برهم صالح ومستقبل كردستان العراق

برهم صالح ومستقبل كردستان العراق

انتكس مسعود البرزاني ومشروعه، ورحل جلال طالباني، ورحل أيضاً «رجل التغيير» نيشروان مصطفى. وعليه، تبدو «الساحة الكردية» في العراق خالية اليوم بعد مشاريع الاستفتاء والانفصال، في وقت يُقال فيه إنّ «صراع العروش» بين آل البرزاني وآل طالباني يشتدّ، وتقوده «صقور العائلتين» بصورة لا بدّ أن تؤثر سلباً على موقعيهما. هذا «المشهد الكردي» تقابله تحركات عراقية ــ إقليمية تهدف إلى إعادة ضبط عقارب الساعة على مختلف الأصعدة… ويبدو حتى الآن أنّ جميعها تتقاطع عند شخص برهم صالح.

 برهم صالح من مواليد مدينة السليمانية 1960 يحمل شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة كارديف، وشهادة الدكتوراه في الإحصاء والتطبيقات الهندسية في الكومبيوتر من جامعة ليفربول. عمل مستشاراً هندسياً في المملكة المتحدة، ومتزوج ولديه ولد وبنت. انضم صالح إلى صفوف الاتحاد الوطني الكردستاني في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وتدرج حتى أصبح عضواً في تنظيمات أوروبا للحزب ثم مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في الاتحاد في لندن. كُلف عام 1992 بإدارة مكتب الاتحاد الوطني في الولايات المتحدة، وأصبح ممثلاً لإقليم كردستان في واشنطن، ويعد من أبرز المدافعين عن القضية الكردية. إذ لم يستظل بالرئيس التاريخي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني، بل استفاد من خطى وتجاربه، وبقي على مسافة تحفظ قامته بوضوح، ولم يتحلل في سيادة المشاعر القومية الكردية، على الرغم من أنه كردي وابن عائلة كردية عريقة، بل بقي يُذكر العراقيين ومن خلال لغته العربية السليمة جدا والمشوبة بلهجة جنوبية، بأنه عراقي مثله مثل عراقيي البصرة أو النجف أو الأنبار أو ديالى، وأنه ابن بغداد التي بادلها مشاعر الحب، مثلما هو ابن السليمانية، والأهم من هذا وذاك هو أن المناصب التي تقلدها في الحكومة العراقية، على أهميتها، لم تبن حاجزا بينه وبين الناس، سواء في إقليم كردستان، أو في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.

ترأس صالح حكومة إقليم كردستان بين عامي 2001 – 2004، إذ يرى العديد من المواطنين الأكراد أن كردستان نعمت بالازدهار خلال الفترة التي أمضاها رئيسًا لها. وعمل وزيراً للتخطيط في الحكومة العراقية الانتقالية عام 2005، ثم نائباً لرئيس مجلس الوزراء آنذاك بعد انتخاب أول حكومة عراقية عقب احتلال البلاد عام 2003.وكان صالح شغل منصب نائب رئيس الحكومة العراقية المؤقتة ثم تولى منصب نائب رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، بعد تولي الأخير منصب رئاسة الوزراء عام 2006. ثم ترأس اللجنة الاقتصادية في الحكومة العراقية عام 2006، وأطلق مبادرة العهد الدولي مع العراق لضمان الالتزامات الدولية المتبادلة مع دول العالم ومساعدة البلاد في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية. أسس صالح الجامعة الأميركية في السليمانية، وشغل منصب رئيس مجلس أمناء الجامعة وله نشاطات ثقافية إلى جانب نشاطه السياسي. ثم ترأس حكومة إقليم كردستان مرة ثانية عام 2009 بعد فوزه في الانتخابات التشريعية في الإقليم، إثر ترشيحه من قبل القيادات الكردية لترأس القائمة الكردستانية آنذاك، واستمر في رئاسة الحكومة حتى عام 2011.انتخب نائباً ثانياً للأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني خلال اجتماع موسع للحزب أجري عام 2010.

وأطلق صالح عدة برامج اقتصادية واستثمارية في مجالات التعليم والصحة والإعمار والخدمات العامة في إقليم كردستان، كان أبرزها برنامج الزمالات الدراسية لطلبة الإقليم في الجامعات العالمية المعروفة. رشح عام 2014 من قبل الاتحاد الوطني مع الرئيس الحالي فؤاد معصوم لتولي منصب رئاسة الجمهورية العراقية، ويقول سياسيون إن برهم صالح يمتلك علاقات سياسية محلية ودولية واسعة وقدرة على الانفتاح على مختلف التيارات الفكرية والدينية، وله مقبولية في الأوساط الإعلامية داخل وخارج البلاد.  كما أن برهم صالح تربطه علاقات جيدة مع طهران وأنقرة وواشنطن والمملكة المتحدة والدول العربية، والأهم مع سائر الفصائل السياسية في بغداد. حتى أن أصدقاءه يقولون إنه لا يوجد شخص بعد الطالباني بين الأكراد يملك شبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية العراقية والعالمية بقدر ما يملكه برهم صالح.

وبينما مازالت حمى الاستفتاء في أعلى درجاتها، أعلن برهم صالح في 2 تشرين الأول/أكتوبر الماضي وعبر رسالة مصورة، قائمة جديدة لخوض الانتخابات التشريعية الجديدة تحت مسمى “التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة” في خطوة قد تحرك المياه السياسية الراكدة في كردستان. ويمثل هذا التحالف وخروج السياسي المخضرم، برهم صالح، من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ، الضربة الأقوى التي يتلقاها معسكر السليمانية في إقليم كردستان العراق، خاصةً حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الرئيس العراقي السابق، جلال الطالباني، المعروف بمناوأته لحزب رئيس الإقليم مسعود البارزاني في أربيل. ولإنقاذ إقليم كردستان  من تداعيات الاستفتاء على الاستقلال الذي أسيء تقدير تبعاته والذي أصرّ القادة الأكراد على إجرائه في أيلول/سبتمبر الماضي، دعا برهم صالح في 17 تشرين الأول/الماضي إلى تشكيل «حكومة انتقالية» في إقليم كردستان تكون «قادرة على تجاوز الإشكاليات الناجمة من الاستفتاء وتكون ذات شرعية وتحظى بثقة المواطن الكردي وتتولى مسؤولية إدارة الحوار مع بغداد» إزاء القضايا المتنازع عليها. وقال: «الرؤية السياسية التي تأسست عليها العملية السياسية في العراق عام 2003 لم تعد قادرة على الدفع بالبلد إلى الأمام»

وعن رؤيته لحل الأزمة الحالية وإصلاح العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة العراقية المركزية، يرى أنه يتطلب مستويات مختلفة له: أولا، يجب أن يكون الحل في الداخل الكردي، وأن يتم ضمان وحدة الصف الكردي، وعدم القبول بتحويل الأخطاء التي رافقت القرارات الأخيرة في كردستان إلى كارثة صراع داخلي واقتتال واحتراب بين الفصائل الكردية المسلحة. ثانياً، خوض الكرد حواراً مفتوحاً مع بغداد. أيُّ حل مبنيّ على الانشقاق الكردي يبقى قلقاً وغير مجدٍ. والوحدة الداخلية الكردية المبنية على مراجعة عملية اتخاذ القرار وإبعاد المحسوبية والفساد عنها وإعادة ثقة المواطن الكردي بالحكم، هي المدخل الأول لأي حل، ذلك يتطلب تشكيل حكومة انتقالية قادرة على تجاوز الإشكاليات الناجمة عن الاستفتاء، وتكون ذات شرعية، وتحظى بثقة المواطن الكردي، وتتولى مسؤولية إدارة الحوار مع بغداد. هذا يتطلب اتفاق القوى الأساسية، والترفع عن الحساسيات الحزبية، وتغليب منطق المصلحة الوطنية على مصلحة الأحزاب والعوائل، ويتطلب عدم الانجرار إلى المهاترات الجانبية والسجالات العقيمة… المطلوب تدارك الأخطاء وعدم المكابرة حول تبعات الاستفتاء. الشجاعة ليست في المغامرة بأرواح الناس وأرزاقهم، بل تستوجب مراجعة الذات والإقدام نحو الحل المنشود في بغداد، مستندين إلى الدستور.

 ونظرًا للانتكاسة  والأزمة الإقليمية  التي تسبب فيها استفتاء كردستان ففي 1 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، تنحّى مسعود بارزاني عن منصبه وأشار إلى أنه لن يترشح للرئاسة مجدداً عندما تنظم «حكومة إقليم كردستان» انتخابات جديدة، الأمر الذي قد لا يحصل قبل حزيران/يونيو 2018. وقد أقدم على هذه الخطوة جزئياً، لإزالة عائق أمام استئناف المفاوضات مع بغداد وتركيا وإيران وواشنطن، التي رفض بعضها إجراء محادثات طالما بقي رئيساً للإقليم. إنّ «تراجع حظوظ البرزاني ــ حليف أميركا الأوّل، وتجاهله لنصائح واشنطن، يفرضان بروز زعامات كردية جديدة. في أثناء هذا الوقت المستقطع الممتد بين يومنا ويوم تنظيم انتخابات الإقليم الرئاسية والبرلمانية، فإنّ طيفاً وازناً في إقليم شمال العراق أطلق مسار البحث عن «رئيس بديلٍ» للبرزاني، يكون كفيلاً بإعادة الثقة المفقودة بين حكومة بغداد وحكومة الإقليم، وقد يسهم أيضاً في إعادة ترتيب أوراق البيت الكردي الداخلي. وفي حال لم تستجد معطيات من شأنها تحقيق رغبة «صقور آل البرزاني» لناحية إعادة سيناريوات المواجهات الحادة بين أربيل وبغداد، فإنّ «البحث عن بديل» يتناغم ومتطلبات «المشهد الكردي» الراهن، ويتقاطع أيضاً مع معادلات المشهد الإقليمي في مرحلة «ما بعد كركوك»، والتي من المتوقع لها أن تتكرس في المدة المقبلة. عند هذا المستوى، يحضر اسم السياسي الكردي المخضرم “برهم صالح”، لا لكونه يقود مشروعاً بديلاً قد يوازي في يوم من الأيام مشاريع عدد من الأحزاب الوازنة ضمن «المشهد الكردي»، بل لأنّ اسم هذا القيادي المنشق عن «الاتحاد الوطني»، ورئيس «التحالف من أجل الديموقراطية والعدالة»، خيار «مطروح بقوّة» في بغداد وفي العواصم الإقليمية.

فبرهم صالح يجهّز لمشروع بديل يهدف إلى إدارة الإقليم في المرحلة المقبلة، ويبصر النور قُبيل انتخابات الإقليم المرتقبة. ويرى مراقبون للشأن الكردي أن برهم صالح من أبرز المرشحين لرئاسة إقليم كردستان بوصفه نموذجاً مقبولاً في إدارة الإقليم حين تولى رئاسة حكومته بين 2009 و2011 (وقبل ذلك في حقبة أخرى، بين 2001 و2004)، وتربطه علاقات جيدة مع  سائر الفصائل السياسية في بغداد، كما تربطه أيضًا علاقات جيدة مع  طهران وأنقرة وواشنطن.

فبعد أن أصبح خيار مسعود بارزاني وإبنه مسرور شيئًا من الماضي السياسي لإقليم كردستان العراق، وبعد اعلان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني إلغاء مكتبه السياسي، وخروج سياسي مخضرم  مثل برهم صالح منه أصبح الحزب بلا قيادات فاعلة ومؤثرة فيه، وقد تسير أحواله من سيء إلى أسوأ. هذا الأمر يتطلب إلى قيادة كردية من أجل إدارة إقليم كردستان نحو تحقيق الازدهار والديمقراطية يكون على رأسها برهم صالح رئيسًا له ويعاونه نيجرفان بارزاني في منصب رئيس وزراء إقليم كردستان العراق. وهذا التنوع في المناصب السياسية الرفيعة من شأنه أن  يخلق توزان مناطقي في إقليم كردستان العراق الذي هو بأمس الحاجة إليه.

فبالنظر إلى عمق الهوة التي سقط بها إقليم كردستان العراق، فهو بأمس الحاجة إلى رئيس إقليم  مستقبلي على وزن “برهم صالح” يعمل على إزالة تلك الهوة على غرار “كونراد أديناور” مستشار الجمهورية الفيدرالية الألمانية”1949م/1963م” الذي عمل على إعادة ألمانيا إلى مسرح العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما ينسحب أيضًا على شخصية “يوشيدا شيجرو” الذي كان رئيسًا للوزراء في اليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي عمل على إعادة تشكيل السياسة الخارجية لليابان، والذي رفع شعار” أن نكون أصدقاء للجميع”. فبرهم صالح بما يمتلكه من رؤية سياسية ناضجة ومنفتحة على جميع وإيمانه بالقيم الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية هو ضمان في تعزيز فرص التنمية الاقتصادية في إقليم كردستان العراق وتداول الحكم فيه، وإقامة علاقات متوازنة مع العراق وفق الدستور العراقي وعلاقات إيجابية مع دول الجوار والدول الكبرى، فهو يعد مدخلًا لمستقبل كردستان العراق.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدرسات الاستراتيجية