الكُل مخطئون بشأن كوريا الشمالية

الكُل مخطئون بشأن كوريا الشمالية

تخيل عالَماً فيه أحد البلدان –البلد (س)- يقوم بقصف ما لا يقل عن سبعة بلدان في أي وقت من الأوقات، ويسعى إلى قصف بلد ثامن، كل ذلك بينما يقوم بتهديد البلد الخصم التاسع –البلد (ص)- بأن يقصفه حتى يلقي به في غياهب النسيان أيضاً. وتخيل أن البلد (س) الموجود في هذا العالَم، كان قد قصف البلد (ص) سابقاً وأعاده إلى العصر الحجري قبل عدة عقود، وهو ما أفضى مباشرة إلى الطبيعة العدوانية الحالية للعلاقة بين البلدين.
والآن، تخيل أن البلد (ص)، الذي لا يقصف الآن أحداً، والذي يساوره القلق من تهديدات مؤسسة جيداً وموجهة ضد أمنه الوطني الخاص، تخيل أنه يهدد بالرد في وجه هذا العدوان في حال قام البلد (س) بمهاجمته أولاً. وفوق كل ذلك، تخيل أن البلد (ص) وحده فقط هو الذي يُصوَّر في الإعلام على أنه المشكلة، بينما يُعطى البلد (س) دائماً إذناً مجانياً ليفعل ما يريد.
الآن، استبدل البلد (س) بالولايات المتحدة الأميركية، والبلد (ص) بكوريا الشمالية، حتى تدرك أنها ليست بك حاجة إلى تخيُّل مثل هذا العالَم. إنه العالم الذي نعيش فيه فعلاً.
بقدر ما هو كل هذا صحيح، تم تأطير المشكلة باستمرار على أنها واحدة تسببت بها كوريا الشمالية وحدها، وليس الولايات المتحدة. وتشرح مجلة الأطلسي: “كيفية التعامل مع كوريا الشمالية”. وتسأل صحيفة نيويورك تايمز: “ما الذي يستطيع ترامب فعله بشأن كوريا الشمالية”؟ ويستفسر موقع هافينغتون بوست: “ما الذي يمكن القيام به مع كوريا الشمالية”؟ وتقدم صحيفة “تايم” ستة خبراء يناقشون “كيف نستطيع أن نحل المشكلة” (مع كوريا الشمالية). وتتساءل محطة (بي. بي. سي): “كوريا الشمالية –ما الذي يستطيع العالم الخارجي فعله”؟
مع ذلك، تناولت بعض التقارير هذه القضية بمقاربات مختلفة تماماً. ففي مقالة نشرت تحت عنوان “اللعبة انتهت وكوريا الشمالية فازت”، يفسر جيفري لويس في مجلة “فورين بوليسي” كيف أن على الولايات المتحدة القبول بالطموحات النووية لكوريا الشمالية، والسعي إلى إيجاد مسارات عمل أخرى. ويقول لويس:
“السؤال الكبير هو: إلى أين نذهب من هنا. ما يزال بعض زملائي يعتقدون بأن الولايات المتحدة ربما تقنع كوريا الشمالية بالتخلي عن، أو على الأقل تجميد برامجها النووية والصاروخية. لستُ متأكداً. وأعتقد أننا ربما يجب أن نعكف على محاولة خفض التوترات حتى نعيش طويلاً بما يكفي للعثور على حل لهذه المشكلة. لكن هناك طريقة واحدة فقط لنعرف من هو المُحِق: تحدثوا إلى كوريا الشمالية”.
ويوضح لويس أكثر:
“الخيارات الأخرى رهيبة بشكل أساسي. ليس هناك خيار عسكري موثوق. فلدى كوريا الشمالية عدد غير معروف من الصواريخ المسلحة نووياً، ربما 60، بما في ذلك صواريخ تستطيع الوصول إلى الولايات المتحدة؛ هل تظنون حقاً أن الضربات الأميركية يمكن أن تطال هذه الصواريخ كلها؟ أن لا يفلت صاروخ واحد ليهبط في سول، أو طوكيو، أو نيويورك؟ أو أن الدفاعات الصاروخية الأميركية ستعمل أفضل مما هو مُخطط، بحيث لا تعترض معظم الصواريخ الموجهة إلى الولايات المتحدة فقط، وإنما تسقط كل واحد منها؟ هل أنتم مستعدون للمراهنة بحياتكم على ذلك”؟
يجدر أيضاً تذكر أن نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال بول سيلفا، أدلى أدلى بشهادته مسبقاً أمام لجنة الأجهزة المسلحة، وقال أن الخبراء يقولون له إن كوريا الشمالية لا تمتلك “القدرة على ضرب الولايات المتحدة بأي قدر من الدقة أو الثقة المعقولة بتحقيق النجاح”.
فلنقارن هذه الملاحظات برأي كل محارب يخوض حربه على لوحة مفاتيح الحاسوب في “فيسبوك” أو “تويتر”، ويعتقد بأن على الولايات المتحدة واجب الدفاع عن نفسها –وتدمير- هذه الدولة المارقة، التي لا تهاجم الآن أحداً في الحقيقة، وليس لديها أي أسباب كامنة لتفعل (خاصة باعتبار أن كوريا الجنوبية مفتوحة على خيار التحدث مع الشمال بدلاً من الاعتماد فقط على المواجهة العسكرية).
المشكلة مع النهج العسكري الذي يروج له عقل مخدور لمخاطبة هذه المعضلة، هو أنه يتجاهل تماماً العوامل التاريخية التي قادت الولايات المتحدة إلى هذا المفترق للطرق في المقام الأول.
في أوائل الخمسينيات، قصفت الولايات المتحدة كوريا الشمالية لترسلها إلى غياهب النسيان تماماً، حيث دمرت أكثر من 8.700 مصنع، و5.000 مدرسة، و1.000 مستشفى و600.000 منزل، وقتلت في نهاية المطاف ما يقارب 20 في المائة من مجموع سكان البلد. وكما لاحظت مجلة آسيا والباسيفيكي، فقد أسقطت الولايات المتحدة الكثير جداً من القنابل حتى أنه لم يعد لديها في نهاية المطاف أي أهداف لضربها. وقالت المجلة:
“بحلول خريف العام 1952، لم تكن هناك أي أهداف فعلية باقية لتضربها الطائرات الأميركية. كانت كل بلدة مهمة، ومدينة ومنطقة صناعية في كوريا الشمالية، قد قُصفت مسبقاً. وفي ربيع العام 1953، استهدف سلاح الجو سدود الري على نهر يولو، لتحقيق هدفين هما تدمير محصول الأرز لدى كوريا الشمالية والضغط على الصينيين، الذين سيترتب عليهم تزويد كوريا الشمالية بالمزيد من الغذاء. وتم ضرب خمسة خزانات للمياه، مما أدى إلى إغراق آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، وغمر مدن بكاملها وتخريب مصدر الغذاء الأساسي للملايين من الكوريين الشماليين”.
في دولتها المعزولة، طلبت قيادة كوريا الشمالية التي تولت السلطة بعد نهاية الحرب الكورية تكنولوجيا الأسلحة النووية من كل من الصين والاتحاد السوفياتي. وبعد انهيار الامبراطورية السوفياتية، نتيجة جهد قادته الولايات المتحدة، شرعت كوريا في المزيد من التدهور، لأنها كانت تعتمد بكثافة على المساعدة السوفياتية. وفي أعقاب اختبار مجاعة في التسعينيات، والتي يقال أنها قتلت ما وصل إلى 500.000 مدني، تُركت كوريا الشمالية لتدبر شؤونها الخاصة بينما تشاهد جارتها الجنوبية وهي تزدهر. وسرعان ما بدأت بتسريع برنامجها للأسلحة النووية.
في عهد إدارة كلينتون، تم إبرام صفقة مع كوريا الشمالية، والتي هدفت إلى ضمان أن تجمد الدولة الشيوعية في نهاية المطاف وتفكك تدريجياً برنامجها لتطوير الأسلحة النووية.
لكن الرئيس جورج دبليو بوش أخرج هذه الصفقة عمداً عن سكتها بطريقة تشبه ما يفعله الرئيس ترامب حالياً في محاولاته إخراج الاتفاق النووي الذي تم ترتيبه مع إيران في العام 2015 عن سكته. ثم، حتى تصبح الأمور أسوأ، اتهمت إدارة بوش العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل وقامت بغزو البلد في العام 2003، ملقية به في دوامة من الفوضى -حتى مع أن العراق لم يكن يمتلك بوضوح أي أسلحة نووية.
هذا القرار –مصحوباً بقرار باراك أوباما وحاشيته في حلف الناتو غزو ليبيا في العام 2011- علَّما كوريا الشمالية درساً قيّماً جداً عما يمكن أن يحدث لدولة عدوة إذا تخلت عن برنامجها للأسلحة النووية. وليس هذا تخميناً. لقد جاء “من فم الحصان” مباشرة.
وفقاً لما تقوله وزارة الخارجية الكورية الشمالية، فإن “الأزمة الليبية تعلِّم المجتمع الدولي درساً خطيراً”، هو أن قرار ليبيا التخلي عن برنامجها للأسلحة في العام 2003، وهي الخطوة التي أشاد بها الرئيس جورج دبليو بوش، كان “تكتيك غزو يهدف إلى نزع سلاح البلد”.
وكان غزو العراق بوضوح تام مرتبطاً بالموارد الطبيعية والمال، كما كان حال قرار غزو وإسقاط ليبيا. ومن الجدير ملاحظته أن التقارير تفيد بأن كوريا الشمالية تجلس على مخزونات كبيرة من المعادن التي تبلغ قيمتها ترليونات الدولارات. كما يصادف أن لها حليفاً رئيسياً واحداً: الشوكة الاقتصادية في خاصرة أميركا، الصين، البلد الذي لدى الولايات المتحدة سياسة احتواء محددة تجاهه.
من الواضح تماماً أن التهديدات المستفِزة ضد ما تصبح بسرعة وباطراد دولة مسلحة نووياً، والمتحالفة مع دولة أخرى مسلحة نووياً، ليس لها أي صلة بالقلق على الأمن العالمي وحقوق الإنسان. وقد حذرت الصين مسبقاً من أن قيادتها ستنحاز إلى أحد جوانب الصراع فقط إذا وجهت الولايات المتحدة الضربة الأولى. ولذلك، فإن الحل البسيط سيكون أن لا تضرب الولايات المتحدة على الإطلاق.
لهذه الأسباب كان دونالد ترامب قد صرح في العام 1999 بأن الولايات المتحدة يجب أن تتفاوض مع كوريا الشمالية كملاذ أول. والآن وقد أصبح يجلس في المقعد الساخن المتحكم بالرموز النووية، مع رئاسة متحللة على وشك الفشل، يبدو أن ترامب قد غير منهجه.
يفشل الناس الذين يجلسون أمام شاشات حواسيبهم والذين يزعمون أنه كان على الولايات المتحدة نسف كوريا الشمالية قبل زمن طويل، في إدراك حقيقة أن الولايات المتحدة كانت قد فعلت ذلك بالضبط، وكذلك حقيقة أن الولايات المتحدة تسببت بالتحديد في الظروف التي تجعل دولة مثل كوريا الشمالية ترغب في حيازة أسلحة نووية في المقام الأول. كما يفشل هؤلاء الناس في إدراك أن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية تجريان تمريناً يحاكي غزواً لكوريا الشمالية كل عام، وأنهما خططتا أيضاً للتمرين على محاكاة توجيه ضربات نووية لذلك البلد أيضاً. بل إن الولايات المتحدة، في تمارينها العسكرية المشتركة المنتظمة مع كوريا الجنوبية، جعلت القاذفات تطير منخفضة إلى الحدود بين الشمال والجنوب، حين تقوم بإسقاط قنابل بزنة 2.000 رطل (900 كليوغرام).
وإذن، مَن هو الذي يستفز مَن؟
إذا وجدتَ نفسك خائفاً من كوريا الشمالية، حاول أن تتخيل كيف يشعر الكوريون الشماليون إزاء حكومتك الحالية وحكوماتك السابقة.
لا أحد يدّعي بأن كيم جونغ أون قديس، لكنه لا يقوم الآن بقصف أحد، وسوف تؤدي أي محاولة منه لقصف حلفاء أميركا أو قواعدها إلى اغتياله الحتمي وتدمير نظامه بأكمله. كما ستخلق مثل هذه الحرب أزمة لاجئين تجعل الأزمة الحالية تبدو شاحبة بالمقارنة.
إن استراتيجية كوريا الشمالية النووية هي استراتيجية ردع فقط. وقد تعلم ذلك البلد الكثير من الدروس من ماضيه الخاص، بالإضافة إلى الدروس التي تعلمها من الغزوات بقيادة أميركية لكل من العراق وليبيا، والدول الضعيفة الأخرى –وفي رد الفعل على ذلك، جعل سياسته المدروسة أن لا يستسلم أبداً للمصير الذي لاقته هذه الدول المذكورة.
يحتاج كل من يستطيع استيعاب وهضم هذه المعلومات وما يزال يطالب بالحرب بين هذين البلدين إلى أن يحزم حقائبه ويلتحق بالجيش بنية محددة هي أن يكون في الخطوط الأمامية من المعركة. فإذا كنتَ تؤمن بهذه الحرب بشكل أصيل، فإن عليك أن تكون مستعداً لخوضها والمشاركة فيها.
أما أي شيء آخر فهو جبن خالص، يتجسد في الجهل المطبق بالخلفية التاريخية لهذا الصراع، ومخاوفه الجيوسياسية، والأزمة الإنسانية التي يمكن أن يخلقها.

داريوس شاتاسماسيبي

صحيفة الغد