إدارة ترامب طعنت الأكراد في الصدر

إدارة ترامب طعنت الأكراد في الصدر

يوم 22 أيلول (سبتمبر) الماضي، صوت الأكراد في أربيل والسليمانية ودهوك وكركوك بالأغلبية لصالح الانفصال عن العراق.
كان هذا الحدث قادماً منذ وقت طويل. ويشكل الأكراد الذين يبلغ عددهم 28 مليون شخص أكبر شعب بلا دولة على وجه البسيطة؛ حيث تقسمت “أمتهم” في ظل حكومات استبدادية في العراق وإيران وسورية وتركيا. ويعيش نحو 6 ملايين منهم في العراق. وكانت الحكومة المركزية العراقية تحت حكم صدام حسين قد أعدمت مئات الآلاف منهم بالأسلحة التقليدية والكيميائية. وبعد القضاء على نظام صدام، انسحب الأكراد فعلياً من باقي العراق وبنوا الإقليم الوحيد العامل بشكل مناسب في البلد، بينما استهلك الباقي نفسه بالدم والنار.
يشكل الأكراد الشعب الأكثر حماسة في موالاة أميركا وفي معاداة الإسلامويين في المنطقة برمتها. وكانوا، منذ بعض الوقت، الوحيدين العازمين حقاً والقادرين على الانقضاض على “داعش” وهزيمته. وليس أي من الأحزاب والحركات الكردية العراقية إرهابية؛ بل على العكس، فمن أصل المجموعات العرقية والدينية الثلاث الأكبر في البلد، كان الأكراد هم الوحيدون الذين يقاومون الإرهاب بكل أشكاله وفي كل مكان -وليس فقط في العراق، وإنما في كل مكان آخر في العالم.
ومع ذلك، يقول وزير الخارجية الأميركية، ركس تيلرسون، إن استفتاءهم على الاستقلال غير شرعي: “الاقتراع والنتائج يفتقران إلى الشرعية، ونحن نستمر في دعم عراق موحد وفدرالي وديمقراطي ومزدهر”.
أي هراء! لقد أدلى ثلاثة ملايين شخص تقريباً بأصواتهم، واختارت نسبة 92 في المائة منهم الاستقلال. ومن غير الممكن أن تكون تلك الأرقام قد زيفت. وقد زرت كردستان أربع مرات خلال الحرب ولم أقابل فرداً واحداً هناك يرغب في البقاء في العراق. والأجانب فقط هم الذين يشيرون إلى شطرهم من البلد باسم “شمالي العراق” بدلاً من “كردستان”. ولا تستطيع ضمان أن لا يعنفك المواطنون المحليون إذا أشرت إلى المكان على مسمع منهم بأنه “العراق”. ويشكل تزوير تصويت الاستقلال في بيئة كهذه منقطاً لا يختلف عن تزييف الديمقراطيين في الولايات المتحدة انتخابات ضد الجمهوريين في سان فرانسيسكو. فما الفكرة؟ إذا كان ثمة فكرة، فإن نسبة 92 في المائة من التصويت بـ”نعم” تعتبر منخفضة، وهي بذلك “الانخفاض” لأنه تم ضم محافظة كركوك مختلطة الأعراق هذه المرة.
إن كردستان هي أمة في كل شيء سوى الاسم، بينما العراق أمة بالاسم فقط. وتشكل بغداد، من وجهة نظر الأكراد، عاصمة أجنبية وموطناً للإرهابيين وللمليشيات المنحرفة والدكتاتوريين ومجرمي الحرب.
لو أن أهل الشرق الأوسط رسموا حدودهم بدلاً من الامبرياليين الفرنسيين والبريطانيين، لما كان عراق اليوم موجوداً. (ولا حتى سورية للسبب نفسه). ويعود التوق إلى قيام كردستان مستقلة وراء إلى انهيار الامبراطورية العثمانية عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، في الوقت نفسه الذي شهد مولد القوميتين العربية والتركية تقريباً. وفي ذلك الحين، وعدت عصبة الأمم الأكراد بحكم ذاتي، لكن دول المنطقة لم تسمح بذلك. ومن الطبيعي أن يكون الأكراد راغبين في الخروج. فتحت أي نظرية قد يريدون البقاء؟ والقول إن استفتاءهم على الموضوع ليس مشروعاً، كما يقول تيلرسون، كذبة تستحق الازدراء لدى القول إن الأكراد أصدقاؤنا.
مثلما هو متوقع، شدد أعداء الأكراد الضغط. وأمرت إيران بحظر الوقود وأعلنت الحكومة العراقية الفدرالية عن إقفال الحدود وحظر طيران كل الرحلات الجوية من وإلى المطارين الدوليين في أربيل والسليمانية من جانب سلطة الطيران المدني. فإذا كنت تريد أن تزور أو تعمل في كردستان العراق لأنها أكثر أمناً بكثير من باقي البلد (وهي كذلك)، فأنت غير محظوظ. الآن عليك السفر عبر بغداد والمجازفة بأن يلاحقك قاطعو الرؤوس. كما أوقفت تركيا شحنات الوقود أيضاً وهي تهدد بالتدخل العسكري، ويهدد رئيسها ويقول إن منع الاستقلال الكردي في العراق هو “مسألة وجود”.
لا تهدد كردستان العراق وجود أحد. لم يقم أكراد العراق بغزو أحد، ولا مصلحة لهم في غزو أحد ولم يدعموا الإرهابيين أو أي ميليشيات على أرض أحد، وبشكل خاص على أراضيهم الخاصة.
لم يسبق أن حوصرت أي مجموعة أخرى في العالم بهذه الطريقة لإعلانها الاستقلال -لا الأستونيين الجنوبيين ولا الأبخاز في جورجيا، ولا أهل القرم في أوكرانيا، ولا الألبان في كوسوفو ولا أي أحد آخر. الأكراد فقط هم الذين عوملوا بهذه الطريقة لأن حظهم في العالم أكثر بؤساً من فضاء ما بعد السوفيات. وهم يتعرضون لهجوم جيرانهم المحاربين -ثانية- ويقف دونالد ترامب وركس تلرسون إلى جانب هؤلاء المحاربين، وهما ليسا صديقين للأكراد وأحدهما يعد عدواً.
نعم، من شأن دعم الاستقلال الكردي أن يجعل الحياة أكثر تعقيداً بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط مما هو عليه أصلاً. وحتى مع ذلك، لكم أصبحت الولايات المتحدة صغيرة منذ أيام الحرب الباردة. عندما حاصر الاتحاد السوفياتي الهائل برلين الغربية في محاولة للقضاء على الجيب الغربي الصغير، أمدت إدارة ترومان برلين بجسر جوي أوصل ملايين الأطنان من الشحنات -غذاء وأدوية ووقود- على مدار عام.
لكن دعم الاستقلال الكردي لا يتطلب أي شيء مثل الجسر الجوي الذي تم إمداد برلين به. ليست تركيا -بالرغم من أخطائها- روسيا السوفياتية. وهي ليست قوة عظمى وإنما قوة إقليمية. وهي ليست مهتمة بغزو العالم. ولا تستطيع نسف الكوكب أو خوض حروب أجنبية طويلة بعيداً عن حدودها. وهي لا تحاول تجويع كردستان ولا تستطيع حتى لو أرادت ذلك. بل على العكس، تتمتع تركيا بعلاقات جيدة مع حكومة كردستان الإقليمية الآن ومنذ عشرة أعوام تقريباً. وباستطاعتها، مع قليل من الضغط من جانب الولايات المتحدة ومن أوروبا، الإبقاء على هذه العلاقات الجيدة مع حكومة كردستان الإقليمية إذا أصبحت سيادية، وليست حكومة حكم ذاتي ببساطة. إنه نفس الكيان تماماً، وهو يتمتع مسببقاً بالسيادة بحكم الأمر الواقع.
بكلتا الطريقتين، يشكل الأكراد أصدقاء للولايات المتحدة أفضل بكثير من تركيا أو العراق سابقاً ولاحقاً.
ناقش مجلة “فورين أفيرز”، جدعون روز، والفيلسوف الفرنسي بيرنارد هنري- ليفي هذا الموضوع على شبكة (سي. إن. إن) في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. ويدعم روز ما وصفه بسياسة خارجية “واقعية” معادية للأكراد، بينما يؤيدهم “المثالي” هنري-ليفي. ويستطيع المرء بسهولة أن يقدم قضية “واقعية” للأكراد. وبمعاقبة أصدقائنا وتبني مواقف أعدائنا وغير أصدقائنا، ستكون النتيجة الحسابية القابلة للتوقع هي تمكين أعدائنا على حساب أصدقائنا -وهو عكس ما يُفترض أن تنجزه سياستنا الخارجية.
من المؤكد أن تركيا هي جزء من تحالف الناتو بينما الأكراد ليسوا كذلك. وهكذا تعد تركيا “صديقاً” بهذا المفهوم. ولكن تركيا لو لم تكن موجودة في الناتو أصلاً لما قبلت عضواً فيه. إنها لا تهدد حلفاءنا في كردستان العراق فقط، وإنما تقيم علاقات أوثق مع إيران وروسيا وتشتري نظام دفاع صاروخي من موسكو. كما دعمت “داعش” في سورية حتى وقت قريب. وهي عضو من الدرجة الثانية في أفضل الحالات ويجب معاملتها كذلك. وإذا كانت لا تستطيع التكيف مع أميركيين يحملون قيماً أميركية ولديهم اهتمامات ومصالح أميركية، فإن مغادرتها ستكون شيئاً مرحباً به.
أعتقد أن مستشار الأمن القومي الأميركي السابق المقال، مايك فلين، هو جزء من المشكلة. فقد عمل كعميل أجنبي مدفوع الأجر لصالح تركيا حتى بعد انضمامه إلى حملة ترامب في الانتخابات الرئاسية. وكان راسبوتين، لبعض الوقت، بالنسبة لترامب عندما كان الأخير صفحة بيضاء. ولا أعرف على وجه التأكيد ماذا قال لترامب عن تركيا ورئيسها أردوغان، لكنني أراهن على آخر دولار بأنه لم يقل لرئيسه إن دعم الأكراد يصب في صالح أميركا. ونحن نعرف أن فلين عارض تسليح إدارة أوباما للأكراد في سورية لقتال “داعش” لأن أردوغان لم يرد ذلك، وحاول تأخير خطة استعادة مدينة الرقة من “داعش” نيابة عن أردوغان. وكان الأتراك قد دفعوا لفلين أكثر من نصف مليون دولار لترويج مصالحهم في داخل حملة ترامب وفي البيت الأبيض أيضاً.
أما بالنسبة لريك تيلرسون، فربما لا يكون فاسداً. فقد كان مشغولاً فقط في تسيير أعمال وإدارة شركة نفطية بدلاً من دراسة الديناميات المشحونة بين العرب والفرس والأتراك والأكراد في الشرق الأوسط.
وفي الأثناء، يتفاخر ترامب نفسه بأن أردوغان “صديقه”، تماماً مثلما فعل أوباما. لم يكن أردوغان قد بدأ، على الأقل، المرحلة الستالينية من حكمه عندما وثق أوباما عن حمق بالرجل الخطأ في المنطقة.
من المؤكد تقريباً أن البيت الأبيض يفهم أن السياسة الخارجية الناجحة هي تلك التي تكافئ الأصدقاء وتعاقب الأعداء. لكن الرئيس لا يستطيع حتى أن يفهم ذلك بالشكل الصحيح إذا كان لا يعرف من هم أصدقاؤه ومن هم أعداؤه.
إن كردستان فريدة جداً في الشرق الأوسط لدرجة أنها تبدو موجودة في نوع من عالم بديل. إنها المكان الأكثر موالاة لأميركا والغرب في المنطقة، حتى أكثر من إسرائيل. (وهي أيضاً مؤيدة متعصبة لإسرائيل، فيما يضعها حتى أبعد عن جيرانها). ومرة تلو المرة، سمعت من شعبها -بمن فيهم مسؤولون حكوميون- أنهم يريدون من الولايات المتحدة أن تبني قواعد عسكرية دائمة هناك. حتى أنني سمعت، أكثر من مرة، أن تنضم كردستان العراق إلى الاتحاد بحيث تصبح الولاية الأميركية رقم 51. وهؤلاء الناس حلفاء أكثر موثوقية حتى من الأوروبيين. ومع ذلك، ولأن الناس والأمم التي لا تحبنا -وحتى تكرهنا- يريدون أن يظل الأكراد تحت الحذاء، فإننا نفعل ما يريدون.
قال لي الكولونيل في قوات البشمرغة الكردية، صلاح الدين أحمد أمين، قبل بضع سنوات عندما كان العراق يحترق: “أنا أطلب من الأميركيين أن لا يتركونا. منذ العام 1920 وحتى الآن، أصِبنا بالإحباط وخيبة الأمل من تعهداتهم ووعودهم. خاب أملنا ثماني مرات. وأنا أطلب من الشعب الأميركي ألا يجعلوها تسع مرات”.
ولكن، للأسف يا كولونيل، لقد جعلها دونالد ترامب وركس تلرسون ومايك فلين تسعاً.

مايكل جيه توتن

صحيفة الغد