عام على انضمام القرم للدولة الروسية

عام على انضمام القرم للدولة الروسية

 عام مضى على انضمام شبه جزيرة القرم إلى الدولة الروسية. عام استثنائي أو عاصف. هذا هو الوصف الأقرب لمجرياته، سياسياً وعسكرياً.

بداية، ما هي شبه جزيرة القرم؟ كيف جرى ضمها، أو إعادتها، لروسيا؟ وكيف بدت العواقب الجيوسياسية لهذا الحدث؟

في القراءة التاريخية، تشير المصادر الروسية إلى أن إمارة (خانية) القرم قد ظهرت في أواسط القرن الخامس عشر، نتيجة تفكك دولة المغول (الأورطة الذهبية)، وأضحت فيما بعد في تبعية الدولة العثمانية، وباتت حليفة لها. وظلت هذه الخانية قائمة حتى القرن الثامن عشر.

وقد تسببت الهجمات المستمرة التي قام بها تتار القرم على الأراضي الروسية في إعلان روسيا الحرب على تركيا في العام 1735. وقد استمرت هذه الحرب حتى عام 1739، وهي الحرب الرابعة من إجمالي عشر حروب بين الدولتين، هدفت إلى فرض السيطرة الروسية على الساحل الشمالي للبحر الأسود.

وفي العام 1783، انتصرت روسيا في حربها على الدولة العثمانية، الأمر الذي أدى إلى احتلال القرم وضمها إلى الدولة الروسية.

وفي الثامن من نيسان أبريل من ذات العام، أصدرت الإمبراطورة الروسية، كاترينا الثانية، فرماناً تحوّلت بموجبه مقاطعات القرم إلى جزء من الدولة الروسية.

وبعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية، التي بدأت بعيد الثورة البلشفية (تشرين الأول أكتوبر 1917)، تم الإعلان في العام 1921 عن قيام جمهورية القرم الاشتراكية السوفياتية، الذاتية الحكم. بيد أن السلطات السوفياتية أقدمت، في أيار مايو 1944، على إلغاء هذه الجمهورية.

وفي العام 1954، أخرج الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، القرم من قوام روسيا السوفياتية، وأهداها إلى جمهورية أوكرانيا، التي كانت هي الأخرى جزءاً من الاتحاد السوفياتي.

وبعد تفكك الدولة السوفيتية في العام 1991، تحولت القرم الى جزء من أوكرانيا المستقلة. وفي شباط فبراير 2014، حدث تطوّر كبير في مسار الأحداث في أوكرانيا، حيث عزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، الموالي للروس، وشكلت سلطة جديدة موالية للغرب، ومناوئة بشدة لموسكو. وسادت أوكرانيا موجة قومية معادية للسكان الناطقين بالروسية، في الأقاليم الشرقية والجنوبية، الأمر الذي غذى النزعات الانفصالية فيها.

وفي 16 آذار مارس، جرى تنظيم استفتاء في شبه جزيرة القرم حول تقرير المصير، والانضمام إلى روسيا، صوت فيه 96.77% من المقترعين لصالح هذا الخيار. ولم تعترف أوكرانيا والدول الغربية بهذا الاستفتاء ورأت فيه سلوكاً هداماً وغير دستوري. وفي الثامن عشر من الشهر ذاته، تم في موسكو توقيع معاهدة انضمام القرم ومدينة سيفاستوبول إلى روسيا الاتحادية. وقد وقع المعاهدة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس برلمان القرم، فلاديمير قسطنطينوف، ورئيس وزراء القرم، سيرغي أكسيونوف، وعمدة سيفاستوبول، أليكسي تشالي.

وقد أجمع الغرب، بعد انضمام شبه جزيرة القرم إلى الدولة الروسية، على القول بأن روسيا تسعى لإعادة رسم خارطة أوروبا الجيوسياسية، استناداً إلى قوتها المسلحة، فضلاً عن كونها “تستولي” على أراضي دولة ذات سيادة. وقبل حوالي سبعة أعوام من الآن، وتحديداً بعد الحرب في أوسيتيا الجنوبية، في صيف العام 2008، بدا الغرب كذلك متحداً في مواجهة روسيا. ولم تعد صواريخ “بيرشينغ” يومها إلى غرب أوروبا، لكن الدبلوماسية عادت لتوحّد خطابها حيال السياسة الروسية، بل وتوحد خياراتها “الرادعة”. أما نتائج الأزمة في أوكرانيا فقد بدت أكثر اتساعاً وتشعباً، وكانت سياسية واستراتيجية أساساً. ومن هذه النتائج، زيادة حدة الاستقطاب مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإعلان الروس أن انسحابهم من معاهدة الحد من القوات التقليدية في أوروبا قد أصبح تاماً ونهائياً.

وفي الأصل، يصر الروس على القول بأن توّسع الناتو قد غير الحقائق الجيوسياسية التي كانت سائدة وقت تعديل معاهدة الحد من القوات التقليدية في أوروبا في العام 1999، وأن هذه المعاهدة لم تعد مؤاتية لمصالحهم، بل وضارة بمستقبل أمنهم القومي. وهنا، قررت موسكو تعليق مشاركتها في المعاهدة، اعتباراً من 12 كانون الأول ديسمبر 2007، حتى أن تصادق دول الناتو على صيغتها المعدلة، وتوافق على رفع القيود عن تسليح الجيش الروسي في شمال غرب روسيا وشمال القوقاز. وكانت قد انضمت إلى الناتو في العام 2004، سبع دول جديدة هي ليتوانيا ولاتفيا واستونيا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وبالنسبة للروس، فقد كان لهذا التوسع أثر أعمق بكثير مما أحدثه انضمام بولندا والتشيك والمجر.

ومن الزاوية الاستراتيجية، تغيّر الوضع في أوروبا تغيّراً جذرياً، ففي الغرب أزاح الناتو روسيا على نحو حازم من ساحل البلطيق، مما جعل مقاطعة كالينينغراد محاصرة من دول الناتو، إذ تفصلها عن بقية الأراضي الروسية دولتان من دول الحلف هما بولندا وليتوانيا. وفي الجنوب تم احتواء روسيا من جهة ساحل البحر الأسود، حيث أضيف إلى عضو الناتو القديم – تركيا – عضواه الجديدان هما رومانيا وبلغاريا. وهناك نقطة هامة تُكمل هذه الصورة، فعشية انضمام الأعضاء السبعة الجدد تبنى البرلمان الأوكراني (الرادا) قراراً يمنح قوات الناتو حق المرور بالأراضي الأوكرانية.

وفي تطوّر تاريخي ذي مغزى، صادق البرلمان الأوكراني، في 23 كانون الأول ديسمبر 2014، على مشروع قانون يلغي الوضع المحايد لأوكرانيا، الذي كانت قد التزمت بموجبه بعدم الانضمام إلى الأحلاف. ومن شأن هذا القانون الآن أن يمهد الطريق لانضمام أوكرانيا للناتو. وقد جاء في نص القانون أنه تم “التخلي عن وضع خارج الأحلاف، والعودة للنهج الرامي إلى التقارب مع الناتو، ما سيعزز مواقع أوكرانيا في مجال الدفاع والأمن”.

وكانت مقاربة ارتباط أوكرانيا بهذا الحلف قد بدت في السنوات القليلة الماضية على درجة كبيرة من التعقيد السياسي والقانوني. ولذا قررت قمة الناتو في بوخارست عام 2008 استبعاد ترشيحها للعضوية، في حين جرى ضم كل من ألبانيا وكرواتيا، لتكونا العضوين 27 و28 بالحلف. وفي تلك القمة، أعربت ثماني دول أعضاء عن معارضتها ترشيح أوكرانيا، خشية إثارة المزيد من التوترات مع روسيا.

وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد أعلن، قبل قمة بوخارست الأطلسية عام 2008، عن إمكانية تصويب صواريخ نووية نحو أوكرانيا في حال ظهور قواعد عسكرية للناتو على أراضيها. وقال بوتين: “سنكون مضطرين لإعادة تصويب صواريخنا نحو المواقع التي نعتبرها تُمثل تهديداً لأمننا القومي. وأجد نفسي ملزماً بأن أقول ذلك على نحو مباشر”.

واليوم، فإن قرار أوكرانيا إنهاء حيادها يُعد قراراً حاسماً على صعيد مسارها السياسي ومستقبلها الأمني، كما أنه يُمهد لإعادة إنتاج كلي لبيئة خياراتها الدولية. وفي إعادة الإنتاج هذه، ستبدو روسيا أكثر صداماً مع السلطة الأوكرانية، وقد ينتهي الأمر باعتراف الروس بالجمهوريتين المعلنتين من جانب واحد في جنوب شرق أوكرانيا، والعمل على تعظيم قدراتهما العسكرية على نحو كبير. وفي الأصل، تعتبر أوكرانيا دولة شقيقة لروسيا. وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذوكسية. وكانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر. ومن أصل سكانها، البالغ نحو 46 مليون نسمة، هناك أكثر من 17 مليوناً ينحدرون من أصول روسية، وتعتبر اللغة الروسية لغتهم الأم.

ومنذ بضع سنوات خلت، حذر معلقون روس من أن الفصل بين موسكو وكييف من شأنه أن يسهم في تعزيز موقع المطالبين بدعم خيار تقسيم أوكرانيا. وبالعودة إلى وضع القرم ذاتها، فقد أصبحت شبه الجزيرة هذه جزءاً من منطقة عسكرية في الجنوبي الروسي، وذلك اعتباراً من نيسان أبريل 2014. وكان قد تم في العام 2010 تقسيم روسيا إلى خمس مناطق عسكرية. وتضم المنطقة العسكرية الجنوبية جميع الأقاليم القوقازية الروسية وأقاليم جنوب شطر روسيا الأوروبي، ويتبع لقيادتها أسطول البحر الأسود، الذي تقع قاعدته الرئيسية في مدينة سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم.

وكانت كميات من الذخائر النووية موجودة في القرم حتى العام 1996 عندما تم إجلاؤها. ولكن المستودعات الخاصة بهذه الذخائر ظلت باقية. وقررت وزارة الدفاع الروسية نشر وحدات من قوات الدفاع الجوي – الفضائي في القرم، التي نُقلت إليها تبعية منشأة تجريب واختبار التقنيات الفضائية قرب مدينة يفباتوريا. كما نقلت تبعية محطة الرادار “دنيبر-أم” في مدينة سيفاستوبول إلى قوات الدفاع الجوي – الفضائي. وتغطي هذه المحطة مناطق كثيرة، بما فيها الشرق الأوسط.

وفي الذكرى السنوية الأولى لانضمامها لروسيا، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إرسال قاذفات استراتيجية حاملة للصواريخ من طراز (TU-22\M3) إلى شبه القرم، في إطار اختبار مفاجئ لجاهزية سلاح الجو الروسي، أعد في الفترة بين 16-21 آذار مارس. وكانت هذه القاذفات ترابط في القرم في أواخر ثمانينات القرن العشرين. ومنذ عام ظهرت أنباء عن احتمال عودتها إلى هناك للمرابطة قرب مدينة سيمفيروبول. وتعتبر (TU-22\M3) نسخة معدلة من قاذفة (TU-22\M)، وقد بدأ إنتاجها عام 1978، واستخدمها سلاح الجو بعيد المدى وسلاح الجو الصاروخي التابع للأسطول الحربي.

وما يُمكن قوله خلاصة هو أن ضم القرم، أو إعادتها، إلى الدولة الروسية، قد مثل منعطفاً كبيراً في فضاء الأمن الأوروبي، كما العلاقة بين الشرق والغرب، وألقى تالياً بتداعياته العميقة الأثر على بيئة العلاقات الدولية.

عبد الجليل زيد المرهون

الرياض