لاس فيغاس: محاولة لعدم الفهم

لاس فيغاس: محاولة لعدم الفهم

وصل ستيفن بادوك، المحاسب الثريّ المتقاعد المحب للقمار، إلى منتجع وكازينو «ماندالاي باي» قبل ثلاثة أيام من حفل موسيقى الريف «الكاونتري» الأمريكية في «مدينة الخطيئة» (كما يصفها الأمريكيون) لاس فيغاس. أحضر معه 10 حقائب محملة بذخيرة تكفي لفرقة كوماندوز، فيها 23 بندقية آلية بعضها يحمل أجهزة رؤية مقربة.
من شقته الفاخرة التي استأجرها والمطلة على موقع الحفل قام بادوك بتحطيم زجاج النافذة وبدأ عند الساعة 10.08 مساء بإطلاق النار على قرابة 22000 شخص، وشاهد من مكانه المرتفع الأبرياء يسقطون بالعشرات، ثم بالمئات. طبيب جراح من أصل عربي يدعى سيد شكيب، في مشفى قريب، قال إن مشفاه استقبل 104 جرحى مصابين بطلقات نارية.
المعلومات المتوافرة حتى الآن تقول إن القاتل، الذي انتحر بعد أن قتل 59 شخصاً على الأقل وجرح أكثر من 527 آخرين، كان ثريّاً ولديه عقارات، وأنه عمل لثلاث سنوات في شركة الصناعات الدفاعية العملاقة لوكهيد مارتن، وأنه ربح قبل ثلاث سنوات 250 ألف دولار بالقمار، وأن لديه صديقة تعيش معه.
كان مثيراً للمفارقة، بعد كل هذه المعلومات، أن يسارع تنظيم «الدولة الإسلامية» لتبني الهجوم المريع وأن يؤلف المسؤولون عن وكالته الإعلامية «أعماق» قصة سريعة تقول إن بادوك «اعتنق الإسلام» فنفذ العملية (كما لو أن اعتناق الإسلام يؤهل صاحبه مباشرة للإجرام الجماعي)، أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فقال إن ما حصل «معجزة» لأن أجهزة الأمن، برأيه، «قامت بعمل رائع» بإنهاء الهجوم بسرعة (وهذا غير صحيح فالمهاجم توقف بعد 12 دقيقة وانتحر فيما وصلت الشرطة إلى مكانه بعد ساعة و12 دقيقة).
عملية إطلاق النار الأكثر ضحايا في التاريخ الأمريكي هذه ليست «معجزة» وليست «غزوة» لتنظيم «الدولة» فهي جزء من تاريخ طويل يمكننا تذكر أهم معالمه، ومنه عملية أورلاندو عام 2016 التي أدت لمقتل 49 شخصا، وعملية بلاكسبورغ، 2007، التي أدت لقتل 33 شخصا، ونيوتون، 2012، 28 شخصا، وكيلين، 1991، 24 شخصا، وسان إزيدرو، 1984، 22 شخصا، وأوستن، 1966، 18 شخصا، وسان برناردينو، 2015، 16 شخصا، وإيدموند، 1986، 15 شخصا، وفورت هوود، 13 شخصا.
بين هذه العمليات العشر كان هناك منفذان مسلمان، لكن واحداً منهما، هو عمر متين، تم ربط عمليته باتجاهات الإسلام الراديكالي، وهو ما يعني أن جرائم إطلاق النار الدموية التي ينفذها أمريكيون لأسباب غير سياسية هي أعلى بكثير من العمليات التي ينفذها مسلمون لأسباب أيديولوجية.
بل إن النبش في التاريخ الأمريكي يظهر أنه حتى العملية الأخيرة في لاس فيغاس لا يمكن اعتبارها حادثة إطلاق النار الجماعي الأسوأ فهناك مجزرة كبرى نفذها أعضاء كوكلوكس كلان في لويزيانا أدت لمقتل 150 رجلا أسود، كما تذكر مصادر تاريخية أن مجزرة أخرى في شرق سانت لويس عام 1917 ذهب ضحيتها قرابة 100 رجل أسود وثمانية بيض.
على ضوء هذا التاريخ هل يجب أن نعتبر العمليتين اللتين نفذهما مسلمان جزءاً من التراث الأمريكي للعنف أم علينا أن نفردهما في خانة خاصة فيعفيان وحدهما من حالات «المرض العقلي» التي توصف بها حالات الإجرام الجماعي الأمريكية الأخرى، وبذلك يكتسبان «مجد» المعنى والأيديولوجيا والإرهاب؟
والسؤال الآخر، مع تبيان أن المسؤولين عن الجرائم الجماعية من غير المسلمين هم أكثر بكثير من المسلمين (خصوصاً بعد أن اقترحت وزيرة الداخلية البريطانية تجريم من يطالعون مواقع تحرّض على الإرهاب «الإسلامي» وحبسهم 15 سنة): هل سيتم تجريم من يتابعون مواقع إرهاب (غير إسلامية) تحرّض على العنف والإجرام المعمم؟
الحقيقة أن بادوك ليس «مريضاً» و«مجنونا» كما قال ترامب بل العالم نفسه هو المريض والمجنون.

صحيفة القدس العربي