تأويل سقوط حكم “داعش”

تأويل سقوط حكم “داعش”

وفق القائد الميداني لقوات سورية الديمقراطية ذات القيادة الكردية، فإن آخر فلول “داعش” ستفقد السيطرة على الرقة، آخر معاقل التنظيم وعاصمته المعلنة ذاتياً، في وقت ما من الأسبوع الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي. وسوية مع سقوط الموصل، معقل “داعش” في العراق، يمثل هذا التطور انهياراً ثانياً لحكم الجهاديين.
وفي انعكاس لهذا الفشل، ولأول مرة منذ شروع “داعش” في مأسسة قدراته في الحكم في أواخر العام 2013 وأوائل العام 2014، لم ينشر الجهاز الإعلامي للمجموعة، ولمدة شهر تقريباً، أي مادة لها صلة بالحكم وبالخدمات الاجتماعية أو الدعوة. وهكذا، يبدو أن أعقد نظام تم تأسيسه للحكم الجهادي على الإطلاق أصبح  في طور الأفول والنهاية. وبشكل عام، قد لا يعني سكوت الإعلام التوقف الكلي لحكم “داعش” -في الحقيقة، من المرجح أن المجموعة ما تزال منخرطة في أعمال الحكم الأساسية في بعض المناطق على طول الحدود بين العراق وسورية- لكنه يُظهر المزيد من التآكل في جهازها الإعلامي.
الدولة الإسلامية الأولى والثانية
سبقت المحاولة الأخيرة للحكم الجهادي محاولة مبكرة أكثر محدودية دامت من العام 2006 إلى العام 2009، بذلها “الدولة الإسلامية في العراق”، كما كانت المجموعة تسمى في ذلك الحين. وكان ذلك الحكم بالاسم قد مورس في العراق فقط، وكان مجرد تأكيد على القانون والنظام من دون أن يتضمن ذلك تقديم الخدمات الشاملة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه عوّل بشكل رئيسي على نشاطات تشبه الحسبة (شرطة الأخلاق). وتم سحق تلك المحاولة مؤقتاً بزيادة عديد القوات الأميركية وحركة الصحوة لرجال القبائل السنية.
ثم ظهرت محاولة “داعش” الثانية في الحكم، والتي كانت أوسع وصولاً وأكثر تطوراً بكثير، في سورية من نيسان (أبريل) إلى كانون الثاني (يناير) من العام 2014. وقبل اصطدام “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، كما كانت المجموعة تعرف آنذاك، بالثوار السوريين وبتنظيم القاعدة، وقبل الإعلان عن تأسيس “الخلافة” في حزيران (يونيو) من العام 2014، سعت المجموعة بشكل رئيسي إلى عرض صورة ذاتية إيجابية للشعب السوري من خلال منتديات الدعوة وتقديم الخدمات الأساسية. كما مارست أيضاً عمل شرطة أخلاق أكثر تساهلاً، مثل حرق علب السجائر أو مصادرة عبوات الكحول. وقدم “داعش” نفسه ككيان شبيه بالدولة، عارضاً دوائره الإدارية المختلفة، بما فيها مكاتب الدعوة والمحاكم الشرعية والمدارس الدينية ومراكز الشرطة والبلديات المحلية، من بين مظاهر أخرى. وظلت هذه العملية غير منتظمة حتى الإعلان عن إقامة “الخلافة” في حزيران (يونيو) 2014، مع التوسيع اللاحق لحوكمة “داعش” لتتخذ منهجية واضحة”.
العلاقة المتبادلة بين إعلام “داعش” وحوكمته
لأن ما تصل نسبته إلى 65 % من الإصدارات الإعلامية لتنظيم “داعش” يتكون أساساً من الصور التي وزعتها المجموعة أكثر بكثير غالباً من أشرطة الفيديو الرسمية، فإن الصور أسست إجراء النشاط الإعلامي ككل. وفي الحقيقة، واستناداً إلى هذا الإجراء، بلغت النشرات الإعلامية للتنظيم عن الحوكمة ذروتها في صيف العام 2015، لتتراجع تدريجياً منذ ذلك الحين. ومما لا شك فيه أن لهذا التراجع صلة بالحملة العسكرية الأميركية الأوسع التي ضيقت الفضاء أمام فرص ممارسة التنظيم للحكم.
بشكل خاص، بعد سقوط الموصل في تموز(يوليو) 2017، هبط توزيع “داعش” للمواد الإعلامية التي تتصل بالحكم بحدة (بواقع 66 %) حتى جاءت النهاية التامة لهذا النشاط الإعلامي (يوم 12 أيلول/ سبتمبر، في سورية، و16 منه في العراق). وفي قمة أوجه، في الفترة بين حزيران (يونيو) وآب (أغسطس) 2015، نشر “داعش” نحو 3762 صورة لها صلة بأنشطة الحوكمة في سورية، و3305 في العراق. وعندما سقطت الموصل، وبين أيار (مايو) وتموز (يوليو) 2017، نشر “داعش” 315 صورة فقط تمت بصلة للحوكمة في سورية، و171 في العراق. وكان أحدث إحصار قبل تحطم التنظيم في منتصف أيلول (سبتمبر) 2017، هو نشر نحو 142 صورة في سورية و113 في العراق بين تموز (يوليو) وأيلول (سبتمبر) 2017. وتظهر هذه الأرقام حجم الضرر الذي ألحقته الحملة العسكرية المعادية للتنظيم بقدرة الحوكمة عند المجموعة وبحملتها الإعلامية.
المستقبل
لا يجب أن يؤول قطع رأس النشاط الإعلامي لتنظيم “داعش” بحيث يعكس عدم اهتمامه بالاستمرار في الحكم وتسيير أموره كدولة. وفي المرحلة الراهنة، لا تستطيع المجموعة إدامة هذا النشاط. أما إذا لاحت الفرصة مرة أخرى، فسوف يسعى “داعش” على الأرجح إلى ممارسة الحكم كما حاول فعلاً على أسس محدودة في شبه جزيرة سيناء أو أفغانستان. أما حالة ليبيا، فتظهر تحديات أساسية لهذا الجهد. وبعد أن عاود الظهور عسكرياً هناك في أعقاب طرده من سرت في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2016، يتطلع “داعش” إلى تأسيس قاعدة يستطيع انطلاقا منها أن يحكم في البلد. وبالمقابل، ربما تستغرق بنى حكومة “داعش” في العراق وسورية أعواماً وليس أشهراً لمعاودة الظهور على السطح بالقدرة السابقة، وسيعتمد ذلك على تطهير وإدارة الأراضي ما بعد “داعش” من جانب الحكومتين العراقية والسورية، أو من جانب لاعبين آخرين من غير الدول مثل قوات سورية الديمقراطية، أو ميليشيات الحشد الشعبي العراقية ذات القيادة الشيعية. ومما يكشف أكثر عن هذه الصعوبات، هو وجوب أن يعيد “داعش” تأسيس حوكمته في الموصل بعد فقدانه السيطرة عليها في تموز (يوليو) الماضي.
فيما وراء زاوية الحوكمة -وبالرغم من احتفاظ “داعش” بالسلطة في بلدات معينة تمتد على الحدود العراقية السورية- تستمر المجموعة في تنفيذ العمليات العسكرية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن العراق يمثل أكثر الصراعات عنفاً في العالم في الفترة ما بين الهزيمة التكتيكية لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” بعد نشوء حركة الصحوة وزيادة عديد القوات الأميركية في العراق في العام 2009، وبين إعادة ظهوره في شكل “الدولة الإسلامية في العراق والشام” حول العامين 2012-2013.
يعكس هذا الواقع المخاطر القاتلة التي يمثلها “داعش” حتى لو كان لا يسيطر على الأراضي. وزيادة على ذلك، يعد التنظيم اليوم أقوى مما كان عليه عند تجسيد المجموعة في الفترة بين العامين 2009-2012؛ حيث العنف في العراق حالياً أكثر إماتة بثلاثة أضعاف مقارنة بما كان عليه خلال فترة السنوات الأربع التي أعقبت زيادة عديد القوات الأميركية. وقد يكون الجهاز البيروقراطي للتنظيم ساكناً، لكن قدراته التمردية ما تزال هائلة.
تبعاً لذلك، سوف تعتمد السيناريوهات المستقبلية بشكل كبير على الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل من العراق وسورية، وما إذا كان سينجم فراغ جديد نتيجة للإدارة البائسة للمناطق السنية الرئيسية في مرحلة ما بعد “داعش”. وفي الحقيقة، تكوَّن مثل هذا الفراغ في الأعوام التي أعقبت زيادة عديد القوات الأميركية في العراق. ولذلك يجب على واشنطن أن تتعلم من أخطائها التي ارتكبتها في العقد الماضي. وقد اشتملت هذه الأخطاء على الانسحاب في وقت مبكر جداً، والسماح للحكومات المحلية بتهميش أو إرهاب السكان السنة، مع ظهور علامات على أن هذه الظواهر قد شرعت مسبقاً في العودة في العراق. ومن المؤكد أن هذه الديناميات سمحت للتجسيد المبكر للتنظيم بإعادة بناء قدراته. وفي العراق وسورية اليوم، ما تزال هناك العديد من حالات المعاناة التي كانت قد غذت في السابق صعود “داعش” في المقام الأول.

آرون زيلين

صحيفة الغد