قضية الأقصى وخطط إسرائيل لفرض سيادتها وتغيير الوضع القائم

قضية الأقصى وخطط إسرائيل لفرض سيادتها وتغيير الوضع القائم

تمكّن الفلسطينيون، بصمودهم، من إجبار سلطات الاحتلال الإسرائيلية على التراجع عن كل الإجراءات التي اتخذتها لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى؛ إذ أزالت الحواجز الحديدية التي كانت قد أقامتها على المدخل الرئيس لباب الأسباط في المسجد الأقصى، وفي ساحته الرئيسة، بعد مقتل اثنين من الشرطة الإسرائيلية في اشتباك مسلح في 14 تموز/ يوليو 2017.

محاولة لتغيير الوضع القائم
استغلت سلطات الاحتلال الإسرائيلية عملية الأقصى، لإنفاذ خططها القاضية بتغيير جذري في “الوضع القائم” للمسجد، فقد أغلقت المسجد كليًّا أمام المصلين الفلسطينيين، وأخلت العاملين في الأوقاف والحراس الفلسطينيين منه، واعتقلت وحققت مع عشرات منهم. كما أرسلت بلدية الاحتلال في القدس الغربية، أول مرة منذ عام 1967، سيارات نظافة وعددًا من عمال النظافة إلى داخل المسجد بذريعة التنظيف. وهذه المهمة، بحسب الوضع القائم في الحرم، موكولة إلى الأوقاف الإسلامية، ولكنّ البلدية حاولت بذلك إظهار السيادة الإسرائيلية عليه.
وبعد مضي يومين على إغلاق سلطات الاحتلال المسجد الأقصى، نصبت بوابات إلكترونية في مداخله، وهي الخطوة التي أفشلها الفلسطينيون عام 2014. وفور إقامة هذه البوابات، أجمعت مختلف المرجعيات الفلسطينية، الوطنية والدينية، في القدس الشرقية المحتلة، على رفض هذا الإجراء، وطالبت بإزالتها حالًا، ورفضت دخول المسجد الأقصى ما دامت هذه البوابات قائمة. والمبدأ هو رفض تغيير الوضع القائم، ورفض مظاهر السيادة الإسرائيلية في الحرم القدسي الشريف.

قرار عدواني ومتسرع
يبدو من تحليلات وسائل الإعلام الإسرائيلية أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، اتخذ قرار نصب البوابات الإلكترونية في مداخل المسجد الأقصى، من دون إجراء نقاشٍ معمقٍ مع

المؤسسة العسكرية والأمنية. ويبدو كذلك أنه اعتقد أن بإمكانه استغلال عملية قتل جنديين من حرس الحدود، لإحداث تغيير في “الوضع القائم”، ومحاولة فرض السيادة الإسرائيلية الفعلية على المسجد الأقصى، في ضوء الضعف الرسمي العربي، وانشغال الدول العربية بمشكلاتها الداخلية، واستمرار الانقسام الفلسطيني وتفاقمه. وفي ظل تحسّن العلاقات بين إسرائيل ومعسكر “الدول العربية المعتدلة”، أمل نتنياهو أن تتفهم هذه الدول الخطوة الإسرائيلية على أنها ضرورة أمنية. وبدا للوهلة الأولى أن نتنياهو نجح في مسعاه. فقد ذكرت صحيفة إيلاف الإلكترونية السعودية، المقرّبة من القصر الملكي السعودي، أن الملك سلمان بن عبد العزيز تدخل شخصيًّا لدى البيت الأبيض، من أجل إعادة فتح المسجد الأقصى، وأن “الاتفاق على إعادة فتح الحرم بوجه المصلين والسياح جاء نتيجة ذلك”؛ إذ تعهد نتنياهو “للمملكة العربية السعودية بعدم المسّ بالوضع الراهن للحرم”. وأضافت الصحيفة: “أما مسألة الكشف عن المعادن” فقد لفت المصدر الذي تشير إليه “إلى أن الأمر أصبح اعتياديًّا في الأماكن المقدسة، بسبب الإرهاب الذي يضرب بدون تمييز، وفي أكثر الأماكن قدسيةً للديانات المختلفة”، ما يشير إلى أنه كان هناك قبول أو تفهم سعودي للإجراءات الإسرائيلية، على أنها حاجة أمنية خالصة.
بيد أن صمود المقدسيين ومقاومتهم قلبا الحسابات؛ فانطلاقًا من مبدأ رفض أي تغيير في الوضع القائم الذي اتخذته المرجعيات الوطنية والدينية في القدس الشرقية المحتلة، وانخراط المقدسيين في النضال دفاعًا عن الأقصى، ومن ورائِهم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل الخط الأخضر، تغير الوضع كليًا، فقد ظهرت بوادر هبة شعبية واسعة، تحمل بين ثناياها تجدّد العمليات الفلسطينية وازديادها ضد جيش الاحتلال ومستوطنيه؛ مثل عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار.
وعلى هذه الخلفية، قطع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، زيارته للصين، وأعلن في الحادي والعشرين من تموز/ يوليو عن “تجميد الاتصالات مع دولة الاحتلال على كافة المستويات”، وطالب بإلغاء جميع الإجراءات التي اتخذتها سلطات الاحتلال في المسجد الأقصى وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. أما الأردن، صاحب الوصاية على الأقصى، وفق اتفاق وادي عربة، فدعم موقف المرجعيات المقدسية، وطالب المسؤولون الأردنيون في تصريحاتهم بإزالة البوابات الإلكترونية.

حادث السفارة
وفي ما كان الضغط يشتد على الحكومة الإسرائيلية من أجل إزالة هذه البوابات الإلكترونية،

وظهور بوادر على تراجعها الوشيك، قَتلَ رجل أمن إسرائيلي يعمل في السفارة الإسرائيلية في عمّان، ويكون عادة تابعًا لجهاز المخابرات، مواطنيْن أردنيين أحضرا أثاثًا للشقة التابعة للسفارة، بذريعة أن أحدهما، ولمّا يبلغ السابعة عشرة من عمره بعد، هاجمه بمفكّ وفق الرواية الإسرائيلية. وعلى إثر هذه الجريمة، حاصرت القوات الأردنية السفارة، ولم تسمح لمن فيها بمغادرتها إلا بعد إجراء تحقيق مع الجاني. وجرت مفاوضات بين القيادتين الأردنية والإسرائيلية، شاركت فيها الولايات المتحدة، أسفرت عن السماح للجاني وطاقم السفارة بمغادرتها إلى إسرائيل، وأعلن مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكابينت)، بعد ذلك عن قراره إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل المسجد الأقصى. بيد أن نتنياهو عاد وقرّر في اليوم التالي تطبيق التفتيش اليدوي باستخدام العصا الكاشفة للمعادن على كل من يدخل المسجد الأقصى للصلاة فيه، بديلًا من البوابات الإلكترونية. وقد رفضت المرجعيات الوطنية والدينية المقدسية هذه الإجراءات، وقرّرت الاستمرار في رفضها دخول المسجد الأقصى.

خلفيات القرار
جاء قرار نصب البوابات الإلكترونية في مداخل المسجد الأقصى في سياق الإستراتيجية الإسرائيلية التي تبلورت، في العقود الثلاثة الأخيرة، لتغيير “الوضع القائم” في المسجد الأقصى بالتدريج (بموجب سياسة الخطوة خطوة)؛ بغرض فرض السيادة الإسرائيلية عليه فعليًا، وتقاسمه زمانيًّا ومكانيًّا، وبناء الهيكل الثالث.
فقد شهد المجتمع الإسرائيلي، منذ منتصف الثمانينيات، نشاطًا سياسيًّا ودينيًّا وإعلاميًّا وجماهيريًّا مكثفًا، قامت به قوى سياسية يمينية ودينية متطرفة، وعشرات من جمعيات الهيكل وحركاته، والتي تأسّست في الثمانينيات، وحصلت على دعم مالي من مؤسسات الدولة الإسرائيلية المختلفة، ودعت علنًا إلى تغيير “الوضع القائم”، وإلى دخول اليهود المسجد الأقصى والصلاة فيه وبناء الهيكل الثالث وإزالة المسجد القبلي (الأقصى) وقبة الصخرة وكل ما يمت إلى الإسلام بصلة في الحرم الشريف. وعزّزت هذه الحركات والجمعيات نشاطاتها في أعقاب اتفاق أوسلو في العام 1993؛ لخشيتها أن تؤدي العملية السلمية إلى إعادة المسجد الأقصى إلى الفلسطينيين.
لقد حدثت في العقود الثلاثة الأخيرة تغييراتٌ مهمةٌ في إسرائيل، بشأن الموقف من المسجد الأقصى، ودخول اليهود إليه والصلاة فيه وبناء كنيس يهودي أو بناء هيكل فيه، وتقاسمه زمانيًّا ومكانيًّا، أهمها:
• حدوث تغييرات كبيرة في مواقف تيارات يهودية دينية أساسية، فاعلة في المجتمع الإسرائيلي. فقد أصدرت “لجنة حاخامات مجلس المستوطنات” في العام 1996، والتي يقودها التيار الصهيوني الديني، فتوى دينية أكّدت فيها أنه من المسموح دينيًّا لليهود دخول الحرم الشريف، ودعت كل الحاخامات إلى دخول المسجد الأقصى، وحثتهم على أن يقوموا بتشجيع تلاميذهم وأتباعهم على القيام بذلك. وشكلت هذه الدعوة منعطفًا مهمًّا في موقف التيار الصهيوني الديني من دخول اليهود للحرم الشريف والصلاة فيه، وباتت غالبية حاخامات هذا التيار بالتدريج من دعاة تغيير الوضع القائم ودخول اليهود إلى الأقصى للصلاة فيه، لتقاسمه زمانيًّا ومكانيًّا. وكذلك تبنّى قطاع مهم من التيار الديني الحريدي، وخصوصا أتباع حركة “حباد” الدينية، المواقف نفسها.
• تبنى حزبا الليكود والبيت اليهودي وأحزاب وحركات يهودية يمينية متطرّفة أخرى المواقف المطالبة بتغيير الوضع القائم، والسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى، بغرض الصلاة فيه، وتقاسمه زمانيًّا ومكانيًّا.
• شهد الكنيست، في السنوات الأخيرة، نشاطًا محمومًا يتعلق بالمسجد الأقصى، وقدّم عديدون من أعضاء الكنيست مقترحاتٍ قوانين لتغيير الوضع القائم والسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى، بغرض الصلاة فيه، وتخصيص ساعات محدّدة لهم لهذا الغرض.
• شهد القضاء الإسرائيلي بدوره تغييرًا في موقفه إزاء المسجد الأقصى؛ ففي أواخر عقد الثمانينيات، غيرت المحكمة العليا الإسرائيلية موقفها من دخول اليهود إلى المسجد الأقصى، بغرض الصلاة فيه، وأكدت أن من حق اليهود دخول المسجد الأقصى، استنادًا إلى “قانون

الأماكن المقدسة” الذي سنّه الكنيست بعيد حرب 1967، وكذلك استنادًا إلى ما دعته “حقوق اليهود الدينية والتاريخية”. ولكنّ المحكمة العليا خوّلت الشرطة الإسرائيلية منع اليهود من دخول الحرم القدسي بغرض الصلاة فيه، لأسبابٍ تتعلق بالحفاظ على سلامة الجمهور والأمن العام. بيد أنها أكدت، في الوقت نفسه، أن هذا المنع يتعيّن أن يستند إلى قدرة الشرطة على أن تثبت، في كل حالةٍ على حدة، أن صلاة اليهود في الحرم تعرّض سلامة الجمهور والأمن العام للخطر، وإلا فمن حق المحكمة أن تصدر أمرًا بالسماح لليهود بدخول الحرم، بغرض الصلاة فيه.
• أدّى انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين العلماني والديني إلى ازدياد تشدّده تجاه هذه القضية، فقد أظهرت العديد من استطلاعات الرأي العام اليهودي الإسرائيلي، في السنوات الأخيرة، وجود أغلبية في صفوف المجتمع الإسرائيلي، تؤيد تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف الذي يسمونه “جبل الهيكل”، وأن 59% من المجتمع الإسرائيلي تؤيد أن تفرض إسرائيل فيه تقسيمًا زمانيًّا ومكانيًّا بين المسلمين واليهود، كما كانت قد فرضته في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
• ازدادت، في السنوات الأخيرة، أعداد اليهود الذين يدخلون يوميًّا الحرم في الساعات المخصصة لدخول السيّاح، والتي تصل إلى نحو خمس ساعات يوميًّا، وذلك بتنظيم من حركات الهيكل وجمعياته، بغرض الصلاة فيه، وتثبيت السيادة الإسرائيلية عليه، وتعزيز أمر واقع جديد؛ وأصبح يدخل الحرم الشريف، منذ ثلاثة أعوام، مجموعات من اليهود يبلغ عدد أفرادها العشرات، ترافقهم الشرطة الإسرائيلية، وذلك خلافًا لما كان الوضع عليه في السابق؛ إذ كان متبعًا ألا يدخل المسجد الأقصى سوية أكثر من اثنين من اليهود مرافقين بحراسة الوقف الإسلامي والشرطة الإسرائيلية، لئلا يقوما بالصلاة في الحرم الشريف. وفي الوقت نفسه، حظر وزير الأمن الإسرائيلي في أيلول/ سبتمبر 2015 جمعيتي “المرابطين” و”المرابطات” الفلسطينيتين اللتين كانتا تقومان بمتابعة المجموعات اليهودية التي تدخل الأقصى ومراقبتها، لمنعها من الصلاة فيه.

خاتمة
استطاع الفلسطينيون، بصمودهم وإصرارهم، الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم، وإفشال مسعى سلطات الاحتلال لاستغلال عملية الأقصى لتطبيق إجراءاتٍ تهدف إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وفرض السيادة الإسرائيلية عليه، مستغلةً ضعف الوضع العربي، إلى دفع العرب إلى التسليم لها بذلك. وتعمل إسرائيل، منذ عقود، وفق مخطط تنفذه بالتدريج، وتستغل كل مناسبة للتقدّم في تنفيذه، مستغلةً ثغرة أو تراجعًا في الموقف العربي أو الفلسطيني. وما هو مستغرب ومستهجن عدم تحمّل الدول العربية والإسلامية مسؤولياتها، وعدم قيامها بأي خطوة جدية لوقف العربدة الإسرائيلية في المسجد الأقصى، في ما يتجاوز بيانات الاستنكار، والتي لو تم الاعتماد عليها لتمكّنت إسرائيل من تحقيق هدفها.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات