دوافع تجميد استفتاء كردستان

دوافع تجميد استفتاء كردستان

شهر واحد فقط فصل بين عرض حكومة كردستان العراق على بغداد تجميد نتائج استفتاء 25 سبتمبر/أيلول الماضي، وبين احتفالات أكراد العراق وفرحتهم بنتيجته التي حسمت -وبأغلبية ساحقة- عدم رغبتهم في البقاء ضمن الدولة العراقية. من المؤكد أن العرض -المزروع في بيان تضمن ثلاث دعوات تطلب إحداها وقف إطلاق النار- غير معزول عن نتائج المعركة التي بدأتها بغداد من كركوك يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وهو شديد الارتباط كذلك بالوضع الداخلي الكردي المحبط والمنقسم على نفسه، جراء الهزائم التي أصابت الإقليم نتيجة إصرار حكومة أربيل على إجراء الاستفتاء غير الدستوري، وشموله المناطق المتنازع عليها، وبينها كركوك. عراقيًّا، ردت الحكومة العراقية على هذه المبادرة بالقول:  أن تجميد الاستفتاء لن يكون كافيا ولا مقبولا لاستئناف الحوار، وتركيًّا اعتبرت الحكومة التركية أن تجميد الاستفتاء لا يعني شيئا ويجب إلغاؤه.

ويمكن القول إن عدم التكهن بالتداعيات التي يُخلفها الاستفتاء، وما سينتج عنه من أحداث في البلاد، يعد سببا أساسيا وراء إعلان قيادات الإقليم تجميد نتائج الاستفتاء، واللجوء إلى الحوار والنقاش لعدم تصعيد الأحداث، حيث وجدت القيادات الكردية نفسها أمام أخطار بالغة لم تعرها اهتماما، بل وضربت بعرض الحائط جميع المطالب العراقية والإقليمية والدولية بوقف الاستفتاء. يدل ذلك على غياب الرؤية الاستراتيجية لقيادات كردستان العراق للوضع القائم، ونقص الخبرة في التعامل مع تلك الأمور، وعدم القدرة على تقدير الموقف، وعمل الحسابات اللازمة لمواجهة الأزمات المحورية، بالإضافة إلى التمسك بالرأي الأوحد لهم دون التشاور والنقاش مع الحكومة الاتحادية التي هي بالأساس الدولة الأم.إذ إن القيادات الكردية العراق رسمت حلمها بتكوين دولة كردستان في أطراف المنطقة العربية التي تحدها شمالا تركيا، وإيران شرقا، وسوريا غربا، والعراق جنوبا، دون النظر إلى الصراعات التي ربما تحدث بين تلك الدول على مناطق النزاع الحدودية، ومصادر المياه، والنفط، والبنية التحتية، خاصة مع الجنوب العراقي، الذي يتمثل في منطقة كركوك النفطية التي وقعت بها الاشتباكات العسكرية بين الجانبين.

من جانب آخر، فإن زيارات رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لبعض دول المنطقة، كالسعودية، ومصر، والأردن، وتركيا، وإيران أسهمت – على ما يبدو- في الضغط على كردستان لتجميد الانفصال، إذ حققت هذه الزيارات عدة أهداف، منها: جذب الدعم السياسي للدول العربية الكبرى لمصلحة وحدة العراق، وتأكيد وقوف الدول العربية بجانب الحكومة الاتحادية العراقية الرافضة لنتائج الاستفتاء. وتوحيد الصف العربي تجاه قضية الانفصال والانقسام، ومحاولات التدخل في شئون الدول العربية. وكسب معركة دبلوماسية جديدة، كأداة ضغط على قيادات إقليم كردستان للتنازل على فكره الاستفتاء، وإلغاء نتائجه.  ومحاولة تكوين جبهة مع تركيا وإيران اللتين تعدان من القوى الإقليمية ذات الشأن في القضية الكردية لصد محاولات الانفصال، والاتفاق على موقف ثابت ورافض تجاه الاستفتاء.  وتأكيد سعى الحكومة الاتحادية العراقية لحفظ وحدة واستقلال أراضي العراق، وممارسة سيادته الوطنية على كامل أراضيه. تطوير العلاقات الثنائية بين العراق وكل من تركيا وإيران في المجالات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والتجارية. وطرح رؤية العراق لمستقبل المنطقة وتوجهه الجديد في مرحلة ما بعد الانتصار على تنظيم “داعش”. وهناك من يرى بأن دعوة تجميد الاستفتاء جاء كمحاولة من قيادة الإقليم كردستان لامتصاص غضب الدول الغربية الحليفة لها والتي تجاهلت نصحيتها في تأجيل موعد الاستفتاء ، فواشنطن نصحتها بإرجاء موعد الاستفتاء إلى ما بعد الانتخابات العراقية المقررة العام المقبل. لإنها تريد التركيز الآن على الحرب على «داعش. وما أدل على على ذلك الغضب أن ريكس تيلرسون وزير الدفاع الأمريكي لم يزر أربيل بعد زيارته لبغداد وكذلك الأمر ينحسب أيضا على بريت ماكغورك المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش.

فمن وجهة نظر دبلوماسيون سابقين أمريكيون خدموا في العراق أن رفض الولايات المتحدة الأمريكية جاء منسجمًا مع موقفها إزائه، وفي هذا السياق يقول ستيوارت جونز، السفير السابق لدى العراق والذي يعمل حالياً مع مجموعة كوهين: “لا يوجد غموض في الموقف الأميركي حول هذا الموضوع. فقد كانت الولايات المتحدة تقول للأكراد، وتقول (للرئيس الكردي) مسعود (برزاني) وتقول لنجله منصور (برزاني ولي عهده) منذ الربيع الماضي أن لا يمضوا قدماً في موضوع الاستفتاء، لأنه لن يكون جيداً لكردستان، ولن يكون جيداً للعراق، وسيصب في مصلحة المتشددين وفي صالح الإيرانيين. وأعتقد أن هذا هو ما نشاهده”. ويرى أن  الأسباب التي كانت وراء عدم دعم الولايات المتحدة لقيام دولة كردية مستقلة في الوقت الحالي. هي:”أ: إقليم كردستان العراقي ليس قابلاً للحياة اقتصادياً؛ ب: ليست الظروف السياسية مواتية ببساطة. وقد رأينا ذلك. فهناك رد فعل حاد جداً من جانب إيران. وثمة رد فعل حاد من تركيا. ورد فعل حاد من بغداد. وهكذا، لم يكن الجيران مستعدين لهذا. ولم يكونوا مستعدين للموافقة عليه. كانت هناك الكثير من المواضيع التي لم تُحل”.

إن السؤال المطروح هنا: هل كانت قيادات كردستان تعلم أن الاستفتاء على الانفصال محفوف بالمخاطر، وأنهم قادرون على مواجهتها، وحل الأزمات الناتجة جراء ذلك الاستفتاء؟ بالطبع لا، لكن تداخلت الطموحات الشخصية بالأحلام القومية، فاعتقد القادة الأكراد أن الفوضى السائدة في المنطقة هي اللحظة المناسبة لتحقيق الحلم التاريخي. ركبت النخبة الكردية الموجة، وهي التي كانت مؤهلةً لتفكيرٍ استراتيجيٍ مختلف، فدخلت في «زفّة» عملية الاستقلال بكل الطروحات والوسائل الممكنة، وساد التنافس على تأكيد صوابية القرار ودقة الحسابات وحتمية النتيجة. فلم يكن من شرائح المجتمع الكردي إلا أن ألقت بنفسها في الموج الصاخب الجاري من دون سؤالٍ أو تفكير. وبدا المسارُ كله داخل المجتمعات الكردية، في المنطقة والمَهاجر، أقربَ لمهرجان احتفالي بِعيدٍ من الأعياد على الطريقة الكردية المتميزة. هنا تتداخل، بمكرٍ وخبث، الثقافة بالسياسة في شكلٍ غالباً ما يؤدي إلى حافة الهاوية. فالثقافة الكردية معروفةٌ برسوخ العنصر الكرنفالي والمظاهر الفنية والطقوس الاحتفالية في حياتها الاجتماعية. والمعروف أيضاً، أن كل القوى السياسية الكردية، من دون استثناء، استعملت ذلك العنصر، بكثافة وإبداع، ومبالغة أحياناً، في عمليات الحشد والتعبئة، حتى باتت جزءاً من الثقافة السياسية للأكراد. صبَّ هذا كله في الإيحاء بإمكانية تحقيق الحلم الكبير في هذه اللحظة من التاريخ. لكن منطق التاريخ يفرض ألا ينتج عن الأحلام الكبرى سوى أمرين: تحقيقُها، أو كوارث كبرى بحجمها وأكبر. مفرق الطريق في الموضوع يكمن في الحسابات الاستراتيجية، وقراءة التاريخ، وفهم التحولات في شكلٍ دقيق. لكن مشكلة الأحلام الكبرى أنها تُدخل العاطفة والحنين والشوق في خضم معادلة الحسابات، فتُصيبها في مقتل منذ اللحظة الأولى. ذاك هو «التفكير الرغائبي» متجسداً في مثالٍ عمليٍ كبيرٍ ومعاصر يقدمه التاريخ ملء الأبصار في هذه المنطقة من العالم. أسئلة كثيرة ربما لم ترد في تفكير قيادات الإقليم الكردستاني، ولاسيما فيما يتعلق بمدى قدرتهم على بناء دولة تنفصل عن العراق. الأكيد في هذا الأمر أنهم كانوا مغيبين تماما عن المشهد السياسي في المنطقة، وربما خضعوا لتزيين ذلك الحلم من جانب إسرائيل التي أعلنت مساندتها لهم، لكنهم في نشوة الانتصار ولذته صدموا بحقائق الواقع.

  أن الدرس المستفاد من إجراء الاستفتاء وتجميد نتائجه، أن مصالح الدول -في الوقت الراهن- كالولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وتركيا وإيران وسورية مع عراق موحد  بينما سار الاستفتاء ضد ذلك. ولن تقتصر أي مفاوضات تتعلق بمستقبل كردستان العراق على العراق والأكراد وحسب، وإنما ستضم أيضاً جيرانه.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية