هم لا يقاومون غير الحرية

هم لا يقاومون غير الحرية

ليس هناك من خديعةٍ مرّت علينا، وكانت أشد إضرارا بمصالحنا وقضايانا من أكذوبة المقاومة والممانعة التي لعبت أخطر الأدوار في حفر وتعميق الهوة بين العرب، وفي شقّهم إلى معسكرات متعادية باسم تحرير فلسطين تارة، وحتمية المعركة وفوريتها ضد العدو الصهيوني تارة أخرى، بينما كانت الحقبة تتطلب توافقاتٍ وطنيةً وقوميةً تجسّر غربة النظم عن شعوبها وقضاياها، وخلافاتها وتناقضاتها البينية، وتقرّب أطراف الجسد العربي الرسمية والشعبية بعضها من بعض، عبر حوار شفاف، صريح ومفتوح بين النظم، وأقنية وحدود مفتوحة بين شعوبها.
هذا الحوار الذي أحلت دول المقاومة والممانعة محله تباعدا غذّته سياساتٌ ذات ارتباطات خارجية وداخلية استبعادية الطابع، فوّت غيابه فرص وصول كل بلد وشعب في المنطقة إلى مشتركاتٍ، تنتجها توافقات حرة ومصالح عليا موحدة، يمكن في حاضنتها بلورة آليات تعين سبل الالتزام بها ومداه، وتحدّد المهام اللازمة لتحقيق أهدافها في أمد قريب ومتوسط وبعيد، والعمل الضروري لبلوغها ومراحله المتعاقبة والتدرّجية، وصولا إلى تكريس بيئة وطنية وقومية، تهمش خلافات النظم العربية وتناقضاتها أو تزيلها، وتوجه جهودها بالتكامل الضروري نحو حماية الذات وردع العدو، وتطبيق القرارات الدولية حول دولة فلسطين العربية، كما رسمها قرار التقسيم بأرضها التي تبلغ نيفا وخمسة وأربعين بالمائة من مساحة فلسطين الكلية .
بدل حوار التوافق الوطني والقومي، الداخلي مع الشعب، والخارجي مع المجال العربي، قامت الممانعة على مقاومة هذا النهج الذي استبدلته بتخوين حكام معظم البلدان العربية، وبشحن العالم العربي بتناقضاتٍ وانقساماتٍ جديدة، طائفية ومذهبية أساسا، غذّتها بكل ما من شأنه إدامتها وتمكينها من تفجير مجتمعاتها، ونقل علاقاتها من حال سلمية وباردة إلى طورٍ عنيفٍ وحربي الاحتمالات، روّجه بالأمس حافظ الأسد وحزبه، ويروّجه اليوم حسن نصر الله في كل ما يقوله ويفعله، فلا عجب أن عداءه للعرب صار أشد حدّةً وراهنية من عدائه إسرائيل. وللعلم، فإن

الأسد الأب لم يكن يذكر إسرائيل، إلا عندما يجري ديماغوجيا المقاومة والصمود على لسانه، كما لم يأمر يوما بوضع خطط عسكرية طويلة الأمد، قابلة للتطبيق ضد محتلي الجولان، بينما تركّز عنتريات نصر الله أكثر فأكثر على حربه الإلهية ضد السوريين والعرب، حتى غدت خطبه، سيئة الإخراج، مجرد تفوّهات ناقمة تطفح بالحقد واللؤم ضد “شعب سورية التكفيري”: ضحية حزبه الذي ينقل معارك المقاومة والممانعة من العلاقة مع عدو إسرائيلي، يحتل مناطق لبنانية حساسة إلى علاقات العرب التي لم تكن يوما أشد تمزقا وتناقضا منها اليوم، حتى ليطرح نفسه السؤال: إذا كانت الممانعة والمقاومة تسكن وتحيد جبهاتها مع إسرائيل وتفتحها وتسخنها مع العرب، فلماذا تعتبر ممانعة ومقاومة، وما هي وظيفتها الحقيقية في بلداننا؟ ومن يقارن “ممانعة” حزب الله حيال العدو الإسرائيلي بمقاومته الثورة السورية يجد أن الأولى كانت في أوجها متقطعة ومحدودة زمانيا ومكانيا، وأنه استخدم فيها عددا محدودا من المقاتلين، فترة قصيرة جدا في أغلب الأحيان. لذلك لم تكن تنجح في تحرير أراضي لبنان المحتلة، لكنها أدت، في المقابل، إلى سيطرته الكاملة على لبنان، دولة ومجتمعا، وحوّلته دولة تحتلها إيران، في حين تدخل مقاومته للثورة السورية التي ترجمها إلى عدوان شامل على كل فرد وبيت في سورية عامها الخامس، من دون أن يتوقف دقيقة عن قتل مواطنات ومواطنين، لطالما اعترف نصر الله بارتباط “مقاومته” بدعمهم، قبل أن يغير رأيه وموقفه بأوامر من “المرشد” الإيراني خامنئي، عدو السوريين والعرب، الذي لا يرى من ثلاثة وعشرين مليون مواطن سوري غير غاصب السلطة فشار الأسد، ولا يهمه غير خلفيته الطائفية، المتفقة مع مذهبية طهران والمتقاطعة معها. لذلك، ليس تشدّق المرشد، وتابعه اللبناني، بفلسطين غير مادة تسوّق من خلال أكاذيبها الفاقعة سياسات حجبت حقائق كشفتها الثورة لحسن الحظ، هي أن التقاء مذهبية الملالي وطائفية الأسدية قصم ظهر أية مقاومة سورية لاحتلال الجولان، وأحبط أي سعي سوري لتحرير أرض الجولان من الصهاينة، وفبرك بدلا منها عمليات حزب الله المتقطعة والمحدودة التي لا علاقة لها إطلاقا مع الجولان، واتسمت غالبا بطابع تهويلي، فضحته تهويمات نصر الله الإلهية، ومساعيه لاستثمار أية رصاصة يطلقها مرتزقته في سورية والعراق واليمن إلى القضاء على المطالبين بحريتهم، وما أنتجه تاريخ طويل ومشترك من علاقات طبيعية بين العرب، ولصالح إيران الملالي: الدولة التي يحتل جيشها أراضي عربية في الأحواز، ويستولي، بمعونة مرتزقتها العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، على السلطة في هذه البلدان جميعها، ويهدّد البحرين والكويت، ويعلن تصميمه على إلحاق المشرق العربي وبلدان الخليج بإمبراطورية فارس الشيعية التي يعتبر مسؤولوها البلدان سابقة الذكر محافظاتٍ إيرانية هي جزء تكويني من دولتهم، أما الفضل في ذلك فيعود إلى احتلالها بقوة “المقاومة”، بينما ترتع الصهيونية بالأمان في فلسطين والجولان وتلال شبعا ومزارع كفر شوبا، وتسدّد الضربة تلو الأخرى، في سورية ولبنان، لقتلة السوريين باسم الممانعة والمقاومة، ولا تتوقف عن تذكيره بقدرتها على إلزامه بسياساتٍ منخفضة السقوف تمنعه وطهران من تخطيها!
بدأت أكذوبة المقاومة بشق العرب، وها هم أبطال المذهبية يخوضون حربا شاملة ضد شعوب أربعة بلدان في المشرق واليمن، ثم لا يخجل نصر الله وفشار الأسد من الحديث عن المقاومة، كأن الجولان ليس محتلا بسبب انعدام المقاومة الأسدية لاسرائيل منذ خمسين عاما، وحزب الله لم يدخل الزمن الجولاني/ الأسدي منذ نيف وعشرة أعوام لم يرم خلالها وردة على المحتل الإسرائيلي لجنوب لبنان، أو كأنه لم يحول وجهة مقاومته من إسرائيل إلى العرب عامة وسورية خاصة، ولم يقتل ألف عربي مقابل كل إسرائيلي سقط على يديه، ولا يقاوم المطالبين بالحرية، والمناضلين في سبيلها من السوريين خصوصا الذين غزاهم نصرالله بذرائع مذهبية، كسخافة حماية “زينب” من سبي جديد، كأن امرأة فارقت الحياة قبل قرابة 1500 عام يمكن أن تسبى بعد أن غدت عظامها مكاحل، حسب قول العامة، أو كأن هذه الحجة لا تطرح السؤال الخطير بشأن قدرة الكلمات والتهرية على تحويل غزو مذهبي لشعب سورية إلى عمل من أعمال المقاومة؟ وهل سبق لغزو مذهبي، تكمن وراءه دوافع طائفية، أن أنتج غير حروب أهلية ودينية، يقتل فيها الأبرياء والآمنون، ولا تؤذي ذبابة للعدو؟
بغزو حزب الله سورية، وحرب الأسد على شعبها، واختراق إيران العالم العربي، انتقلت منطقتنا إلى حقبة ما بعد الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي للجولان ولأراضي لبنان وفلسطين، فهل هذا مقاومة أم هو إنجاز نوعي، لا يستهان به إطلاقا من إنجازات حزب الله والأسد

وإيران الإسرائيلية، بدل معنى ومبنى المقاومة ممارسة تحرّرية، تعتمدهما الشعوب والأمم المحتلة، أو المدافعة عن كيانها واستقلالها، ضد غازٍ أجنبي، وأحل محلها “مقاومة” عائدها الوحيد تمزيق حملة المقاومة وتدميرها: أي العرب شعوبا وأمة، فلا عجب أن صارت مقاومة نصر الله ومرتزقته محط ترحيب العدو، وسخرية من يستمعون إلى خطبه أو يشاهدونه محتقن الوجه، وهو يهدّد… السعودية وبلدان الخليج، وكل من يمكن أن تصل أيديه إليه في العالم الفسيح، ويعلن بتبجح انتصاراته على “شعب سورية التفكيري”، تحت غطاء أكذوبة مرّروها علينا وسمّوها “المقاومة والممانعة”، لحسن نصر الله امتياز فضح حقيقتها الخفية كحروب مذهبية، يخوضها تستهدف المقاومة، بمعناها المجتمعي ثورة على الطغيان والوطني، وحربا ضد الاستعمار الداخلي/ الأسدي، يخوضها بتضحياتٍ لا توصف أولئك الذين طحنهم القمع والفساد الطائفي وأفرغ حياتهم من أي معنى في سورية، لو كان لدى المرتزق الإيراني ذرة حس أو فهم لأدرك أن من أنزلهم إلى الشوارع هو تجبر الأسدية وفسادها وطائفيتها، وأن هدفهم الوحيد كان استعادة حريتهم وحقهم في الحياة من حكام قتلة قرّروا مقاومة “أي تغيير أو إصلاح لأوضاع اعترفوا هم أنفسهم أنها صارت لا تطاق، وأغرقوا بلدهم ببحار من دماء مواطناتهم ومواطنيهم، بمعونة مرتزقة المذهبي الأعنف والأكثر إجراما في منطقتنا كلها، حسن نصر الله، الذي لا بد أن تشعر إسرائيل بامتنان خاص له، بسبب مقاومته وممانعته، ولا يستبعد أن تمنحه في زمنٍ آت وسام خادم الصهيونية الأول: اعترافا منها بإنجازات مقاومة يتشدّق بها، لم تفكش منذ عقد إصبع جندي إسرائيلي في لبنان المحتل، وفتكت بعشرات آلاف السوريين، ودمرت ما فوقهم وما تحتهم.
هل يستطيع نصر الله أن يشرح لنا لماذا أحجمت إسرائيل إلى اليوم عن افتراس نظام صار لقمة سائغة، بعد أن ثار شعبه عليه، وأوصله إلى مشارف الهزيمة مرتين، إن كان نظاما مقاوما سيطردها من الجولان ذات يوم؟

ميشيل كيلو

صحيفة العربي الجديد