الميليشيات الهجينة: تغّول فوق الدولة.. في جمهوريات الطوائف

الميليشيات الهجينة: تغّول فوق الدولة.. في جمهوريات الطوائف

تشهد جبهة صلاح الدين منذ الشهر الماضي حملة عسكرية لقوات عراقية، وميليشيات “الحشد الشعبي” بقيادة “الحرس الثوري” الايراني، وقد نقلت التقارير معززة بالصور وجود قائد فيلق القدس قاسم سليماني للإشراف على العمليات التي تتم هناك، وهذا بحد ذاته دلالة كبرى على مدى أهمّية هذه الجبهة الآن بالنسبة لإيران.

 ومن المعلوم أنّ جبهة صلاح الدين تشكّل عملياً منطلقاً استراتيجياً لتحرير مدينة الموصل ثانية كبريات المدن العراقية. والتي سقطت بيد قوات “تنظيم الدولة ” في حزيران /يونيو 2014. وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” في معرض تعليقها على الأحداث: ” فان تحقيق النجاح في تكريت يعني الدفع بالبرنامج الزمني لحملة الموصل، بينما الفشل في هذه الحملة يعني المزيد من التأخير على الأغلب”.

ولعل الاسراع في تحقيق تقدم عسكري على الارض في العراق، سيعزز من القدرات الايرانية على مختلف الاصعدة، في وقت تشير فيه كل الدلائل الى احتمال تحقيق اتفاق امريكي ــ ايراني نووي شامل، واذا ما تم ذلك، فان هذا الامر يستلزم مزيدا من الاندفاع العسكري على الجبهات، ما يتطلب تجنيد الطاقات وزج المزيد من العناصر البشرية في المعارك الدائرة، فالقوات التي تهاجم تكريت ومنطقة صلاح الدين المحيطة بها تتكون بشكل رئيس من “آلاف المقاتلين الشيعة الذين ينتمون الى مختلف الميليشيات، التي وضعت في اطار رسمي.

العراق..ضيعة إيرانية وخلافة داعشية

وتكشف الكثير من السلوكات التي رافقت العمليات العسكرية، عن اتجاهات لاحزاب نافذة في الحكومة، ترى الاحتفاظ بأي أراضٍ تتم استعادتها من “داعش”، ومنع سكانها من العودة لها مجدداً، او ان تكون عودتهم مرهونة بشروط الولاء والانصياع، لمناخ يكون فيه للميليشيات الموالية لطهران الكلمة العليا، وهو ما يحمل على القول ان من يمسك الارض لابد ان يكون مواليا لإيران ومتحالفًا معها.

 والتحالف السياسي الشيعي, رغم بعض خطواته الباهتة على مستوى المصالحة والشراكة في الحكم بعد تشكيل حكومة وحدة وطنية, إلا أنه يعد ايران شريكاً استراتيجياً في الحرب ضد “تنظيم الدولة “.

وتشير العديد من المعلومات الى توسع عملية خصخصة الميليشيات الشيعية وانتشارها في  المنطقة، وربطها مباشرة بـ”الحرس الثوري” الإيراني، ما يضفي التزاماً لدى مقاتلي هذه الاذرع العسكرية الموالية لطهران، بسرعة الاستجابة لطلبات المرجعية الدينية الايرانية، ليكونوا تحت امرة المرشد الاعلى كلما تطلب الامر ذلك. وبعبارات واقعية، فان طرد “داعش”، -وهو امر ضروري لا حياد عنه-، سيجلب معه مزيداً من التابعية للسياسة الايرانية، ويجعل العراق اكثر اعتمادا وتماهياً مع النظام في إيران.

مرتزقة هنا وهناك

الأخطر من كل ذلك، ان اشراك مقاتلين شيعة من جنسيات مختلفة في المعارك الدائرة في العراق، يعبرعن ثقافة عابرة للوطنية، تحرص ايران على ترسيخها لدى الشيعة في العالم، بوصفها الحامي لهم، ما يعني تعريض النسيج الوطني في هذا البلد او ذاك الى العطب. وهذا سيؤدي حتماً إلى تزايد الصدع الداخلي، وعندها ستتعرض الاوطان لضغوط امنية وسياسية شديدة، سيصار معها الى تدخل ايراني مباشر وغير مباشر تحت دعاوى الحماية المذهبية. فالتلاعب بامن الدول من خلال فتح المجال امام شيعة من دول جوار العراق، للانخراط في جبهات عدة يمثل مصلحة قصوى للاهداف القومية الايرانية العليا، لا يختلف عن نهج “تنظيم الدولة ” الذي يقول بعالمية حركته، ليجمع المقاتلين من اصقاع الارض طلبا لتحقق اهداف بعينها.

الكثير من المحللين يعدون صعود نجم “داعش”، يصب في المصلحة الايرانية، فهو من جانب ووفقا لسياسة محاربة “الإرهاب” يعد المدخل للتقريب بين إيران وحلفاء الولايات المتّحدة الإقليميين، وسيحل الإشكالية الناجمة عن التعاون المتزايد مع طهران، والتنافر المتزايد مع حلفائها في المنطقة ولاسيما تركيا والسعودية. ومن جهة اخرى فان اعادة هيكلة منطقة الشرق الاوسط التي يجري ترتبيها  اليوم انما تعكس رغبات ايرنية اريد لها ان تسجل نقاطا مضافة الى رصيدها، قبل الانتهاء من ملفها النووي، يقلل من رزمة تنازلاتها. واخيرا فان مزاجاً شيعياً آخذ بالتصاعد يعبر عن وحدة الاتجاه والهدف، تماهياً مع دعوات ايران، ليشكل هوساً بالانتصار وعدم التوقف .

وتوحي مصادر استخباراتية نقلت عنها وسائل الإعلام، أن “الحرس الثوري” الايراني، استقطب المئات من المقاتلين الشيعة للقتال في جبهة صلاح الدين، وتحديداً ميليشيات شيعية بحرينية بقيادة رجل الدين ابو نزار العلوي، فضلا عن مشاركة “حزب الله” اللبناني في القتال الدائر في سوريا والعراق، التي اعلن عنها امينه العام حسن نصر الله.

لقد تحركت مؤسسة “الحرس الثوري” لتجنيد المرتزقة الشيعة، لتقديم خدماتهم العسكرية دعماً لمشروع الهيمنة الايرانية المغلف بالاعتبارات المذهبية، سواء لقلب نظام الحكم كما حدث في صنعاء، او لحماية نظام ما أو حماية رئيس دولة مستبد لا يثق به الشعب مثل بشار الاسد، او لتأجيج صراع داخلي بهدف التدخل وقلب المعادلة السياسية والبحرين نموذجاَ.

ونسبت تقارير أمنية عديدة “للحرس الثوري” تنفيذ أعمال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يسمى بـ”الربيع العربي” تُرجمت من خلال نشاط منهجي لدعم النظام السوري، وترتيب إجراءات نقل السلاح اليه، وحشد المرتزقة لتنفيذ عمليات نوعية أسهمت في خلق بؤر صراع فيها غير قابلة للاحتواء.

ويتزامن التحرك الايراني مع عملية تحول على الصعيد العالمي بخصوص قوة الدولة القومية، التي اضحت تعيش بيئة “متعددة المحاور” تتنافس فيها سلطة الدولة مع الشركات المتعدية للحدود، والهيئات الرسمية العالمية والمنظمات غير الحكومية، والمصالح الإقليمية والاثنية، والتنظيمات المسلحة على مستوى العلاقات الدولية. ومن هنا فإن وجود محترفين يحملون السلاح لمصلحة جهات خاصة، يضعف احتكار الأنظمة التقليدية للقوة العسكرية، ويعجل ظهور عصر القوى الخاصة.

  وعلى هذا الاساس، بدأت إيران بتنظيم صفوف المجندين، حيث خلقت عدة ميليشيات في العراق بزعامات ومرجعيات مختلفة، لتسهل قيادتها ومنعها من التمرد، وتحت مسميات متعددة، ترتبط كلها بأفكار مذهبية وانتقامية، فضلا عن ارسال مرتزقة من عدة جنسيات أخرى سواء في العراق او سوريا.

غير أن هذا النمط لا يقتصر على الميليشيات الموالية لإيران، فالجماعات المسلحة الجهادية أمثال “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” وغيرهما تتصور مجالاً أو فضاءً سنّياً يتجاوز حدود الدول الوطنية في بلاد الشام، وصولاً إلى شبه الجزيرة العربية. وبات يقابلها تصوّر منافس لمجال أو فضاء شيعي يربط أماكن جغرافية ونقاط دينية-تاريخية محددة من العراق إلى لبنان، مروراً بسوريا.

 إن مجمل هذه الأشكال العسكرية المدمجة او الهجينة، التي تخوض حروبا لاتؤدّي فقط إلى إعادة تركيب الدول الوطنية (أي القُطرية) القائمة، بل وتسهم في بناء كيانات سياسية بديلة تستند إلى أواصر وهويات اجتماعية- ثقافية دون الوطنية أو فوقها. وتماما كما عبر “داعش” عن عزمه بإزالة الحدود في الشرق الأوسط التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، فان المبليشيات الشيعية المدعومة من إيران هي الاخرى دخلت في اللعبة، لتكون لها كلمتها في فوضى الجغرافيا والدم.

وما يزيد من المخاوف، التناغم الميداني بين واشنطن وطهران ضد “داعش” سواء في سوريا حيث تحاول إدارة أوباما تقديم جائزة كبرى لطهران بتعويم الأسد، أو في العراق حيث أعطيت الكلمة كليًا للإيرانيين، والتساؤل المطروح هنا: كيف سيتم منع حدوث توترات مذهبية، في حرب يقودها الضباط الإيرانيون، وثلث قواتها من الجيش العراقي وثلثان من “الحشد الشعبي” الذي تشكو المناطق السنّية مما يقوم به من انتقامات وتجاوزات؟

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية