تبديد الخرافات عن الأكراد والعراق وإيران

تبديد الخرافات عن الأكراد والعراق وإيران

فشل الاستفتاء الكردي في العراق على نحو مشهود، على الرغم من التنبؤات التي أشارت إلى الاستقلال. وقد أصيب العديدون ممن عولوا على العبارة المجازية من أن “الدولة ليست مسألة إذا، وإنما مسألة متى” بالصدمة، وكانوا غير مستعدين لنتيجة الاستفتاء. والآن، تقود الافتراضات الخاطئة ووصفات السياسة تحليلات ما بعد الاستفتاء. ويصور المتابعون والمحللون والإعلام استعادة قوات الأمن العراقية السريعة لكركوك وغيرها من “الأراضي المتنازع عليها” على أنها “خيانة زلزالية”، و”هجوم على الأكراد”، و”انتصار آخر لإيران”. وبينما ظل رد السياسة الأميركية حتى الآن مدروساً -السعي إلى نزع فتيل التوتر وإبقاء التركيز على هزيمة “داعش”- يدعو بعض المسؤولين إلى إعادة تقييم الدعم العسكري المقدم للقوات العراقية إذا استمرت الهجمات على الأكراد. ويضغط آخرون من أجل تقديم المزيد من الدعم المباشر لحكومة كردستان الإقليمية، كسبيل لمنع المزيد من النزاع ولمواجهة النفوذ الإيراني.
شخصت هذه الأصوات الأولوية الصحيحة ظاهرياً -الاستقرار- لكنها تعاني من اعتماد الافتراضات الخاطئة عن المصادر الفعلية لعدم الاستقرار. ربم تكون التوترات بين أربيل وبغداد قد استعر أوارها بعد الاستفتاء، لكنها متجذرة في القضايا الإقليمية والسياسية غير المحلولة لعراق ما بعد العام 2003. وفي حين أن من المؤكد حقاً أن إيران وميليشياتها قد كسبوا مزيداً من النفوذ في العراق، فإن هذا النفوذ قد تحقق نتيجة لضعف الدولة العراقية، وتشجع بالاستفتاء وليس بسبب جهد بغداد لممارسة سلطتها الفدرالية. وكما سبق وأن شرحت في مقالة سابقة، فإن الحل يكمن في تعزيز سيادة الدولة العراقية وعلاقات العراق الإقليمية وميوله الأخيرة نحو الدولة المدنية. ويتضمن ذلك التفاوض على المناطق المتنازع عليها، وسد الفجوات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمكن إيران والمليشيات غير المنضبطة من الازدهار في العراق.
يجب توجيه اللوم إلى القادة الأكراد، وليس إلى الولايات المتحدة، على مأزقهم الراهن. فعلى الرغم من التصريحات التي صدرت عن الحكومة الأميركية، والتي أعربت عن القلق من الآثار المحتملة المزعزعة للاستقرار للاستفتاء، وإسداء المشورة لحكومة كردستان الإقليمية بتأجيل الاستفتاء، رفض مسعود برزاني الاستجابة للتحذيرات. وبدلاً من ذلك، صعد حزبه الديمقراطي الكردي جهود حملته في واشنطن وعواصم أخرى. ومن جهتها، نشرت المنافد الإعلامية الكردية بشكل انتقائي تصريحات صدرت عن أعضاء في الكونغرس الأميركي ومسؤولين أميركيين آخرين، والتي تضمنت دعماً للأكراد، وهو ما حمل المواطنين المحليين على الاعتقاد بأن الاستفتاء يحظى بالدعم الأميركي. وفي محادثات كنتُ قد أجريتها مع مجموعات كردية مختلفة في أربيل والسليمانية في الأسبوع الذي سبق إجراء الاستفتاء، قال العديدون “إن واشنطن سوف تدعم الاستفتاء في نهاية المطاف، في ضوء الروابط الأميركية والإسرائيلية القوية”. وثمة شعور عام آخر كان سائداً، مؤداه أن حكومة إقليم كردستان “مهمة جداً إلى درجة أن الولايات المتحدة لن تخذلها”، وأن الولايات المتحدة سوف تدافع في نهاية المطاف عن الأكراد ضد أي تهديد في مرحلة ما بعد الاستفتاء.
ولكن، بدلاً من توحيد أكراد شمال العراق، عمق الاستفتاء الانقسامات الكردية-الكردية بطريقة صبت في صالح بغداد. ومع الوقت، أصبح بعض المسؤولين الأكراد، وبشكل رئيسي أولئك المنضوين في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، يشعرون بقلق متزايد من التحذيرات الصادرة عن بغداد وتركيا وإيران. وبدأ هؤلاء المسؤولون يأخذون على محمل الجد التداعيات الممكنة، بما في ذلك الحدود المغلقة، والمليشيات غير المنضبطة، وقطع إمدادات المياه عن منطقة لا تطل على المياه. وقال لي بعض هؤلاء المسؤولين أنهم سعوا، عبثاً، قبل بضعة أيام من الاستفتاء إلى العثور على طرق تتيح للبرزاني إنقاذ ماء وجهه وإلغاء الاستفتاء. لكن هذه المخاوف تعمقت مع السقوط السياسي للاستفتاء. وتضمن هذا السقوط إغلاق بغداد المجال الجوي الدولي للمنطقة الكردية، وإلغاء بعض الرحلات الإقليمية، والاستيلاء الفدرالي على كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها كانت تحت سيطرة قوات البشمرغة الكردية بحكم الأمر الواقع.
لم “تغز” القوات العراقية كركوك. بل دخلت إلى منطقة تعود إلى دولة العراق بعد مفاوضات تسوية مع بعض المسؤولين الأكراد. ووفق مسؤول من الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، كان انسحاب قوات البشمرغة في الأساس تراجعاً تكتيكياً أمام القوة العسكرية المتفوقة للجيش العراقي. وكان نتيجة متوقعة للوصول المناطقي الفائض للحكومة الإقليمية الكردستانية والقدرات المبالغ في تقريرها لبناها الدفاعية -وهو لسوء الطالع تطور لم يتوقعه البرزاني. وعلى الرغم من أن الجهاز الأمني الكردي، بما في ذلك قوات البشمرغة، ساعد بشجاعة على تفكيك تنظيم “داعش”، فإنه يظل هشاً ومنقسماً داخلياً على نحو متأصل. وتجدر الإشارة إلى أن قوات البشمرغة الكردية ما كانت لتحقق المكاسب الإقليمية الواسعة التي كسبتها -والتي مثلت زيادة بنسبة 40 في المائة على الأراضي المسيطر عليها كردياً في العراق- من دون الدعم الجوي لقوات الائتلاف. ومن غير المرجح أن تستديم قوتهم من دون القوة الجوية للائتلاف.
على عكس ما يدعيه البعض، لم تكن إعادة تأكيد بغداد سلطتها الفدرالية على كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها قراراً هندسته طهران بشكل غير مباشر. صحيح أن الجنرال الإيراني قاسم سايماني لعب دوراً في خطب ود المسؤولين العراقيين وفي ممارسة الضغط على قادة الأحزاب الكردية وفي التوسط للتوصل إلى صفقات وفي حشد المليشيات، لكن قرار استعادة كركوك واحداً اتخذه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، استجابة لضغوط تعرض إليها من البرلمان الوطني والمواطنين المحليين. وتمتد ردود الأفعال هذه إلى ما وراء الاستفتاء. وهي تعكس حقيقة أن أغلبية ساحقة من العراقيين غير الأكراد يبغضون بعمق التوسع المناطقي الكردي والسلوك العدائي الكردي أيضاً لما بعد العام 2003: رفع العلم الكردي في كركوك والتخلي عن الأيزيديين وإسلامهم لـ”داعش” و”كردنة سهول نينوى”. وهذا هو السبب في أن العديد جداً من مجموعات الأقليات كانت مبتهجة لإعادة فرض بغداد سيطرتها على شمالي العراق.
تتزامن هذه الديناميات مع شعور متنامٍ بالمواطنية العراقية. وقد تطور هذا الاتجاه تحت قيادة العبادي ومع النجاحات التي حققها الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب ضد “داعش”. وانعكست المواطنية العراقية في محاولة إقامة دولة مدنية وإضعاف الطائفية. (وفقاً لما يقوله قائد لحركة مدنية في بغداد، فإنه من بين الكيانات الـ150 المسجلة للانتخابات العراقية في المقرر إجراؤها في ربيع العام المقبل 2018، فإن 76 منهما تحمل أسماؤها كلمة مدني أو مدنيين). وفي مظاهرة جرت أخيراً في بغداد في ميدان التحرير في أحد أيام الجمعة، والتي كنتُ حاضراً فيها، شارك الآلاف من نشطاء حركة الإصلاح، والذين ضموا صدريين وأعضاء في الحزب الشيوعي وأناساً من كل أنحاء العراق، في إلقاء الكلمات وترديد الهتافات والأناشيد المناهضة للطائفية والفساد، بالإضافة إلى عزف السلام الوطني العراقي. وكان الكثيرون منهم يلفون أنفسهم بالعلم العراقي.
لا يعني هذا كله إنكار وجود نفوذ إيراني ماكر في العراق. فقد كسبت إيران النفوذ من خلال التغييرات الديموغرافية والمليشيات وتجنيد الشباب والأعمال التجارية، وعلى نحو خاص منذ حملة “داعش” في العام 2014. ومع ذلك، فإن مصدر هذا النفوذ يكمن في ضعف الدولة العراقية. وفي بعض المناطق المحررة، ملأت المليشيات المدعومة من إيران -والتي تشكل ما نسبته حوالي 20 في المائة من كل المليشيات في العراق- الفراغات الأمنية والمالية
والإدارية التي تركتها الدولة. وهي تسيطر على نقاط التفتيش وطرق التجارة وتقوم باحتواء السكان المحليين بتقدم الرواتب والخدمات والغذاء، بينما تنخرط أيضاً في الابتزاز والخطف وعمليات القتل. كما انضم بعض العرب السنة إلى هذه المليشيات كنوع من محاولة الاستدامة. وقد مكن الاستفتاء الكردي المليشيات غير المنضبطة أكثر، ومنحها سبباً آخر للبقاء طويلاً بعد أن تم إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
مضامين السياسة
يجب على الولايات المتحدة أن تعلن بوضوح عن مصالحها الاستراتيجية في العراق، والتي من شأنها إلحاق الهزيمة بـ”داعش” والسماح بقدوم الاستقرار الإقليمي. ويجب تضمين هذا الهدف في سياسة إقليمية شاملة، والتي تؤكد سيادة الدولة ووحدتها الإقليمية. وعلى وجه التحديد يجب على الولايات المتحدة:
• دعم قيام دولة عراقية مدنية ذات سيادة. حيث يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في دعم حكومة العبادي ومؤسسات الدولة العراقية من خلال إرسال رسائل ثابتة تؤكد السيادة العراقية. ويجب أن تشير البيانات الرسمية الأميركية إلى الناس في العراق على أنهم عراقيون، يعيشون في وحدات مناطقية معينة، وليسوا مجموعات عرقية-طائفية (سنة وشيعة وأكراد).
• يجب إضفاء الاستقرار وملء الفجوات الأمنية. وتستطيع الولايات المتحدة مساعدة الحكومة العراقية على إضفاء الاستقرار على البلد من خلال تقديم التدريب المتواصل للقوات الأمنية العراقية وقوات مكافحة الإرهاب وقوات البشمرغة ووزارة الداخلية والشرطة المحلية. ويجب أن تتضمن جهود التدريب ترسيخ أفضل الممارسات في القوات الأمنية والتحويل والتغيير ووحدات التدوير والاستخبارات الفنية. كما يجب على هذه الجهود محاولة توفير الأمن والخدمات للسكان المحليين كبديل أفضل عما تقدمه المليشيات الإيرانية.
• التوسط بين بغداد وأربيل كمحكم محايد. يجب على واشنطن الاستمرار في المساعدة على التوسط لتخفيف التوترات بين بغداد وأربيل وحل القضايا الحساسة، مثل الأمن والترتيبات الإدارية في شمالي العراق، كجزء من أولويتها الكبرى المتمثلة في إيجاد بلد مستقر وموحد. وتستطيع الولايات المتحدة أيضاً المساعدة -بناء على دعوة بغداد وأربيل- في التفاوض على اتفاقيات لتقاسم العوائد والتعاون في قطاع الطاقة.
• إعادة تأطير العلاقات مع حكومة إقليم كردستان. يجب على الأميركيين الاستمرار في دعم حكومة إقليم كردستان كجزء لا يتجزأ من الدولة العراقية، وفق الدستور العراقي. لكن مناشدة وخطب ود المسؤولين الأكراد ليسا سياسة، ولا يخدمان المصالح الأميركية. وإذا كانت واشنطن تسعى إلى وجود شريك مستقر في أربيل كجزء من العراق، فيجب عليها وقف تمكين السلوك السيئ وفرض شروط على دعمها لحكومة إقليم كردستان، بما في ذلك إجراء إصلاح مؤسساتي وإنهاء الدعم العسكري والمالي.
للمساعدة على إضفاء الاستقرار على العراق بعد “داعش” وضبط النفوذ الإيراني السُّمي، تمس حاجة الولايات المتحدة إلى تعزيز الدولة العراقية القوية وذات السيادة. ويجب أن يتضمن ذلك تقديم الدعم الأمني وجهود الوساطة، والعمل على وحدة العراق الإقليمية وضبط النفس. ويجب أن ينتبه الأميركيون إلى التغيرات الإقليمية والديموغرافية المهمة التي حدثت منذ العام 2003، والحاجة إلى أن يكونوا وسيطاً متوازناً. وسوف يتطلب ذلك دعم والاعتراف بالاتجاهات الوطنية نحو اتجاه خلق دولة عراقية مدنية، ونحو الابتعاد عن الطائفية والعرقية. وأخيراً، يجب على الولايات المتحدة التأكد من أن دعمها لا يمكِّن على نحو مفرط أو يشجع أي مجموعة، وخاصة حكومة إقليم كردستان، على الاعتقاد بأنه لا يترتب عليها التفاوض أو التوصل إلى حل وسط مع بغداد. ويجب اشتراط ربط تقديم الدعم الأميركي لأكراد العراق بالتوصل إلى مثل هذه التسوية.

دينيس ناتالي

صحيفة الغد