ما الذي سيأتي بعد “داعش”؟ (2-2)

ما الذي سيأتي بعد “داعش”؟ (2-2)

يقف تنظيم “داعش” الآن على حافة التعرض لهزيمة مزدوجة. فالموصل؛ أكبر مدينة يسيطر عليها التنظيم، أفلتت كلها تقريباً من قبضته. وفي سورية، تتقدم القوات بقيادة كردية إلى عاصمة التنظيم بحكم الأمر الواقع، الرقة. والآن، كما يقولون، يأتي الوقت الصعب. فقد أنتجت التراجعات التي يشهدها تنظيم “الدولة الإسلامية” أسئلة جديدة عن المستقبل الأساسي للشرق الأوسط. ولذلك، جمعت مجلة “فورين أفيرز” باقة من واضعي السياسات والخبراء الإقليميين للرد عليها.
*   *   *
أكراد سورية يراهنون على قوة واشنطن الباقية
نوح بونسي*
إذا كنتَ زائراً أميركياً في شمال سورية، فإنك ستواجه السؤال الآتي كل الوقت: هل ستعمد الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى التخلي عن أصدقائها الأكراد؟ ربما تتوقف الإجابة عن هذا السؤال على الكيفية التي تقيّم بها إدارة الرئيس دونالد ترامب أربع أولويات متنافسة: خفض الالتزامات الأميركية المفتوحة في الخارج إلى الحد الأدنى؛ إصلاح تحالفها المتوتر مع تركيا؛ ضمان توفير الحماية من انبعاث جهادي آخر؛ ومواجهة النفوذ الإيراني.
في الحقيقة، تعتمد الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد “داعش” على شريك غير متوقع في سورية: وحدات حماية الشعب الكردية، وهي تشكيل عسكري له روابط قوية مع حزب العمال الكردستاني، المجموعة المتمردة التي تشتبك في حرب متواصلة مع تركيا، الدولة الحليفة في الناتو. وتهيمن وحدات حماية الشعب الكردية على قوات سورية الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة، وتسيطر على الكثير من مناطق شمال سورية، وتشكل شريكاً لا غنى عنه في الحرب ضد “داعش”.
بالنسبة لوحدات حماية الشعب، تذهب أهمية الدعم الأميركي أبعد كثيراً من مجرد القتال ضد الجهاديين. فوجود الأميركيين يحول دون تعرضها لهجمات رئيسية يشنها عليها الجيش التركي القوي، كما أنه يوفر لها الحماية ضد القوات الموالية للنظام التي تتنافس قوات سورية الديمقراطية معها على امتلاك الأراضي. وإذا ما انسحبت الولايات المتحدة من سورية، فإن هذه القوى يمكن أن تشكل عليها خطراً وجودياً. وتراهن وحدات حماية الشعب على أن تقوم واشنطن في نهاية المطاف بتمديد حمايتها عن طريق تقديم “ضمانات” سياسية وعسكرية، والتي ستساعد على تأمين درجة كبيرة من الحكم الذاتي الكردي في المناطق الخاضعة لسيطرتها، والتي تقوم بتعزيزها كنموذج لترتيب فيدرالي مستقبلي في سورية.
هذه المقامرة الخطيرة أقنعت وحدات حماية الشعب بإثبات فائدتها للولايات المتحدة عن طريق القتال في الرقة، وربما خارجها أيضاً، بحيث تصبح بالتدريج أبعد عن قاعدتها الشعبية الكردية. ومع ذلك، وفيما ينطوي على مفارقة، فإن هزيمة “داعش” في سورية يمكن أن تمكِّن الولايات المتحدة من التفكير في اختزال دورها هناك، مما يترك وحدات حماية الشعب مكشوفة بشكل خطير. وربما يروق هذا الخيار لإدارة ترامب الحريصة على الحد من الإنفاق، وتجنب إلحاق المزيد من الضرر بتحالفها مع تركيا.
سوف يعتمد الكثير على ما إذا كات الولايات المتحدة مستعدة لتوسيع دورها إلى ما بعد هزيمة “داعش”، في إطار جهد للحيلولة دون انبعاث جهادي جديد. وكما أظهر سلف “داعش”، تنظيم “القاعدة في العراق”، بطريقة بالغة الدرامية، فإن المتطرفين يمكن أن ينتعشوا سريعاً إذا لم يتم التصدي للتهديدات الأساسية للاستقرار. وسوف يتطلب الحد من هذا الخطر في سورية انخراطاً أميركياً مستمراً ومركِّزاً على تجنب التصعيد بين تركيا ووحدات حماية الشعب الكردية، وعلى تعزيز حكم مستدام في المناطق التي تحررها القوات الكردية من “داعش”. ومن جهتها، سوف تقوم وحدات حماية الشعب بتحسين قبولها كشريك في إضفاء الاستقرار عن طريق إجراء التغييرات اللازمة لنموذجها في الحكم.
تشكل إيران عاملاً آخر يمكن أن يحفز استمرار التعاون. وتعتمد وحدات حماية الشعب على روابط نقل يسيطر عليها وكلاء إيران ودمشق، ومن المرجح أنها ستنجذب أقرب إلى هذا المحور (وروسيا) إذا سحبت الولايات المتحدة دعمها. لكن وحدات حماية الشعب تنظر أيضاً إلى القوة الإيرانية المتنامية في شمال سورية كتهديد، وتسعى إلى الحد من تواجد قوات النظام السوري هناك. وإذا كانت واشنطن تهدف إلى الحفاظ على نفوذ لها في سورية في مواجهة طهران بينما تتجنب خوض مواجهة مباشرة، فإنها ربما ترى قيمة في مواصلة استثمارها في وحدات حماية الشعب الكردية.
*نوح بونسي: محلل رفيع المستوى للشأن السوري في مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة مستقلة لمنع نشوب الصراعات.
*   *   *
جراح سورية المتقيحة سوف تثير نهضة جهادية
عمرو العظم*
مع فقدان تنظيم “داعش” للأرض، من المرجح أن توجه الولايات المتحدة والقوات المتحالفة مع إيران بنادقها إلى ما تتصور أنه أكبر خطر حقيقي متبقٍ: إلى بعضها بعضا.
في الفترة الأخيرة، تمكنت قوات سورية الديمقراطية التي تدعمها الولايات المتحدة ويهيمن عليها الأكراد من دحر المجموعة الجهادية في الرقة، وتشير الأمثلة السابقة إلى أن الأكراد سيسمحون للنظام السوري ومؤسساته بالعودة تدريجياً إلى المدينة والشروع في توفير الخدمات الأساسية. وفي المقابل، سوف توفر قوات سورية الديمقراطية الأمن الضروري للمنطقة. ومع ذلك، فإن التسليم الجزئي للمدينة للنظام، يشكل زواج مصلحة مؤقتاً فقط.
سوف تكون المرحلة الحاسمة التالية هي استعادة مدينة دير الزور المهمة استراتيجياً، والتي تشكل المركز الحضري الأخير المتبقي تحت سيطرة “داعش” في سورية. وكان النظام السوري وحلفاؤه يهيئون أنفسهم للتحرك ضد المدينة واستعادتها من “داعش”، وهو ما قد يجلب النظام أيضاً إلى مكان قريب جداً من الحدود العراقية -وهو هدف مهم لإيران، الحليف الرئيسي للنظام السوري.
مع ذلك، من غير المرجح أن يتناسب هذا الاتجاه جيداً مع غايات الإدارة الأميركية، التي تسعى الآن إلى الحد بنشاط من النفوذ الإيراني. لكن الولايات المتحدة تمتلك القليل من الخيارات تحت تصرفها. لا يمكن القضاء على “داعش” وطرده من شرق سورية إلا باستعادة مدينة دير الزور. ومن غير المرجح أن تكون قوات سورية الديمقراطية راغبة في التحرك ضد المدينة، في حين أن فصائل الجيش السوري الحر المتحالفة مع الولايات المتحدة في جنوب سورية أضعف كثيراً من إمكانية شن مثل هذا الهجوم الرئيسي -مما يترك النظام وحلفاءه ليكونوا الخيار الوحيد القابل للتطبيق. وبالإضافة إلى ذلك، افترض الإيرانيون -مُحقين- أن الولايات المتحدة لن تنخرط في مواجهة كاملة مع قوات النظام حول هذه المسألة.
وبذلك، في أعقاب هزيمة “داعش” في شرق سورية، سيكون الكاسبون الظاهرون هم النظام السوري وحليفه الإيراني. وسيكون الترتيب الجاري مع الأكراد في مدن مثل الرقة ومنبج مؤقتاً في أفضل الأحوال، وسوف ينهار في نهاية المطاف، مما يتسبب في استمرار عدم استقرار وانعدام اليقين في المنطقة.
في حين أن من غير المرجح أن تكون لدى “داعش” أي قدرات تشغيلية في سورية في الأعقاب المباشرة للحملة الحالية، فإن التحديات الحاضرة من التقسيم والديناميات الإقليمية تضمن أن تستمر التوترات العرقية والطائفية المتفاقمة في تأجيج التطرف، مما يسمح في نهاية المطاف للتجسد التالي من نسخة “داعش” بالانبعاث مجدداً في كل من سورية والعراق.
عمرو العظم: أستاذ التاريخ في جامعة شاوني في أوهايو، وعضو في المعارضة السورية.
*   *   *
صراعات السلطة في العراق ما تزال في بدايتها فقط
ريناد منصور*
بالنسبة للكثير من العراقيين، شكل تدمير مئذنة الحدباء الشهيرة في الموصل مؤخراً رمزاً لهزيمة ما يدعى “داعش” في العراق. وكان تحت هذه المئذنة، في جامع النوري الكبير؛ حيث أعلن أبو بكر البغدادي عن إقامة “الخلافة” -والتي دمرتها المنظمة الإرهابية الآن في وجه تقدم قوات الأمن العراقية. ومع ذلك، فإن شكل هذه الهزيمة، والمسار المرجح لعراق ما بعد “الدولة الإسلامية”، يظل غير واضح.
على الرغم من أن مهمته المتعلقة ببناء الدولة قد انتهت، سوف يستمر “داعش” في الوجود. وسوف تشكل منظمة معادة الهيكلة ولا تسيطر على أراضٍ تحديات جديدة. على الصعيد العسكري، تقوم المجموعة باستعادة نموذج حرب العصابات، بما في ذلك شن هجمات ضد المدنيين في مناطق العراق المكتظة بالسكان. وخلافاً لما كان يحدث في السابق، أصبحت لدى المجموعة الآن الكثير من الموارد وتحولت إلى انتهاج أساليب شبيهة بطرق المافيا؛ حيث تقوم بغسل احتياطياتها الهائلة من المال من خلال أعمال تجارية مشروعة ظاهرياً، بما فيها أعمال تبادل العملات والمستحضرات الصيدلانية. وحتى وقت قريب، شمل ذلك أيضاً تبديل الدنانير العراقية بالدولار الأميركي عن طريق مزادات العملة في البنك المركزي العراقي.
سوف تأتي الصراعات الكامنة بين القوى السياسية العديدة في العراق إلى المقدمة، بينما تتراجع القضية المشتركة المتمثلة في هزيمة “داعش”. كما أن النزاعات التي تختمر على الأرض في شمال العراق مهيأة أيضاً للاشتعال: سوف تتنافس قيادة كردستان العراقية، والمجموعات العربية الشيعية والتركمانية شبه العسكرية المنضوية تحت لواء قوات الحشد الشعبي، والقادة السياسيون المحليون، ومقاتلو القبائل العربية السنية، والجهات الفاعلة الإقليمية، سوف يتنافس هؤلاء جميعاً على كسب نفوذ أكبر في المناطق الساخنة الحاسمة في العراق، مثل كركوك، وشمال محافظة نينوي، ومنطقة الحدود العراقية-السورية.
في بغداد، ثمة صراع مهيأ للانفجار أيضاً داخل المجتمع الشيعي، بين رئيس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ورجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر. وتقف السياسات الأميركية والسياسات الإيرانية في تضاد هنا: سوف تعمل طهران من أجل تمكين حلفائها الموثوقين، بمن فيهم المالكي وكبار قادة ميليشيات الحشد الشعبي، مثل هادي الأميري، وقيس الخزعلي، وأبو مهدي المهندس. وفي الأثناء، سوف تركز واشنطن على تقوية سلطة العبادي. ومن المهم ملاحظة أن المنافسة بين العبادي والمالكي والصدر تزداد ضراوة في ظل وجود سكان يزدادون تضرراً وشعوراً بالظلم باطراد، والذين يعتقدون أن الفساد، وليس الطائفية، هو السبب الجذري في صعود “داعش”.
حتى يتمكن العراق من شق طريقه عبر هذه التحديات، فإنه يجب أن يقوي مؤسسات الدولة المحلية والفيدرالية حتى يتمكن من محاربة سلطة اللاعبين العنيفين من غير الدول، والتوصل إلى فهم جديد لتقاسم السلطة المحلية. وعند ذلك ستكون الدولة قد عالجت الأسباب الرئيسية لصعود “داعش” وتعمل على ترجمة الانتصارات العسكرية الحالية إلى تسويات سياسية طويلة الأمد -وتضمن أن لا يكون قدر العراق هو الاتجاه نحو جولة أخرى من الصراع.

صحيفة الغد