“المعركة من أجل سورية”.. التدخلات الإقليمية والعالمية

“المعركة من أجل سورية”.. التدخلات الإقليمية والعالمية

على غرار عنوان كتاب الصحافي البريطاني الراحل باتريك سيل “النضال من أجل سورية”، والذي بات مرجعاً مهماً عن سورية الخمسينيات والستينيات، أي قبيل صعود حافظ الأسد إلى السلطة مطلع السبعينيات، والذي يصف تصارع القوى العالمية والإقليمية على سورية ما بعد الاستقلال، جاء كتاب كرستوفر فيليبس، وهو المحاضر الرئيسي في العلاقات الدولية للشرق الأوسط في جامعة الملكة ماري في لندن، والباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “تشاتم هاوس”، مركز التفكير والسياسات الخاصة بالشرق الأوسط في لندن، نقول جاء هذا الكتاب ليحمل عنواناً مشابهاً هو “المعركة من أجل سورية” (303 صفحات، مطبعة جامعة ييل الأميركية، 2016).
وكأن الكاتب أراد باختياره عنواناً مماثلاً لعنوان كتاب باتريك سيل الشهير التشديد على خلاصة كتابه، وهو أن سورية عادت هدفاً للتدخلات الخارجية، الإقليمية والعالمية، وأن ما يحدث داخلها، على أهمية عوامله ولاعبيه الداخليين، لا يمكن أن يُفهم بدون تفحّص أدوار القوى الخارجية وأهدافها في التطوّرات السورية منذ انفجار الانتفاضات المحلية في عام 2011، مروراً بتحول الأوضاع في سورية إلى حربٍ أهلية دامية، ثم الى عسكرة تامة للصراع الذي بدأ داخلياً ومحلياً، ثم أصبح، في غضون سنوات قليلة، أكبر كارثة إنسانية عرفتها العقود الأولى للقرن الواحد والعشرين.
والنتيجة التي يصل إليها المؤلف، كرستوفر فيليبس، أنه لا يوجد في النزاع السوري “رابحون وخاسرون”، وإنما الجميع، الأطراف الداخلية والقوى الإقليمية والدولية المتورّطة أو المنخرطة في النزاع، خاسرون. يكتب هذا، وهو يختم كتابه الذي يتألف من عشرة فصول، ومقدمة وخاتمة. وقد استهل الكتاب بقائمة تُعرّف بأسماء اللاعبين الرئيسيين في النزاع، بدءاً من رموز نظام الأسد وحلفائه (روسيا، إيران، حزب الله)، مروراً بمعارضي النظام الأسدي، من رموز وقوى سياسية وأخرى مسلحة، وثالثة جهادية ومتطرّفة، ورابعة كردية. كما يمر على أسماء الأشخاص والهيئات الأميركية المعنية بالنزاع السوري وحلفاء الولايات المتحدة، ومنها أطرافٌ أوروبية، إضافة إلى العربية السعودية وقطر وتركيا، وأخيراً المنظمات والأشخاص التابعون لهيئة الأمم المتحدة، ممن لعبوا، أو ما زالوا، يلعبون أدواراً في النزاع.
على أثر خمس سنوات من انفجار الحرب، كانت سورية تتحول إلى أشلاء، بحسب تعبير كرستوفر فيليبس، حيث انحسرت سلطة نظام الرئيس بشار الأسد إلى مجموعة من “الأشرطة” المكتظة بالسكان، من السويداء في الجنوب مروراً بالعاصمة دمشق والمدن المركزية مثل حمص وحماة والشاطئ. وفي الوقت نفسه، أُخليت مساحات واسعة في الشرق والشمال والجنوب، حيث أُجبر النظام على سحب قواته منها، لتحل محلها قوى المعارضة المتنافسة التي لم تلبث أن تَحدّت كلٌّ منها الأخرى، فضلاً عن صراعها مع النظام نفسه. وفي الحدود الشمالية، فرضت القوات الكردية السورية نفوذها على ثلاثة كانتونات مدارة ذاتياً. وفي الأثناء، كانت قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد فرضت سلطتها على المنطقة الشرقية من سورية. وفي الجنوب، كما في الشمال، حكمت مليشيات معارضة متنوعة الاتجاهات، بعضها علمانية، لكن أكثرها إسلامية وراديكالية. وهكذا، فإن محاولات إنهاء الحرب من خلال التفاوض أُحبطت وتمت مقاومتها، سواء من الأسد أو من المتمرّدين الذين سعوا إلى تحقيق تسويات ذات قيمة، فبدت آفاق إنهاء النزاع في أي وقت محدودة. وهكذا، تبدو حالة اللااستقرار كأنها مستمرة في سورية إلى وقت طويل.
وبعد أن يصف المؤلف تطور النزاع الداخلي من احتجاجاتٍ سلميةٍ تطالب بالإصلاح أكثر مما تدعو إلى إطاحة النظام السياسي أو تغييره، وصولاً إلى نشوء مليشيات محلية لحماية

المتظاهرين والمحتجين، وانتهاء بانتقال زمام المواجهة مع نظام الأسد إلى أيدي التنظيمات الجهادية والراديكالية. هنا، يعارض المؤلف معظم الروايات الدارجة عن تطور النزاع السوري، والتي تركّز انتباهها بصورة مبدئية على الديناميكيات الداخلية، ويكتب إنه بموجب هذه الروايات، فإن دور اللاعبين العالميين يجري تقديمه، ثانوياً.
يعلن المؤلف أن كتابه يتبنى روايةً مختلفة، معطياً للاعبين العالميين دوراً أكثر مركزيةً في النزاع السوري. وهو يرى أن هؤلاء قد تورّطوا، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب الأهلية، من أجل تحقيق أجندتهم الإقليمية أو العالمية. ويضيف أن كتابه ينطوي على مداخلاتٍ متنوعة تبرهن على أن العوامل الدولية كان لها الدور المركزي والأكبر في الأحداث. فهو إذ لا يقلل دور أي من نظام الأسد أو معارضيه، لكنه لا يشارك أصحاب “نظريات المؤامرة” التي تتحدّث كل منها عن وجود عميل/ وكيل ما للقوى العظمى في النزاع، منذ البداية.
يكتب كرستوفر فيليبس أن الرواية التي توصل إليها تعترف، بالتأكيد، بتعقيدات النزاع السوري والعوامل المتعددة التي تقوده وتشكله. وهو يحاجج أنه، ومنذ البداية، كانت العوامل الخارجية أساسيةً في تمكين وتسهيل أعمال كل من النظام والمعارضة. وعليه، فإن خصائص الحرب السورية، حجمها ومنظورها، تأثرت بقوة بهذه العوامل (الخارجية). وهو يحاجج بأن الأبعاد العالمية شكّلت الحرب السورية من خلال ثلاثة طرق أساسية.
أولا: كانت البيئة الدولية والإقليمية التي في إطارها بدأت الانتفاضة السورية مفتاح تحولها إلى حرب أهلية، من خلال تحويل ميزان القوى الإقليمي، وصولاً إلى نقل الأسلحة والأيديولوجيا. وجعلت هذه البيئة من هذا الانتقال نحو حربٍ أهلية أمراً أكثر احتمالاً.
ثانياً: القرارات التي اتخذتها الدول القيادية في السنة التالية لاندلاع الاحتجاجات المبكرة ضد نظام الأسد، وردة فعله القمعية عليها، لعبت دوراً رئيسياً في انزلاق الانتفاضة السورية نحو حرب أهلي

ثالثاً: ما أن اندلعت الحرب وأصبحت واقعاً، فإن السياسات التي اعتمدتها الأطراف الإقليمية والعالمية كانت قد شكلت طبيعة هذه الحرب، وحتّمت استمرارها. وبالتأكيد، الفكرة الأساسية لهذا الكتاب، على ما يوضح المؤلف، أن الحرب الأهلية السورية لا يمكن تفسيرها بدون فهم مفصل للأبعاد الدولية. وبالنتيجة، فإنه حتى يقرّر مختلف اللاعبين الخارجين المتورّطين في النزاع أن أهدافهم قد تحقّقت بقوة، أو أن خسائرهم يجب وقفها ومغادرة المسرح، فإن الحرب سوف تستمر بهذا الشكل أو ذاك بعض الوقت.

البيئة الدولية والإقليمية
يعتقد كرستوفر فيليبس أن انقضاء “العصر الأميركي” في الشرق الأوسط كان العامل

المفتاحي، وهو العامل الأهم في البيئة السياسية للإقليم في الحرب الأهلية السورية. ويضيف أنه حدث تغير مهم في الشرق الأوسط جرّاء الاعتقاد بأن “العصر الأميركي” الذي عرف هيمنة الولايات المتحدة على الإقليم لم يعد قائماً. ذلك أن الفشل في احتلال العراق ما بين 2003 – 2011؛ تناقص أهمية نفط الخليج؛ التراجع الاقتصادي والعسكري الأميركي بعد أزمة 2008 المالية؛ ومن ثم انتخاب الرئيس باراك أوباما، الذي انتقد المغامرات العسكرية لسلفه، بوش الابن.. كل هذه العوامل أوجدت موانع حادة أمام واشنطن، للاستمرار في أدوارها السابقة. وفي الوقت نفسه، كانت هناك قوى إقليمية تنمو وتنطلق: إيران، تركيا ودول الخليج، وهي الأطراف التي كانت مجرّد لاعبين هامشيين، غير أنهم استفادوا من حرب العراق عام 2003، ومن النمو الهيدروكربوني (النفطي) من أجل توسيع نشاطاتهم الإقليمية.
استفادت روسيا من التغيرات في البيئة الجغرافية السياسية والاقتصادية، من أجل تقوية روابطها بالإقليم، بعد عقودٍ من الغياب، بالتوازي مع ضعف القوى الإقليمية التقليدية، حيث تحوّل العراق، بعد حربه الأهلية، من لاعب إقليمي، كما حال سورية ومصر، إلى مجرد “جائزة” تتقاتل على الفوز بها الأطراف الإقليمية الأخرى. أما إسرائيل التي بقيت غير متأثرة بقوة بهذه التغيرات، فمع جمود عملية سلام، باتت قدرتها على تفعيل نفوذها في الإقليم محدودة هي الأخرى.
كان عديدون قد ادعوا أن تراجع قوة الولايات المتحدة في الماضي، كما في ثمانينيات القرن الماضي، قد ثبت خطأه. تلك الأصوات المعبرة عن مؤسسة الأمن القومي الأميركي لا تزال ترى أن الأخيرة ملتزمة بمحاولة إدارة العالم. وأن الشرق الأوسط، كما يجادل هؤلاء، يعكس الوضعية العالمية هذه. ربما تكون الولايات المتحدة قد تراجعت الى الخلف بعض الوقت، لكن هذه حركة سياسية مؤقتة أكثر مما هي نقلة هيكلية بعيداً عن الهيمنة الأميركية. ويرى أصحاب هذا الرأي أنه عندما يغادر أنصار أوباما المعادون للتدخل الخارجي سوف تكون هناك عودة إلى سياسات الهيمنة. وفي الواقع، ليست هناك قوة إقليمية أو مجموعة من القوى تملك من القوة الكافية لملء الفراغ. وبالتأكيد، لا تستطيع قوة إقليمية، مثل تركيا، السعودية، أو إسرائيل أن تعادل بحجم قوتها ما تمثله الولايات المتحدة اليوم.

حرب خسرها الجميع
آخذين بالاعتبار سنوات البؤس المتراكمة للشعب السوري نتيجة للحرب الأهلية، فإن من

الصعب الحديث عن “رابحين” و”خاسرين” عندما يتعلق الأمر بالقوى الخارجية. أكثر من ذلك، ومع استمرار النزاع، قد لا تكون النتائج النهائية لصالح طرفٍ على حساب طرف آخر. على كل حال، من غير المرجح أن تكون هناك دولة قد حقّقت مكاسب من تورّطها في النزاع، وفي أحسن الأحوال، ربما يكون أداء بعضهم أحسن من أداء غيرهم.
يستعرض المؤلف أوضاع البلدان المتورّطة في النزاع السوري، ويبدأ بتركيا التي تبدو في أسوأ وضع، مقارنة بما كانت عليه عام 2011. فطموحاتها لأن تكون زعيمة إقليمية تمزقت إرباً، وهي الآن في أسوأ حال، إذ أغلق تورّطها في سورية عليها، فيزيقياً، هذا الدور. أكثر من ذلك، أسهمت الحرب السورية في زيادة تحدّياتها الداخلية، حيث استقبلت مليوني لاجئ سوري، وأصبحت هدفاً لهجمات “داعش” الإرهابية، هذا إضافة الى مشكلاتها مع المتطرّفين من مواطنيها هي، وهو ما يرشّحها لتشهد ربما حالةً من اللااستقرار طويل الأمد، كالذي عرفته باكستان من قبل، جرّاء تورطها في الحروب الأفغانية. ففي وقتٍ حلت فيه تركيا مشكلاتها مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مع وجود بعض التوترات غير المحلولة بعد، فإن وضع الأكراد داخل تركيا ساء بصورة ملحوظة نتيجة للحرب في سورية. فقد بدأ عام 2016 بنزاع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا هو الأسوأ منذ سنوات. وأطلقت المجموعة الكردية الأكثر تطرّفاً هجومين على المدنيين في العاصمة أنقرة أدّيا إلى مقتل 28 شخصا في فبراير/ شباط و33 آخرين في مارس/ آذار، وفي الأثناء، واصلت الحكومة عمليات انتقام عنيفة في شرق تركيا.
العربية السعودية في وضع أقوى من بقية دول الخليج، فقد ساعدتها الحرب السورية في لعب دور قيادي أكبر مما كان لها. وبينما تبدو أنها نجت من الأزمات الداخلية، ونجحت في تحقيق انتقال هادئ للسلطة من الملك عبدالله إلى الملك سلمان وابنه ولي العهد حالياً، إلا أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية هدّد المملكة بعودة الإرهاب المحلي، كما عرفته في العقد الماضي. أكثر من ذلك، تبدو الحركية العسكرية الجديدة، خصوصا في اليمن، مكلفة جداً، في زمن تراجعت فيه أسعار النفط، ما يعني أن المملكة ستواجه تحدياتٍ اقتصادية، ومن ثم تحديات اجتماعية. الأولوية العليا إقليمياً للسعودية هي احتواء إيران، وقد ألحق تدخل الأخيرة في سورية بها خسائر مالية وعسكرية مهمة، لكن السعودية، في الوقت نفسه، لم تفلح في إحباط اتفاق 2015 النووي بين إيران والولايات المتحدة وحلف الأطلسي.
كانت أهداف روسيا قبل الحرب ضمان أمنها الداخلي من المسلمين المسلحين، وتوسيع اقتصادها عبر الوصول إلى الشرق الأوسط وتحسين وضعها الجغرافي – السياسي على حساب الولايات المتحدة. كانت تجارة روسيا مع المنطقة قد تأثرت بشكل رئيسي جرّاء خلافاتها مع تركيا والسعودية حول سورية. وقد انعكست العقوبات المفروضة على أنقرة بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية في أواخر 2015 على علاقاتها الاقتصادية مع هذا البلد. وقد تحسّن موقع روسيا الجغرافي- السياسي في الإقليم بعد الحرب السورية، خصوصا بعد إرسال قوتها الجوية الى سورية عام 2015، وزيادة تعاونها مع العراق في مواجهة “داعش”. لكن، وعلى النقيض من ذلك، بات أمن روسيا الداخلي أكثر حرجا بعد الحرب السورية، ليس فقط لأن صعود “داعش” بات نوعاً من الإلهام للجهاديين المحليين، وإنما أيضاً لأن تدخل موسكو العسكري عام 2015 ضد القوى السورية المعارضة سوف يجعل من روسيا هدفاً للإسلاميين، بمن فيهم الذين لا يؤيدون فكرة الخلافة.
تبدو أولويات إيران وكأنها تحققت مع تدخلها في سورية، فقد عزّز ذلك الدعم لحزب الله من

خلال تأمين العاصمة دمشق والقلمون والبقاع، حيث تمتد خطوط الإمداد. ولم يحل تورط إيران في سورية دون إبرامها اتفاقها النووي مع الغرب، ولكن على حساب سمعتها الإقليمية، حيث إن دعم إيران الأسد ترجم نفسه سلبياً في عيون الغالبية الساحقة من سكان الإقليم، مكلفاً إيران سمعتها التي حاربت من أجلها في الشارع السني العربي. وهو الأمر الذي بات يحول دون رغبتها في النهوض بدورها لاعبا رئيسيا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، إلى ما يتجاوز خطوط هيمنتها على المناطق الشيعية. كلفة الدعم الكامل مالياً وعسكرياً لنظام الأسد لا زالت غير معروفة. وقد لا تبقى إيران قادرة على إدامة هذا الدعم في المدى البعيد، إذا لم يتم التوصل إلى حلول وسط.
إيران وروسيا يبدوان كما لو أنهما في حال أفضل مما هو حال الأطراف الإقليمية الأخرى المتورّطة في النزاع. حيث حقق كلاهما أهدافهما الأولية في الحيلولة دون سقوط النظام، لكنهما، الآن في وضع أسوأ مما كانا عليه عام 2011، حتى لو تمكّن حليفهما في دمشق من البقاء في السلطة سنوات، فإنه سيبقى حليفاً مكلفاً جداً وشريكاً غير مستقر.
سعت أهداف واشنطن تحت إدارة الرئيس أوباما مع انبثاق الربيع العربي، إلى الحفاظ على المصالح الحيوية للولايات المتحدة في الإقليم، وكذلك لتقليل حضورها المادي هناك، وإعادة بناء سمعتها المتضرّرة وإبعاد أعدائها مثل إيران وروسيا. من خلال مقاومة الدعوات إلى التدخل بقوة في الحرب السورية، قلص أوباما ظهور أميركا على الواجهة، بحجة أن ذلك سوف يسمح له بالتركيز على أولوياتٍ أخرى، في سياسة أميركا الخارجية، مثل المحور الآسيوي؛ الصفقة النووية مع إيران؛ إعادة العلاقات مع كوبا ومعالجة التغير المناخي.

نظرت الإدارة الأميركية إلى النزاع السوري بعلاقته مع طهران وموسكو، لكن بصورة متذبذبة، لقد مرّت بالنزاع لحظاتٌ من التعاون، كما هو حال عام 2013 بخصوص الأسلحة الكيميائية والصفقة الخاصة بها، وفي أثناء محادثات فيينا. ومن ناحية أخرى، فإن التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا تأثر سلباً جرّاء تطورات دولية أخرى خارج سورية، كما الحال في أوكرانيا.
وبالنتيجة، تضرّرت سمعة أميركا بسبب الحرب السورية. ردّدت تعبيرات الاحتجاج الصادرة عن بلدة كفرنبل السورية أصداء مواقف أطرافٍ كثيرة في المنطقة، وخصوصا في الشارع السني، فضلاً عن حلفاء الولايات المتحدة، مثل العربية السعودية وتركيا، حيث رأت كل منهما أن واشنطن فعلت القليل، وكما تبيّن، فإن حسابات أوباما كانت ترى أن من الأفضل لأميركا أن تتلقى النقد، بدلاً من التورّط في نزاعٍ غير معروفة نهايته، الأمر الذي كان سيؤذي مصالحها الحيوية في المنطقة، ويدخلها في خلافاتٍ داخلية جدية.

فوضى ما بعد العصر الأميركي
يحاجج كتاب “المعركة من أجل سورية” بأن العوامل الدولية لعبت دوراً مفتاحياً أساسياً في تشكيل حرب سورية الأهلية، ويخلص إلى أن البيئة الإقليمية المحيطة بسورية جعلت من تلك الحرب مثيرة للشبهات. كما يتوجه باللوم إلى اللاعبين الستة الدوليين الذين عملوا أقل القليل، لتثبيت الأطراف السورية المتورّطة في أزمة 2011، حتى لا تتحوّل تلك الأزمة إلى نزاع مسلح، بل يرى المؤلف أن بعض هذه الأطراف شجع بنشاط هذا التحوّل. ويكتب إن اللاعبين أنفسهم ساعدوا على إدامة النزاع، بتوفير تدخلات متوازنة بما يكفي لإبقاء حلفائهم في ميدان المعركة، لكن ليس بشكل كافٍ للربح أو لإجبار الأطراف الأخرى على التفاوض بجدية. وبينما يلوم معلقون أطرافا بعينها على ذلك، فإن الحقيقة، بحسب كريستوفر فيليبس، هي أن الأطراف الستة (روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر) يتحملون معاً المسؤولية عن ذلك.
قبل اندلاع النزاع، كانت المنطقة في طريقها إلى أن تشهد تغيراً نظامياً نحو نظام جديد متعدّد الأطراف، بدلاً من ذلك الذي كان قائماً في الإقليم، وهو تغيّر بدأ مع فشل حرب العراق واندلاع الأزمات المالية، وميل أوباما إلى الانسحاب. وهكذا، فإن كلا من روسيا وإيران والسعودية وقطر وتركيا تحرّكوا للحصول على مكاسب من هذا التحول، لتعزيز مراكزها في الإقليم. لكن بعض هذه الأطراف كانت تفتقر للقدرات المتناسبة مع طموحاتها. اندفعت السعودية وقطر وتركيا، بشكل خاص، في تشجيع النزاع في سورية، في وقتٍ لم يكن ممكناً فيه حسمه من دون مساعدة أميركية.
أما روسيا وإيران فإنهما فيما تبنيا أكثر نظام الأسد، فقد أثبتتا أنهما غير قادرتين على التأثير عليه، وجعل سلوكه أكثر اعتدالاً. وهكذا، فإن أجندتهما الجيوسياسية حصرتهما في معسكره أكثر فأكثر.

هل هناك فرصة للسلام؟
أهمية التوافق الدولي حول إنهاء النزاع في سورية تم تجاهلها بصورة مفرطة، حيث إن غياب هذا التوافق خمس سنوات لعب دوراً رئيسياً في إطالة أمد النزاع، وكل ما رافقه من فظائع.

وفيما سوف يكون صعبا جلب الأطراف المنفردة، المنخرطة في النزاع، إلى عملية السلام، ستكون هذه العملية تقريباً مستحيلة من دون مباركة اللاعبين الدوليين الكبار، حيث تتحوّل المعركة من أجل سورية إلى مواجهة واسعة بين قوى متنوعة في “العصر ما بعد الشرق الأوسط الأميركي”، فإنه من الواضح أن هناك حاجة لتجزئة النزاع إلى ملفاتٍ يمكن معالجة كل منها على حدة، ومن ثم السعي إلى حل يعطي الأولوية للاعتبارات الأكثر اتساعاً، وذلك قبل أن لا يتبقى شيء من سورية للقتال حوله.
وللأسف، فإن رؤية رجل السياسة بعيد النظر كانت مفقودة بين مختلف القادة المنخرطين في النزاع السوري. دور الولايات المتحدة، كقوة عظمى متراجعة، هو عنصر التركيز المحدّد لهذه الدراسة (بحسب المؤلف)، فقد هوجم الرئيس أوباما داخل بلاده وخارجها، لكونه لم يفعل شيئاً كافياً تجاه القضية السورية، غير أن النقد الذي يجب أن يوجّه إلى الرئيس أوباما يتعلق بأسباب أخرى، غير التي أُثارها معارضوه. إذ من غير المعلوم ما إذا كان تدخله ضد الأسد في وقت أبكر ومباشرة، أو من خلال الدعم القوي للمتمردين، قبل تراجعه الجذري، كان يمكن أن ينهي الحرب بصورة أسرع. وعلى كل حال، مع الأخذ بالاعتبار الديناميات الإقليمية الموصوفة في الدراسة، من غير المحتمل أن روسيا وإيران كانتا سوف توقفان دعمهما الأسد وبقايا نظامه.
وبشكل محدد، كان يجب توجيه النقد لأوباما لأنه لم يُحسن إدارة التحول بصورة أفضل نحو سياسة ما بعد “الشرق الأوسط الأميركي”. إذ بغض النظر عما إذا كان الرئيس أوباما ملتزما بتحقيق انسحاب إقليمي أم لا، فإنه عندما بدأت الأزمة السورية استخدم لغة القوة العظمى المسيطرة مطالباً الأسد بالرحيل، معلناً عن وجود خطوط حمراء لاستخدام الأسلحة الكيماوية، ما شكّل تحذيراً قوياً. ويبدو أن صناع السياسة في المكتب البيضاوي لم يأخذوا بالحسبان تأثير التوقعات باستخدام القوة على الأرض على سلوك أطراف النزاع، ولا سيما حلفائها. ذلك أنها، على الأرجح، رفعت مستوى الثقة لدى حلفائها، مثل قطر وتركيا والعربية السعودية، والتي تحوّلت إلى الغضب والإحباط، عندما لم تصل المساعدة الأميركية المتوقعة.
اختلط هذا الأمر مع القراءة الخاطئة أكثر لوضعية الإقليم: استمرارية نظام الأسد؛ المدى الذي يمكن لحلفاء دمشق الإقليميين أن يقدموا عليه للحفاظ عليه؛ وكذلك قدرة حلفاء واشنطن الإقليميين على التوصل إلى سياسات بناءة ومعقولة في سورية. وبالتأكيد، تشير النقطة الأخيرة إلى أنها ربما كانت أيضاً نتيجة عقود من الاعتماد القوي على الولايات المتحدة، ولا سيما من تركيا وقطر والسعودية، الأمر الذي منعها من تطوير قدرات مؤسساتها الأمنية والاستخباراتية على استقرار الواقع الإقليمي، بالشكل الكافي.
وهناك مفارقة، هي أن الولايات المتحدة تحت قيادة أوباما ما أن أدركت حدود القوة في تحقيق أهداف سياسية طويلة المدى في الإقليم، فإن لاعبين آخرين قاموا، وبصورة متزايدة، بنسخ سياساتها السابقة، فالتدخل الروسي عام 2015 صُمم بصورة واعية على غرار الموديل الأميركي. وبعد عدة عقود من الاعتماد على شراء الأسلحة الغربية، زادت دول الخليج جهودها للحصول على الصواريخ الجاهزة للإطلاق، وخوض مغامراتها العسكرية الخاصة بها في سورية وليبيا ودول أخرى.
وفي الأثناء، حوّلت إيران فيلق القدس نحو سورية والعراق، وقد تنطلق من سورية باعتبارها

القوة العسكرية الأكثر قوةً وهيبة. زيادة عدد الدول الفاشلة أحدثت مزيدا من الأرضية للقوى غير الحكومية، مثل حزب الله، القاعدة، داعش، حزب العمال الكردي، وحلفائهم الكثيرين. وهو ما يطلق أجراس الانذار من أن الدروس لم تستفد منها القوى الاقليمية، والتي تنبثق من خبرة تلك الدول الغارقة في المستنقع السوري. وفي ليبيا واليمن والعراق، تدعم القوى الإقليمية، وهي تتدخل مباشرة وتشجع مستوى مختلفا من النزاع من أجل تحقيق أجنداتها الخاصة.
حقاً هناك أصوات جادة تدعو إلى الانسحاب والتفاوض، ولكنها منخفضة وقليلة. كما أن قلة قليلة تبدو مستعدةً للتضحية بأهدافها قصيرة المدى والضيقة، من أجل استقرار مستدام وطويل المدى للاقليم. بينما وقع نوعٌ من التحديث لاتفاقات الخرطوم لعام 1967، والتي بموجبها وافقت مختلف الدول على احترام سيادة بعضها بعضا. والعودة إلى هذه الاتفاقيات ضرورية جداً لمنع تحول الشرق الأوسط ما بعد الأميركي إلى فوضى عارمة، جرّاء الحروب المحلية والدول الفاشلة. لكن، هناك، للأسف، شهية قليلة، كما يبدو لدى اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، للقبول بوجود نظام متوازن في المنطقة.
ختاما
أثبتت التطورات الجارية خلال الفترة ما بين إعداد كتاب “المعركة من أجل سورية” واليوم صحة تحليل مؤلفه، كرستوفر فيليبس، أولاً من حيث أبراز أهم عنصر متغير في البيئة الإقليمية والدولية، أي دخول الشرق الأوسط “مرحلة ما بعد الهيمنة الأميركية”، وثانياً الدور الكبير الذي لعبته القوى الدولية الكبرى، وكذلك القوى الاقليمية الرئيسية، في تحويل الانتفاضة السلمية السورية إلى حرب أهلية دامية، خدمة للمصالح الأنانية للأطراف الإقليمية والدولية، وعلى حساب معاناة الشعب السوري.
ومع أن معظم التقديرات تفيد بأن النزاع السوري لن ينتهي إلى تسويةٍ ما، قبل مرور خمس سنوات إضافية، إلا أن المؤشرات الراهنة تفيد بأن القوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة وروسيا شرعت، أخيرا، بعملية تجزئة النزاع السوري إلى ملفات أصغر، حيث يجري العمل على إقامة مناطق فصل بين القوات، قد تمهد الطريق أمام تحولها إلى أقاليم فيدرالية ضمن سورية الجديد.

هاني حوراني
صحيفة العربي الجديد