بين الأتراك والأكراد.. طريق واشنطن المسدود في سوريا

بين الأتراك والأكراد.. طريق واشنطن المسدود في سوريا

في الرابع من (يوليو/تموز) اقتحمت قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية المدعومة من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدةلمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بتنظيم الدولة، مدينة الرقةالقديمة عاصمة دولة الأمر الواقع التي فرضها التنظيم. على الرغم من أن القتال في المدينة سيكون دمويًا وعنيفًا إلا أنه حين ينتهي ستكون المعركة تتويجًا للتعاون المشترك بين التحالف الأميركي وقوات سوريا الديمقراطية الذي دام لسنوات.

لكن المعركة ضد تنظيم الدولة لن تنتهي بتحرير الرقة ولن تنتهي معها مسؤوليات الولايات المتحدة تجاه سوريا. مقاربة الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة وخصوصًا باختيارها التحالف مع شركائها الأكراد المحليين منحتها نصرًا لن يستمر ما لم تبق الولايات المتحدة. إذا نظرنا إلى ما وراء الرقّة والحرب الآنية ضد تنظيم الدولة فإن الصورة الإستراتيجية الكبيرة تنذر بالخطر: ورّطت الولايات المتحدة نفسها في وجود غير محدود في شمال سوريا في وسط منطقة مضطربة ومعادية بدون أي طريقة واضحة للخروج.

حلفاءٌ صعبو المِراس

قوات سوريا الديمقراطية هي قوّة سورية تقودها قوات حماية الشعب الكردية “واي بي جي” (YPG) والتي عقد معها التحالف شراكة تكتيكية ضد تنظيم الدولة في 2014، وفي 2015، ساعدت الولايات المتحدة في إعادة تسويق الـ”واي بي جي” ومجموعة من حلفائها الأصغر في قوات سوريا الديمقراطية “إس دي إف” (SDF) لتقليل الجدل الدائر حول المجموعة. الـ”واي بي جي” ذات صِلات قوية بحزب العمال الكردستاني “بي كي كي” (PKK)، الذي خاض تمردًا طويلًا استمر لعقود ضد الجارة تركيا، حليفة الولايات المتحدة في حلف الناتو. الأدهى من ذلك أن الذراع المدني لقوات حماية الشعب الكردية حزب الاتحاد الديمقراطي “بي واي دي” (PYD) مليء بالكوادر التي تلقت تدريبها مع حزب العمال الكردستاني. هذا الأمر لم يَفُت تركيا التي تنظر لـ”واي بي جي” و”بي واي دي” باعتبارهما الأفرع السورية لحزب العمال الكردستاني. منذ 2014وأنقرة تراقب التوسع العددي والجغرافي للمجموعة بحذر حتى وهي تخوض حربًا ضد تمرد حزب العمال المتجدد في الداخل التركي.

إدارة أوباما مراعاة لتركيا أصرت على أنها لم تزود سوى العناصر العربية غير المثيرة للجدل من قوات سوريا الديمقراطية بالسلاح. لم تشعر تركيا بالرضا عن الوضع فالمسؤولون الأميركيون والأتراك يعلمون أنه هذه الوحدات العربية تعمل باعتبارها داعمة ومساعدة لقوات حماية الشعب الكردية التي تمثل قلب المجموعة. ثم في (مايو/أيار) الماضي أعلنت إدارة ترمب أنها ستسلح قوات حماية الشعب الكردية مباشرة في معركتها في الرقّة.

لطالما كانت شراكة الولايات المتحدة مع قوات حماية الشعب الكردية شراكة عملية. ما تريده الولايات المتحدة في سوريا هو قتل تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردية جيدة في قتل تنظيم الدولة. تمتلك هذه القوة العسكرية الدافع والتماسك وبالإمكان الاعتماد عليها. أما البدائل المتاحة ومن بينها الفصائل المرتبطة بتركيا في تقدمها نحو الرقّة لم تكن كذلك.

لكن ليس من الواضح ما الذي ستفعله الولايات المتحدة عندما ينتهي القتل، وما الذي سيحدث لشراكتها مع قوات حماية الشعب الكردية. خلال اجتماع عقد لمناقشة العلاقات التركية الأميركية في (مايو/أيار) الماضي؛ وصف المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية شَراكة واشنطن مع قوات حماية الشعب الكردية بأنها مؤقتة وعملية وتكتيكية. وفي (يونيو/حزيران) كان المتحدث باسم وزارة الخارجية مُراوِغًا حين قال إن الولايات المتحدة ترى أن قوات سوريا الديمقراطية “هي أفضل قوة بإمكانها استعادة السيطرة على الرقة” بينما رفض “التوصيف أو الدخول في افتراضات نظرية عن المستقبل”. بينما أرسل وزير الدفاع جيمس ماتيس إشارات مختلطة بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستمر في تسليح قوات حماية الشعب الكردية بعد معركة الرقة.

حتى الآن استثمرت الولايات المتحدة القليل في برامج إعادة الاستقرار في المناطق التي تم تحريرها من تنظيم الدولة مِن قِبَل قوات سوريا الديمقراطية. في حين أصر المسؤولون الأميركيون على أنهم لن يتورطوا في عمليات إعادة إعمار أو بناء للأمة دون حل سياسي موثوق للحرب الأهلية في سوريا تجعل من نظام الرئيس بشار الأسد شريكًا مناسبًا. هذا النوع من التسوية الوطنية لا يبدو متاحًا في المستقبل المنظور مما يضع الولايات المتحدة أمام خيارات غير سارّة.

تهدف الولايات المتحدة لهزيمة تنظيم الدولة وليس للمساعدة في مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي السياسي الذي يهدف للسيطرة الدائمة على أجزاءٍ مِن سوريا. مع ذلك لا يبدو أن بإمكان الولايات المتحدة إعلان النصر ثم المغادرة. لأنها إذا أنهت معركتها فجأةً ضد تنظيم الدولة وانسحبت من شمال سوريا؛ ستشن تركيا هجومًا، أو على الأقل هذا ما أخبرني به مسؤولون أتراك. وسيؤدي هذا إلى اضطرابٍ هائل يضرُّ بتركيا وقوات حماية الشعب الكردية كلاهما. مثل هذه الفوضى ستمنح تنظيم الدولة بالتأكيد فرصةً للتعافي واستعادة المكاسب التي حقَّقها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.

من الممكن تخيُّل اتفاقٍ أو ترتيبٍ بين نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية؛ يضع القوى السورية والإقليمية في حالة توازن صعب يُمكِّن الولايات المتحدة من المغادرة. أما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وعلى خلاف المعارضة السورية الثورية، فقد حدَّد طموحاته السياسية بأقل من المطالبة بتغيُّر النظام. نتيجةً لذلك حافظَ الأسد والأكراد على علاقة متوترة ولكنها عملية، وظلَّت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو الأكراد متداخلةً من الناحية المؤسساتية والاقتصادية.

نظريًا فإن مواقف نظام الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي وتركيا بإمكانها أن تتناغم بصعوبة من خلال اتفاقٍ كُردي مع النظام يضمن بعض الاستقلالية في المناطق الكردية مقابل ضمان وحدة الأراضي السورية وتقديم ما يكفي من سيادة الدولة المركزية؛ ما يخفِّف من مخاوف الأتراك. حتى وإن اعترضت تركيا، فإن الاتفاق بإمكانه وضع قوات سورية روسية مشتركة على الحدود التركية ولن تكون تركيا راغبةً في مهاجمتها.

عمليًا يبدو هذا الأمر مستبعد الحدوث على المدى القريب. فالانفراجة الحالية بين قوات حماية الشعب الكردية والنظام مازالت بعيدةً عن اتفاق موضوعي مكتمل. أخبرني المسؤولون الأكراد بأن المفاوضات التي ترعاها روسيا بين الطرفين لم تصل إلى شيء. إذ ألقوا باللوم على نظام الأسد الذي ما زال بعد ستّ سنواتٍ من الحرب مُغاليًا وغيرَ عقلاني، ويرفض الاعتراف بما يرون بأنه مِن حقِّهم. لكن حزب الاتحاد الديمقراطي كذلك ليس راغبًا في التنازل ومن المستبعد أن يتخذ خيارات صعبة طالما ظلَّ مدعومًا من الولايات المتحدة.

أما في داخل الحكومة الأميركية، فهناك رغبةٌ ضئيلة في التوسط بفاعلية في اتفاق بين الحزب ودمشق؛ التي مازالت تُعتبر سامَّةً وتابعة لإيران. هذا بالإضافة إلى أن عودة سيطرة النظام على شمال سوريا لن يكون مناسبًا لجهود حملة مكافحة تنظيم الدولة والتي تعتمد على حرية عمل القوات الخاصة الأميركية وإقامة القواعد في المنطقة. دعم الولايات المتحدة لقوات حماية الشعب الكردية ساعدها على رفض المبادرات الإيرانية؛ ما تسبب في منع طهران من إقامة خط إمداد يصل العراق بسوريا إلى لبنان من خلال شمال سوريا الكردي.

لكنَّ غياب أي اتفاق يعني في الغالب بقاء الوجود الأميركي المفتوح في شمال شرق سوريا وهو تقسيمٌ على أرض الواقع يُبقي سوريا وجيرانها في حالة لا يقين غير محددة. في هذه الحالة ستكون الولايات المتحدة هي راعي نصف دولة كردية-سورية تؤدي إلى اضطراب وعدم اتزان كل ما حولها. وسيكون لهذه الدولة الحدّ الأدنى من المؤسسات والخدمات العاملة لكن دون أي استثمارات تؤدي إلى التنمية والازدهار. وستفتقد للصلات الاقتصادية والتجارية مع جيرانها ومن بينهم كردستان العراق. وللحفاظ على السلام الإقليمي؛ ستضغط الولايات المتحدة باستمرار على حزب العُمّال الكردستاني لعدم مهاجمة تركيا التي ستكون في حالة احتداد دائمة حتى لو منعها الوجود الأميركي من التدخل في شمال سوريا. مع ذلك حذَّرني مسؤولٌ تركي: إذا شنَّ حزب العمال الكردستاني أو أحد أفرعه هجومًا كبيرًا في تركيا ستردُّ تركيا بقصف قوات حماية الشعب الكردية في سوريا وفي النهاية قد تقتل تركيا أو تصيب أميركيين متعاونين مع حزب الاتحاد الديمقراطي أو قوات حماية الشعب الكردية، مما يهدِّد التعاون التركي الأميركي ويتسبب بخسارة أميركية في الأرواح.

نهاية مسدودة

في هذه النقطة مثل هذا التقسيم يبدو أفضل الخيارات المتاحة، لكن بكل المقاييس الموضوعية فهو ليس خيارًا جيدًا. فبشراكتها مع قوات حماية الشعب الكردية وصلت الولايات المتحدة إلى نهاية مسدودة من الناحية الإستراتيجية. تحتاج للبحث عن مخرج. تحديدًا تحتاج الولايات المتحدة إلى البحث عن تنسيق ممكن مع روسيا. أخبرني المسؤولون الأكراد أن روسيا تحاول بالفعل الضغط على قوات حماية الشعب الكردية للسماح بعودة أكبر للنظام في شمال شرق سوريا، وقد تساعد روسيا في التوصل لتسوية غير مريحة لكن مفيدة بين النظام وقوات حماية الشعب الكردية حيث تكون روسيا هي الضامن.

الانتصار على تنظيم الدولة يعني إخراج التنظيم من أراضيه المركزية وتحييد خطره على النظام الإقليمي وإعاقة قدرته على تنفيذ عمليات خارجية ثم الخروج بطريقة إلى تؤدي إلى انفجار هذا كله.

الجزيرة

واشنطن في حاجة إلى الوصول لـمخرج إستراتيجي من شمال شرق سوريا. دونه قد يعني الحفاظ على النصر ضد تنظيم الدولة الإسلامية صب المزيد من القوات الأميركية والموارد والموثوقية في ثقب أسود من الاضطراب الإقليمية إلى مالا نهاية