صنع في الصين: اقتصاد رأسمالي بروح ماركسية تقوده دولة بنظام شيوعي

صنع في الصين: اقتصاد رأسمالي بروح ماركسية تقوده دولة بنظام شيوعي

تثير تحركات الصين الخارجية اهتماما دوليا وقلقا أميركيا، فهذا الأسد النائم يبدو أن زمانه قد حان وأنيابه بدأت تبرز.

تتوسع الصين شيئا فشيئا على الخارطة الإستراتيجية العالمية، ولم يعد الأمر يقتصر على الاقتصاد والتكنولوجيا والبضائع المقلدة. كان للصين خلال السنوات الأخيرة انفتاح لافت على مستوى سياستها الخارجية والقفز خطوة كبيرة بعيدا عن التأثيرات السياسية للثورة الثقافية وقيود ماو تسي تونغ. وتجمع الصين اليوم أكبر نقيضين وأكثر ثقافتين متضادتين؛ ماكدونالد الرأسمالي والحزب الشيوعي الصيني الماركسي.

من طريق حزام الحرير مع دول الخليج العربي والشرق الأوسط، ودول أخرى من القارات الثلاث، إلى الاستثمارات الضخمة في أفريقيا والمواقف الصريحة من القضايا الدولية الحارقة، بدأت الصين تطبق توجهات دولية جديدة تخدم برنامج “صنع في الصين 2025” الذي يتم تطبيقه حاليا بحماسة من قبل الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وفي ظل هذه المتغيرات، تنعقد الأربعاء 18 أكتوبر 2017 أعمال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. وتتجه أنظار الصينيين وعدد كبير من دول العالم نحو المؤتمر الذي ينعقد في بكين كل خمس سنوات، والذي ويشارك فيه 2287 شخصا يمثلون صفوة القيادات في الصين. وينتهي باختيار فريق العمل الذي سيساعد شي جين بينغ في تنفيذ السياسات والتوجهات الداخلية والخارجية في كافة المجالات على مدى السنوات الخمس القادمة.

تحدد قرارات ومخرجات هذا المؤتمر مستقبل مجتمع يمثل خمس سكان الكرة الأرضية، واقتصاد يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. ولنتائج المؤتمر تداعيات مهمة على الكثير من الدول والقوى الكبرى، خاصة بعد أن أصبحت بكين أهم شريك تجاري لحوالي 130 دولة، ولديها قدرات عسكرية هائلة وطموحات خارجية متصاعدة في مقابل التهديد الخارجي.

ويشهد المؤتمر نقاشات مطولة حول جهود الرئيس الصيني في الخمس سنوات الماضية لتطبيق رؤيته وأفكاره لتحقيق التنمية الصينية، في إطار ما يعرف بـ”الحلم الصيني” الذي يهدف إلى خلق مجتمع مزدهر وخال من الفقر بحلول عام 2021، أي في الذكرى المئوية لنشأة الحزب الشيوعي الصيني، وإلى التجديد العظيم لنهضة الشعب الصيني بحلول عام 2049 الذي يمثل الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.

ويناقش المؤتمر مبادرة “حزام واحد، وطريق واحد” التي أعلنها الرئيس الصيني في عام 2013، لبناء مكانة الصين الدولية وتعزيز علاقاتها مع دول العالم، بناء على مبادئ التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والمنفعة المتبادلة.

قرارات المؤتمر تحدد مستقبل مجتمع يمثل خمس سكان العالم واقتصاد يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة

ويدعم المؤتمر جهود الرئيس الصيني على الساحة العالمية، ففي العام الحالي طرح شي بينغ فكرة بناء “مجتمع المستقبل المشترك للبشرية” في جنيف بسويسرا، وبعدها بشهر واحد تم إدراج المفهوم مع مبادرة “حزام واحد، وطريق واحد” ضمن مقررات الأمم المتحدة.

وسيؤكد المؤتمر على ضرورة زيادة انخراط الصين ومساهماتها في المجتمع الدولي من خلال آليات الحوكمة الدولية مثل (منظمة شانغهاي للتعاون) وقمة بريكس وقمة أبيك، إلى جانب قمة مجموعة العشرين.

ومرجح أن يسفر المؤتمر عن تمسك القيادة الصينية بالكثير من السياسات الاقتصادية التي اتبعها الرئيس الصيني خلال السنوات الخمس الماضية، والتي تجمع بين تدخل الدولة واقتصاد السوق مع إعطاء الأولوية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي بدلا من الاندفاع في اتباع الإصلاحات الاقتصادية والمالية، وعدم تحرير سعر صرف العملة الصينية في مواجهة الدولار الأميركي، واستمرار تدخل الدولة المرتفع في سوق المال وقطاع الخدمات، ومواصلة السعي لتوفير مصادر تمويل جديدة للشركات المملوكة من جانب الدولة مع المحافظة على سيطرة الحكومة الصينية في إدارتها، وضخ المزيد من الاستثمارات العامة في مجالات الإسكان والبنية الأساسية.

الصين العالمية

عشية انعقاد المؤتمر، توجه شي جين بينغ إلى أعضاء الحزب الشيوعي مطالبا إياهم بدراسة الرأسمالية المعاصرة دون الانحراف عن الروح الماركسية للحزب والنظام في الصين الشعبية. قال شي إنه يجب على الحزب أن يطور باستمرار الاشتراكية بالسمات الصينية وأن يعزز باستمرار القوة الوطنية الصينية الشاملة وأن يظهر بشكل كامل مزايا النظام الاشتراكي للصين.

وسوف يتم خلال المؤتمر إصدار دلائل توجيهية من أجل تعميق وتطوير “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، فمنذ تأسيس الحزب، كانت الماركسية عقيدته الرئيسية، وتبوأت الشيوعية مثله المطلق والأعلى. فالماركسية بشكل خاص، هي جوهر النظريات التي حرص الشيوعيون الصينيون على تطويرها لإرشاد الطريق أمام الحزب الشيوعي الصيني والأمة بأسرها من خلفه.

وأشار التقرير الصادر عن المجلس الوطني الـ18 للحزب الشيوعي الصيني في 2012 إلى ذلك بالقول إن “إيمان الشيوعيين بالماركسية والاشتراكية والشيوعية يعتبر بمثابة روحهم السياسية التي تكفل وتضمن لهم الاستدامة والاستمرارية لتخطي جميع التجارب”.

لكن، ذلك لا ينفي أن على الصين أن تخلق لنفسها مكانة أكبر على الخارطة الدولية وتطور من قدراتها الإستراتيجية بما يمكنها من تثبيت مكانتها في العالم، دون التخلي التام عن سياسة الحياد التي تعرف بها الصين. ونجحت بكين في السنوات الأخيرة في كسر محدودية القبول الدولي بها، وفق رؤية تعبّر عن أولويات مختلفة عن تلك التي كانت تنطلق منها خلال مرحلة ما قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي.

خطط الرئيس شي جين بينغ نقلة نوعية في إستراتيجية الصين النهضوية

وينعقد المؤتمر الوطني الـ19 للحزب الشيوعي الصيني هذه المرة في ظل تحديات كبيرة للقيادة الصينية، فالرئيس شي جين بينغ مطالب بإحداث توازن في كفة الميزان ما بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي، لا سيما أن الكثير من الصينيين أصبحوا راغبين في المزيد من الانفتاح السياسي والحصول علي نصيبهم العادل من عائد الطفرة الاقتصادية الكبيرة، فضلا عن إدخال تغيرات علي النموذج الاقتصادي الناجح الذي استنفد أغراضه ويلزمه تعديلات تواكب ما طرأ من تحولات على الصعيدين الدولي والإقليمي.

وبات شي جين بينغ مطالبا بتعضيد نفوذ بلاده في المحيط الآسيوي والعالمي، حفاظا على مصالح الصين العليا، والمتعلقة بتوفير ما يلزم من موارد طبيعية حتى تواصل عجلة الاقتصاد الصيني الدوران السريع.

وهذه المطالب المتزايدة ربما تهدد مستقبل الحزب الشيوعي الصيني الذي لعب دورا محوريا في جعل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال الثلاثين عاما الماضية.

وبالتزامن مع ذلك، تمكن الحزب من تخفيف حدة الفقر بين أفراد الشعب الصيني، ففي بداية الانفتاح الاقتصادي في 1978، كان هناك أكثر من 250 مليون شخص يعيشون في فقر، انخفض هذا الرقم إلى 95 مليونا بحلول 2000، و29 مليونا بحلول عام 2010، ومتوقع القضاء على الفقر تماما بحلول عام 2021.

وهذه الإنجازات المهمة للحزب ربما تدعم فكرة ضرورة المحافظة على الاستقرار قبل أي شيء، وعدم الإقدام من جانب الرئيس الصيني، وفريق عمله القادم على إجراء إصلاحات هيكلية، رغم تطلعات الطبقة الوسطى الصينية واستنكارها الشديد لظواهر الفساد والسيطرة الأمنية الشديدة من جانب الحزب على الحياة العامة.

وربما يكون البديل الأمثل، من وجهة نظر قادة الحزب خلال المؤتمر الوطني، هو المبادرة بإدخال بعض الإجراءات التجريبية لتوسيع نطاق الديمقراطية داخل الحزب أو بمعنى أدق تشجيع المناقشات داخل الحزب، لكن الاستقرار سيظل هو الهم الأول وسيبقى نظام الحزب الواحد في مأمن.

إمبرطور الصين الجديد

من المتوقع أن ينتهي المؤتمر الوطني الـ19 للحزب الحاكم في الصين بتعزيز سلطات وصلاحيات الرئيس شي جين بينغ، الذي يعتبر بالفعل من أقوى رؤساء الصين في تاريخها الحديث. ويجمع جين بينغ أهم ثلاثة مناصب في البلاد، وهي الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، ومنصب الرئيس، وسوف ينتزع ولاية جديدة من خمس سنوات كرئيس للحزب الشيوعي الصيني.

مبادرة حزام واحد، وطريق واحد التي أعلنها الرئيس الصيني لبناء مكانة الصين الدولية من أبرز محاور مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني

وربما سيسعى الرئيس الصيني إلى تعزيز بقائه في السلطة إلى ما بعد ولايته الثانية التي سوف تستمر حتى 2022، من خلال عدم تعيين خليفة له خلال المؤتمر القادم، وسيحرص على تعزيز فرص استمراره في منصبه لفترة طويلة، من خلال تعديل دستور الحزب الشيوعي الصيني كي يشتمل على رؤيته الأيديولوجية، على غرار قادة الحزب التاريخيين، مثل الزعيم ماوتسي تونغ والرئيس الأسبق دينغ زياوبينغ.

وعادة ما يقوم الحزب الشيوعي الصيني باختيار من يتولى السلطة قبل خمس سنوات من تقلده المنصب رسميا، وتم اختيار الرئيس شي في عام 2007 لتولي السلطة في 2012. لكن كل المؤشرات الحالية تشي بعدم وجود أي قيادي بارز في الحزب ليصبح رئيس الصين القادم، وبالتالي تتزايد فرص بقاء الرئيس الحالي في منصبه خلال الخمس أو العشر سنوات المقبلة.

ومن المنتظر أن يبقى عدد من الشخصيات البارزة في مناصبهم، وفي مقدمتهم وانج تشيشان، وهو أهم مسؤول في مكافحة الفساد في البلاد، والذراع اليمنى للرئيس الصيني الحالي، ويبلغ عمر تشيشان 69 عاما، ما يعني ضرورة تقاعده وفقا لمعايير الحزب الشيوعي الصيني، غير أن شي جين بينغ من الممكن أن يتجاهل الحد العمري ويسمح له بمواصلة عمله للقضاء على عدد من المنافسين السياسيين الرئيسيين.

وهناك ترقب بخصوص ما إذا كانت إحدى السيدات ستتولى منصبا سياسيا كبيرا في الحزب لأول مرة في البلاد أم لا، وما إذا كان ستتم الإطاحة برئيس مجلس الوزراء الحالي كيك يانغ في الفترة المقبلة نتيجة أدائه غير المتوقع في الفترة الأخيرة. المؤكد أن الرئيس شي جين بينغ سيستخدم المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي لتعزيز موقعه ووضع الموالين له في المناصب القيادية العليا في الحزب، خاصة وأنه لم يلعب دورا كبيرا في السابق في اختيار الكثير من المسؤولين الحاليين في هذه المناصب.

وفي هذا المؤتمر يتم اختيار خمسة من الأعضاء السبعة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، أو ما يعرفون بـ”السبعة الكبار”، الذين يتربعون علي قمة الهرم القيادي الصيني، واختيار 11 من المكتب السياسي الأوسع للحزب، والذي يضم 25 عضوا، ونصف عدد أعضاء اللجنة المركزية للحزب، والمكونة من 205 أعضاء. ويتوقع الكثير من الخبراء في الشأن الصيني أن يعكس المؤتمر الوطني القادم للحزب الشيوعي القوة السياسية الكبيرة التي جمعها الرئيس شي خلال الفترة الماضية، بشكل سيجعله بمثابة “صاحب المقام الأول” في قمة السلطة السياسية “بدلا من أن يكون الأول بين متساوين”.

وهنا يثار سؤال: ما الذي سيقوم به الرئيس الصيني بعد تدعيم سلطاته على نحو غير مسبوق خلال المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني؟ تتفاوت الإجابة، فهناك فريق محافظ يتوقع استمرار شي جين بينغ في سياساته الداخلية المتشددة في ما يتعلق بتعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفي مواقفه الدولية الحازمة في ما يتعلق بالمطالب الصينية في بحر الصين الجنوبي. بينما يرى فريق آخر أن الرئيس الصيني، بعد تعزيز موقفه داخل الحزب، سيطبق إجراءات إصلاحية جريئة في المجالين السياسي والاقتصادي وعلى صعيد العلاقات الدولية.

د.أحمد قنديل

صحيفة العرب اللندنية