ترامب يثير المتاعب بلعبه دور وسيط السلام في شرق آسيا

ترامب يثير المتاعب بلعبه دور وسيط السلام في شرق آسيا

ما الذي عناه دونالد ترامب بالضبط عندما عرض “التوسط” في النزاع بين فيتنام والصين في مسألة الخلاف حول بحر الصين الجنوبي؟ يوم الأحد قبل الماضي، وخلال زيارته للعاصمة الفيتنامية، هانوي، قال الرئيس الأميركي لنظيره الفيتنامي: “أرجوك إعلامي إذا كنت أستطيعُ التوسط أو التحكيم… أنا وسيط ومحكم جيد”.
وقرع ذلك التعليق أجراس الإنذار في فيتنام، حيث هناك المخاوف من أن يصبح البلد الشريك المهمل في علاقة “مجموعة الاثنين الكبار” بين الولايات المتحدة، حيث تأتي الصين في المرتبة الثانية بعد المخاوف من افتراض احتمال تآمر الولايات المتحدة للإطاحة بحكم الحزب الشيوعي في هانوي.
وقال نغوين ثانِه ترنغ، عميد كلية العلاقات الدولية في جامعة العلوم الاجتماعية والإنسانيات في مدينة هوشي منه الفيتنامية: “ترحب فيتنام بالاقتراح (اقتراح ترامب)، لكنها تفضل الآليات الثنائية بخصوص موضوعات بحر الصين الحنوبي”. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يسبق للصين وأن رحبت بأي تدخل خارجي في النزاعات في السابق، وربما كان ترنغ يتحدث نيابة عن صانعي السياسة الفيتناميين عندما قال: “أفترض أن الصين لن تصادق على مبادرته ما لم يفضل عرض ترامب مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي”.
على السطح، يبدو عرض “التوسط” في نزاع بحر الصين الجنوبي غريباً جداً. فالصين لا تعتبر الولايات المتحدة طرفاً محايداً في غمرة المطالبات الإقليمية التنافسية. وكما قال وو شيكن، رئيس معهد الصين الوطني لدراسات بحر الصين الجنوبي في مؤتمر صحفي في هايكو في الصين يوم 9 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي: “لم يتم بعد حل القضايا الكبيرة مثل النزاعات حول الأراضي والاختصاص في البحر، وما تزال تواجه التدخل من جانب قوى خارجية رئيسية مثل الولايات المتحدة واليابان”. يشار إلى أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يعرض فيها مسؤول حكومي أميركي التوسط في حل النزاع في بحر الصين الجنوبي. فقد كانت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون قد طرحت فكرة التوسط وراء في العام 2010. لكنها لم تخرج بشيء.
لكن الشيء الذي قد يتسبب في بضع ليالٍ من الأرق يكمن في التساؤل عما إذا كان ترامب والصين قد توصلا إلى صفقة سرية بينهما. والكل يعرف جيداً أن أولوية ترامب الحالية في آسيا تكمن في نزع سلاح كوريا الشمالية النووي. وهم يتساءلون عن الثمن الذي انتزعته الصين من واشنطن في مقابل زيادة الضغط على بيونغ يانغ. فهل سيكون ليّ ذراع هانوي هو المقابل للقليل من تشديد العقوبات على نهر يالو؟
قد تشير الأولوية المنخفضة نسبياً الممنوحة لموضوع بحر الصين الجنوبي في البيان المشترك للحكومتين –حيث كان النقطة 13 من 14، وأدنى من إعادة فتح السفارة الأميركية في هانوي- إلى تمييع أهميته بالنسبة للولايات المتحدة.
لا يوجد أي دليل على أن ثمة خطة قيد الإعداد الآن، وسوف يكون هناك الكثير من داعمي ترامب في واشنطن ممن يحاججون بحماسة ضد التسامح مع أي تقدم صيني في بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما يدور في خلد الحكومات الجنوب آسيوية حالياً هو الشك في أن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة المسماة حديثاً “الباسفيك الهندي” أو “إندو باسفيك” يمكن أن تصبح استعراضاً لـ”فن إبرام الصفقة” على حسابهم.
ما الذي تريده الصين من هذا الترتيب؟ في النهاية هي تسعى إلى الحصول على اعتراف دولي بمطالبها بكل قطعة أرض تقع في داخل خط مطالباتها أحادية الجانب بمنطقة على شكل حرب “يو” بالانجليزية، سوية مع “حقوقها التاريخية” في كل الموارد الطبيعية المتضمنة. وإلى أن تحصل على كل شيء، قد تكون بكين مستعدة للقبول عن طيب خاطر ببعض الإجراءات التي تقطع نصف الطريق -مثل الإذعان لمطالبها بـ”تنمية مشتركة”. وهذه هي الصيغة التي تستخدمها الصين لحمل المطالبين الآسيويين في جنوب شرق القارة على المشاركة في الثروة السمكية والنفط والغاز الطبيعي التي تقع في مناطقهم الاقتصادية الحصرية قانونياً.
لكن الأجزاء الأخرى من رسائل ترامب كانت أخباراً أفضل للفيتناميين. ففي كلمته أمام القمة التي عقدتها رابطة التعاون الاقتصادي الآسيوي الباسفيكي يوم 10 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، عرض ما يلي: “في أميركا، مثل أي أمة كسبت ودافعت عن سيادتها، نفهم أن لا شيء أغلى من حق الولادة لدينا، ومن استقلالنا الثمين ومن حريتنا”. وقد لا يكون ترامب قد أدرك ذلك، لكن كاتب خطاباته كان يردد بوضوح أصداء كلمات رئيس آخر، الزعيم الفيتنامي هوشي منه الذي كان قد قال في 17 تموز (يوليو) 1966: “لا شيء أغلى من الاستقلال والحرية”.
ثم مضى ترامب إلى الربط بين تلك العاطفة وقصة الشقيقتين ترونغ اللتين قاتلتا، حسب السرد الوطني الفيتنامي الحديث، ضد الصين قبل 2000 عام. وقد بدا هذا -مصحوباً بالإشارة إلى بلدان “لا تدور في فلك أحد”- شبيها بدعم أميركي لتحدي هانوي المستمر للصين.
بالأهمية نفسها بالنسبة لهانوي، كانت الأشياء التي لم يتطرق ترامب إلى ذكرها. فباستثناء الذكر الموجز لـ”حقوق الفرد” (المترافق على نحو غريب مع “حرية الملاحة والطيران في المجال الجوي”) لم يكن هناك أي ذكر للإصلاح السياسي أو الاجتماعي. وأورد البيان المشترك الرسمي جملة واحدة فقط عن “حماية وتعزيز حقوق الإنسان”.
في زيارته الوحيدة لفيتنام كرئيس في أيار (مايو) 2016، كان الرئيس السابق باراك أوباما قد استضاف حفل عشاء لإصلاحيين ومعارضين، مثل مغني الاحتجاجات دو نغوين ماي خوي. ولكن، لم تكن هناك أي ضيافة من هذا القبيل في هذه المرة. وبدلاً من ذلك، قامت الشرطة السرية باحتجاز ماي خوي وآخرين من المعارضين في منازلهم، ثم تم إخلاؤهم لاحقاً من هانوي.
من المرجح أن تكون هذه اللامبالاة تجاه مواضيع مثل الحقوق والحوكمة صفة استراتيجية ترامب الهندي-باسفيكية. وسوف تجعل العلاقات الدبلوماسية مع الحكومات المستبدة أسهل بكثير -حتى لو كانت تخيب آمال جيل من المواطنين الأصغر سناً والذين تطلعوا، خلال أعوام أوباما، إلى دعم الولايات المتحدة لرغبتهم في توسيع الحريات الاجتماعية والسياسية.
سوف يكون الانفصال الرئيسي الآخر عن الإدارة السابقة هو موضوع التجارة. وقد أوضح ترامب هذا بوضوح الشمس في دانانغ وهانوي على حد سواء، حيث دعت كلماته إلى “تجارة نزيهة ومتبادلة” ودان حالات العجز المزمنة في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة ومعظم البلدان الآسيوية.
بالنسبة للحكومة في هانوي، يعتبر الفائض التجاري البالغة قيمته 32 مليار دولار مع الولايات المتحدة حاسماً من أجل موازنة عجزها التجاري مع الصين والبالغ 34 مليار دولار. ولا تتوافر على أي محفز لإعطاء ترامب ما يريد فعلاً -لكنها ستقدم القليل من عطايا الاسترضاء. ومن هنا جاء الإعلان عن مذكرة التفاهم غير الملزمة الخاصة بصفقات ضخمة عدة مع شركات تجارية أميركية، وإعادة الإعلان عن صفقة ضخمة لمحركات الطائرات مع شركة “برات ووتني”.
ثمة تداخل هنا بين مواضيع الحقوق والتجارة. وكانت الشراكة عبر الأطلسي التي كانت قد دفعتها إدارة أوباما لتجعل أمر التصدير والتوسع أسهل بالنسبة للشركات التجارية الصغيرة ومتوسطة الحجم. وسوف يعطي النهج الثنائي الذي فضله ترامب مزايا للشركات الضخمة وللمؤسسات المملوكة للدولة. وكانت المشاركة الأميركية في الشراكة عبر الباسفيكي لتشجع الدمقرطة بطريقة لا تقدر عليها ثنائية “بين دولة ودولة”. وتعد فيتنام واحدة من 11 بلداً تمضي قدماً مع الشراكة عبر الباسفيكي. ولكن، من دون المشاركة الأميركية، فإن بعض الإجراءات التحررية، مثل السماح بتشكيل بعض النقابات المستقلة، سوف تُسقط.
كانت المنطقة الوحيدة الواضحة لاستمرارية نهج إدارة أوباما هي الجيش. فقد ولى عهد الحديث عن “إعادة التمحور” و”إعادة التوازن” منذ طويل وقت، لكن التطلع إلى نشر المزيد من القوات في بحور شرق وجنوب شرق آسيا يستمر. وفي بيانهما المشترك، تطلع ترامب والرئيس الفيتنامي تران داي كوانغ قدماً إلى أول زيارة تقوم بها حاملة طائرات أميركية إلى فيتنام في وقت ما من العام 2018. وسوف تستمر فيتنام في الترحيب بالسفن الحربية الأميركية طالما كانت الولايات المتحدة تتوافر على الميزانية لبنائها ونشرها.
قد يكون هذا موضع ترحيب تام من جانب معظم الحكومات في جنوب شرق آسيا، وبالتحديد لأنه يكبح الصين. وفي مؤتمر بعد آخر، يستبعد المسؤولون الصينيون فكرة أن دول جنوب شرق آسيا قد ترغب فعلياً في تواجد قوي للولايات المتحدة لموازنة تحركات الصين العدوانية بازدياد في بحر الصين الجنوبي. وهم يصرون على أنه في حال انسحاب الولايات المتحدة، فإن كل شيء في المنطقة سوف يكون هادئاً. وتفهم بلدان مثل فيتنام جيداً ما ينطوي عليه ذلك “الهدوء”، ولذلك تبذل قصارى جهودها لضمان أن لا ينتهي بها الحال إلى أن تكون دولاً “تابعة” لأي أحد.
يبدو أن ما يستعرضه هذا التطور فوق كل شيء هو أن الصعوبة في صنع السياسة الخارجية تتعلق بموقف المرء نفسه. وتثير هذه التعليقات العابرة القلق والتحسب وليس التطمين. وسوف يمضي الدبلوماسيون الأميركيون بعض الوقت في الرد على تعليقات ترامب، تماماً كما كانوا قد فعلوا عندما قال وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، في جلسة تثبيته في مجلس الشيوخ الأميركي أن الولايات المتحدة ستحرم الصين من الوصول إلى قواعد في سبع جزر اصطناعية بنتها في بحر الصين الجنوبي. وهناك علامات تشير إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة تطور سياسة متماسكة تجاه منطقة الهندو-باسفيكي، لكنها لم تكتمل تماماً بعد.

بيل هايتون

صحيفة الغد