أزمة الاستفتاء: السيناريو الذي لم يتوقعه أحد

أزمة الاستفتاء: السيناريو الذي لم يتوقعه أحد

إن خيارات الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان محدودة إلى حد بعيد، وان الطرفين يعولان على الفاعل الإقليمي والدولي لترجيح كفة أي منهما على كفة الآخر، او فرض حل عليهما معا. بعد أربعة أيام فقط حدث ما لم يتوقعه أحد، صفقة مع جناح عائلة الطالباني في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (المكون من زوجة، وابن، وأبن أخ الرئيس الراحل جلال الطالباني: هيرو ابراهيم احمد وبافل الطالباني ولاهور شيخ جنكي الطالباني) مع بغداد برعاية من قاسم سليماني تنسحب بموجبها قوات البيشمركة التابعة للاتحاد من المناطق المتنازع عليها الخاضعة لسيطرتها في محافظة كركوك، ومنطقة طوزخرماتو في صلاح الدين، ومناطق خانقين وجلولاء في محافظة ديالى، مقابل تقدم سريع ومتفق عليه من القوات الاتحادية والميليشيات المتجحفلة معها للسيطرة على هذه المناطق. 

هذا التحركات فرضت على قوات البيشمركة التابعة للحزب الوطني الديمقراطي (البارتي) إلى الانسحاب، اضطرارا، من مناطق تواجدها المحدود على أطراف مدينة كركوك، ثم انسحابها لاحقا من مناطق متنازع عليها عديدة شمال محافظة كركوك في قضاء الدبس (حيث حقلي نفط باي حسن وآفانا)، ومناطق متنازع عليها شرق وشمال وغرب محافظة نينوى. ويبدو مشهد هذا الانسحاب اشبه باستعادة لحظة 1966 عندما تحالف جناح ابراهيم احمد وجلال الطالباني مع الحكومة العراقية يومها لقتال قوات الملا مصطفى البارزاني! ولحظة 1996 عندما دخلت قوات الحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بدعم ايراني إلى أربيل مما اضطر البارزاني حينها إلى الاستعانة بالقوات العراقية لاستعادتها! فقد وجدت أربيل نفسها وحيدة بمواجهة بغداد، بل والسليمانية أيضا بعد هذه الصفقة، وهو ما اضطرها إلى الانسحاب عن الحدود التي وصفها البارزاني نفسه بانها حدود رسمت بالدم ولن ينسحب عنها مطلقا، إلى حدود يستطيع الدفاع عنها بدلا عن الانتشار الواسع الذي يضعف قدراته الدفاعية إلى حد بعيد.
بعيدا عن التحركات العسكرية، فقد كشفت صفقة كركوك عن طبيعة الشرخ الواسع بين السليمانية وأربيل، وهو الانقسام الذي وصفناه في مقالة سابقة بانه يجعل حلم الدولة الكردية حلما مؤجلا، وانه ليس ثمة إمكانية موضوعية للحديث عن «دولة» كردية موحدة مع هكذا انقسام! ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد انقسام سياسي، وإنما باختلافات أكثر عمقا تتعلق بعوامل سوسيو ـ ثقافية مرتبطة بالانقسام المجتمعي بين السورانين والبهدينانين. وهو انقسام لغوي/لهجي بالأساس، اذ تنقسم اللغة الكردية إلى الكرمانجية الشمالية (البهدينانية) والسورانية (الجنوبية).
وقد نتج عن هذا الانقسام اللغوي اختلافات اجتماعية واقتصادية وثقافية واسعة بين شمال كردستان العراق الناطقة بالكرمانجية (بهدينان)، وجنوبها الناطق بالسورانية، وكانت التوترات بين جماعة ابراهيم احمد وجلال الطالباني (السورانيين) من جهة، والبارزانيين (البهدينان) من جهة ثانية داخل الحركة الكردية العراقية منذ بدايتها، تستند إلى حد كبير إلى هذه الاختلافات، ويشير فريد هاليداي، وهو أحد المختصين بالدراسات الكردية، أن النزاع الضاري بين الحزبين الرئيسيين قد تسبب في تكريس انقسام الإقليم الى منطقتين مختلفتين ايكولوجيا واجتماعيا وثقافيا، كل منطقة منهما تشعر بتمايز متزايد عن الآخر.
صحيح أن صفقة كركوك لم يشارك فيها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ككل، بل اقتصر على جناح عائلة الطالباني فيه، إذ ثمة معارضة صريحة أبداها كوسرت رسول نائب الأمين العام للحزب للصفقة بين بغداد والسليمانية، وربما معارضة ضمنية أبداها آخرون (كما في حالة ملا بختيار مسؤول الهيئة العاملة للمكتب السياسي للحزب)، إلا ان رمزية عائلة الطالباني في هذا السياق جوهرية، كما أن المكاسب التي يفترض أن السليمانية ستحققها نتيجة هذه الصفقة، يمكنها في النهاية أن تفرض شروطها! صحيح أن طبيعة هذه المكاسب غير واضحة حتى اللحظة، إلا انها بالضرورة سوف تشكل مادة صالحة للتسويق سياسيا وجماهيريا (من بينها ضمان رواتب العاملين في السليمانية على أقل تقدير!). فالصفقة قد تضمن للسليمانية هيمنتها النهائية على كركوك عبر صيغة الإدارة المشتركة فحزب الاتحاد الوطني يهيمن منذ 2003 على مجلس محافظة كركوك وبالتالي هو يحتكر منصب المحافظ، ويسيطر ايضا على قوى الأمن المحلية التي تشكل امتدادا لبيشمركة الحزب، لكن هذه الهيمنة وجدت من ينافسها في اربيل من خلال سيطرة الخيرة على الحقول النفطية في المحافظة، مع تحويل ولاء محافظ كركوك نفسه نجم الدين كريم (وهو أحد قياديي الاتحاد الوطني) نحو اربيل.
ويبقى السؤال الجوهري الذي يجب طرحه هنا، هو عن مستقبل إقليم كردستان نفسه في ظل التطورات الاخيرة! فقد أثبتت الوقائع أن ليس ثمة سلطة حقيقية لأربيل في السليمانية، وأن ثمة سلطتين مقننتين في كل منهما، وأن السردية التي تم تسويقها حول «وحدة الإقليم وسلطاته» لا وجود لها على الأرض! فبعد حرب 1996 تدخلت الولايات المتحدة في النهاية لتحقيق اتفاق سلام بين الطرفين تم توقيعه في واشنطن في أيلول/ سبتمبر 1998، وقد ظل صامدا حتى العام 2003. بعد العام 2003، وعلى الرغم من وحدة الموقف الكردي في بغداد، إلا ان ثنائية السلطة ظلت قائمة عمليا. ويبدو واضحا بعد صفقة كركوك أن ثمة نزعة في السليمانية يقودها جناح عائلة الطالباني لفض الرابطة الشكلية مع اربيل، ربما بالذهاب إلى إقليم خاص للسليمانية، مع ضمن الهيمنة على كركوك وخانقين وجلولاء عبر صيغة الإدارة المشتركة مع بغداد مؤقتا، مع العمل على ضم هذه المناطق الى هذا الإقليم في مرحلة لاحقة في إطار تنفيذ المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، أو على أقل تقدير العمل على إقامة إقليم محافظة كركوك مع ضمان هيمنتها عليها في إطار صفقة مع بغداد!
بعيدا عن الانقسام الكردي الكردي ومآلاته، يبدو من خلال الأزمة الاخيرة أن الولايات المتحدة ما زالت عاجزة عن ايجاد استراتيجية واضحة في العراق! فالمسؤولون الأمريكيون أنفسهم يصرحون دائما في لقاءاتهم بذلك، ويصفون تعاملهم مع الازمات في العراق بالسياسة الامريكية تجاه العراق، وتبدو هذه السياسة لغزا حقيقيا! تحديدا فيما يتعلق بتكريس التغول الايراني في العراق! والمفارقة هنا ان الدور المركزي لقاسم سليماني في صفقة كركوك جاءت مباشرة بعد إعلان الرئيس ترامب لاستراتيجيته الجديدة تجاه إيران، فالمليشيات العاملة تحت مسمى الحشد الشعبي، باتت تسيطر على محافظات كركوك ونينوى بالكامل بعد الصفقة الأخيرة! كما انها أصبحت اللاعب الأهم في السليمانية، الحليف المفترض للولايات المتحدة الامريكية! وأقصى ما يمكن توقعه من الولايات المتحدة هي العمل على التقليل من جموح بغداد نحو إعادة صياغة العلاقة مع أربيل إلى ما دون مستوى الفيدرالية!
بالنسبة لتركيا فان طبيعة الفجوة بين الخطابات التركية وسياساتها على الأرض، تشير الى انها في النهاية قبلت بسيناريو متطابق مع سيناريو تلعفر، هيمنة الميليشيات الولائية (التي تؤمن بمقولة الولاية العامة المطلقة للفقيه وتقلد الخامنئي) على كليهما، ويبدو ان الامن القومي التركي أكثر اهمية من أية رابطة أخرى!
أخيرا ما زالت الحدود التي يمكن ان تقف عندها انسحابات أربيل، أو الحدود التي تريد بغداد الوصول اليها غير واضحة! فالقرارات الرسمية (مجلس النواب العراقي والعبادي) التي كانت تتحدث عن حدود 10 حزيران 2014 لم تعد حاكمة! فيما يتحدث الرئيس مسعود البارزاني في خطابه يوم أمس عن وجود اتفاق مع الحكومة العراقية، قبل انطلاق عملية استعادة الموصل، بأن تكون حدود التماس بينهما هي الحدود التي كانت قائمة في تشرين الأول 2016 التي لم تعد ملزمة لبغداد كما يبدو! كما لا يمكن الحديث عن حدود نيسان 2003 التي أقرها الدستور العراقي لان القوات الاتحادية اوقفت تقدمها في بعض المناطق قبل الوصول إلى هذه الحدود! هنا فقط نستطيع تلمس دور أمريكي غير معلن للاتفاق على خط هذه الحدود الجديدة بصمت!

يحيى الكبيسي

صحيفة القدس العربي