي السُنّي في الداخل أطلق عملية التفكك والتشرذم وحوّل العراق مسرحاً لميليشيات الداخل والخارج. الكلام الأخير للمرجعية عن ضرورة تساوي جميع العراقيين من كل المكونات أمام القانون يجب أن يشجع العبادي على الذهاب أبعد في هذه المحاولة.
لا تكفي استعادة الموصل. لا بد من عودة العراق إلى وحدته ومؤسساته وحرية قراره واحترام حدوده. العراق ليس دولة هامشية. لا في الجغرافيا ولا في التاريخ. ووحدها يقظة الروح العراقية بعيداً عن مشاعر الشطب والاستئثار والتعصب تحمي الكيان وتمنع عودة «داعش» وأخواته إلى هذه البلدة أو تلك المدينة.

وعليه لا نبالغ إذا قلنا أن تحرير الموصل سيكون مدخلًا لتحديد مصير العراق إما أن يتجه نحو الوحدة أو التقسيم.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية