الاحتجاجات الإيرانية والطبقة العاملة

الاحتجاجات الإيرانية والطبقة العاملة

في شباط (فبراير) من العام 2017، كنتُ قد كتبت عن “الرجل المنسي” في إيران، عضو الطبقة العاملة الذي بدا غير مرئي وسط الحديث عن انتعاش البلد في مرحلة ما بعد رفع العقوبات.
الذي كان مفقوداً هو تقدير أن “تطبيع” العلاقات بين إيران والمجموعة الدولية مهم من حيث رفع “الإيرانيين العاديين” إلى وضع الإدراك العالمي، بقدر أهمية المسائل التي تتعلق بالتجارة الدولية والمالية والاندماج القانوني. وبينما تحقق تقدم على صعيد بناء الوعي لدى الشباب الإيراني والنخبة المتعلمة تعليماً عالياً، الذين تلعب المشاريع المبتدئة والموهبة الريادية لديهم دوراً في انحيازات التغطية المتأصلة لدى الإعلام الدولي، فإن ثمة قطاعات أضخم من المجتمع تظل معرضة للتجاهل أيضاً. وبرمزية مشابهة، قوبل صعود “المستهلك الإيراني” متمتعاً بقوة شراء غير مقيدة وأذواق غربية بترحيب كبير، لكن التغطية تفشل في تقدير أن الطبقة فوق المتوسطة في إيران تعول على قاعدة أضخم بكثير، والتي وظيفتها الاقتصادية الرئيسية ليست الاستهلاك بل الانتاج.
مع الموجة الجديدة من الاحتجاجات التي اجتاحت إيران، يبدو أن رجال ونساء البلد المنسيين ربما ينشطون لضمان سماع أصواتهم في إيران وفي أنحاء العالم أيضاً. وثمة إجماع ينمو على أن الاحتجاجات تكونت بشكل رئيس من أعضاء الطبقة العاملة التي هي الأكثر عرضة للبطالة المزمنة وللارتفاعات في كلفة المعيشة.
تنطوي فكرة أن هذه الاحتجاجات كانت للطبقة العاملة على قوة تفسيرية. أولاً، إذا كانت الاحتجاجات هي من ترتيب الطبقة العاملة حقاً، فإنها تكون بذلك أقل مدعاة للمفاجأة، ومن الممكن أن ينظر أليها على أنها مشابهة لـ”اضطرابات الخبز” التي جرت خلال الفترة الرئاسية الثانية لأحمدي نجاد عندما عانى اقتصاد إيران من أكثر انكماشاته حدة.
ثانياً، قد تفسر نظرة الطبقة العاملة كمنظم السبب في عدم استخدام المحتجين الهتافات السياسية وصور الحركة الخضراء في التظاهرات. وكانت الحركة الخضراء حركة طبقة وسطى في سوادها الأعظم، والتي ركزت على الحقوق المدنية وظهرت رداً على حرمان مرشح مختار من الانتصار الانتخابي بسبب التزوير. وكان التضامن مع ناخبي الطبقة الأدنى مرتبة محدوداً ولم تكن المعاناة الاقتصادية محل تركيز.
ثالثاً، قد يفسر هذا التكوين الديمغرافي الدعم الذي منحته المجموعات السياسية المحافظة للمحتجين، على الرغم من المشهد والمسار الصوتي للشعارات المعادية للدولة، والتي ميزت العديد من التجمعات. ويبدي الساسة المحافظون حذراً حيال عدم تنفير أعضاء قاعدتهم، بينما يحاولون إبلاغ المحتجين بالمحصلة المتوقعة لسياسات روحاني الاقتصادية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تكوين الطبقة العاملة للاحتجاجات يفسر على وجه الدقة كيف شهدت إيران انتخابات رئاسية ناجحة باقبال تاريخي وفوز واضح قبل ستة أشهر وحسب من خروج حشود جماهيرية في مدن في عموم البلد للاحتجاج على الحكومة. وربما يكون أولئك الذين تحولوا إلى الاحتجاج يشعرون الآن بأن صوتهم لم يسمع في انتخابات أيار (مايو).
سوف تظهر مراجعة مقارنة بسيطة لدول ذات دخل متوسط عال مثل إيران -بما في ذلك البرازيل والمكسيك وتايلاند وروسيا ودول أخرى- أنه بينما تنتهي الاحتجاجات إلى تعبيرات سياسية، فإنها عادة ما تبدأ بدوافع اقتصادية. وأن تكون الطبقات العاملة في إيران مستعدة للتعبئة وأن يكون التحشيد سريعاً جداً هو أمر له دلالة في سياق المتاعب الاقتصادية الحالية في إيران.
عادة ما يجري بشكل عام غض الطرف عندما يتم بحث اقتصاد إيران في فترة ما بعد العقوبات عن حقيقة أن روحاني أدار موازنة تقشف منذ انتخابه في العام 2013، حتى أن البعض يصفون سياساته بأنها “ليبرالية جديدة”. وفي حين أن ذلك ليس وصفاً يتصف بالكمال، فإن نهج إدارته الاقتصادية ينسجم فعلياً إلى حد كبير مع “إجماع واشنطن” الليبرالي الجديد، الذي يسعى إلى الإصلاح الاقتصادي من خلال تحرير التجارة والخصخصة وإصلاح الضرائب وتحديد الإنفاق العام والتركيز على الاستثمار الأجنبي المباشر، من بين سياسات أخرى.
تبقى هذه المقاربة الاقتصادية مفهومة بطرق عدة. فروحاني يسعى إلى تصحيح المبالغات الشعبوية التي كانت لدى إدارة أحمدي نجاد، بينما يعمل أيضاً على مخاطبة القضايا الهيكلية طويلة الأمد في اقتصاد إيران، مثل نظام الرفاه المبالغ فيه، والاعتماد على المؤسسة المملوكة للدولة والمحسوبية والفساد. لكن هذه تبقى مشاريع إصلاح طويلة الأمد، وتقتضي عملاً متعباً صعباً قد لا تتساوق بشكل كامل حتى انتهاء رئاسة روحاني. وبطريقة ما، يمكن الإطراء على إقدام الإدارة على تطبيق هذه النظرة لصالح ما وصفه هوما كاتوزيان بأنه “مجتمع قصير الأمد”. لكن الكلف السياسية قصيرة الأمد تتضح حالياً.
كما تبدو موازنة روحاني في المحصلة غير مناسبة لمعالجة الحاجة إلى خلق الوظائف، والتي تعد مسألة ملحة تقع في صلب عدم الرضى الشعبي. وقد كتب الاقتصادي جواد صالحي- أصفهاني رداً على موازنة روحاني الأحدث:
“إن خلق الوظائف هو واحد من الأهداف الرئيسية المعلنة لهذه الموازنة. لكن من الصعوبة بمكان رؤية كيفية تحقيق ذلك من خلال خفض موازنة التنمية في وقت تعتبر فيه أسعار الفائدة عالية جداً (تتجاوز التضخم بواقع خمسة نقاط بالمائة أو أكثر). وقد ظل معدل البطالة يرتفع في الأعوام الخمسة التي تواجد فيها روحاني رئيساً، بشكل رئيسي بسبب زيادة ضغط الطلب. لكن العرض المنخفض يظل مسؤولاً بالمقدار نفسه. ومع الأخبار غير المحبذة فيما يتصل بالاتفاق النووي وإزالة العقوبات بفضل انعطاف 180 درجة في السياسة الأميركية تجاه إيران، فإن فرص التحسن الاقتصادي من خلال الاستثمارات الأجنبية في البلد تبدو قاتمة. ومع تدني منسوب الصبر عند الشعب، يجب أن يكون النقاش في البرلمان حول الموازنة أكثر جدية من المماحكات الاعتيادية الخاصة بمستلزمات المصالح الخاصة”.
يشار إلى أن معظم الحكومات التي تكون في وضع روحاني تعمد إلى انتهاج سياسة نقدية موسعة وتعزز الانفاق العام في محاولة لحفز الاستثمار والنمو الاقتصادي. لكن إيران تواجه راهناً سلسلة من التحديات الاقتصادية التي تعقِّد مثل هذه الاستجابة. وعلى سبيل المثال، ما يزال الإنجاز الاقتصادي الرئيسي الذي تتطلع إليه إدارة روحاني هو السيطرة على التضخم. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يستقر التضخم عند أقل من 10 % هذا العام، منخفضاً من 40 % في العام 2013. وتشكل السيطرة على التضخم أمراً حاسماً في إضفاء عامل الاستقرار على الأسعار في سلة إيران من السلع؛ حيث تستمر قوى أخرى للسوق في رفع الأسعار. وتنطوي أي محاولة لضخ أموال في اقتصاد إيران لحفز الاستثمار على خطر تقويض النجاح على صعيد التضخم.
بالإضافة إلى ذلك، وأمام النمو المنخفض، تقوم البنوك المركزية في العادة بتخفيض أسعار الفائدة لجعلها أرخص من أجل تمويل الاستثمارات الجديدة. ولكن يجري حالياً إرجاع أسعار الفائدة في إيران ببطء من 22 % إلى المستوى الحالي البالغ 18 %. وتبقى التعديلات بطيئة الوتيرة ضرورية، نظراً لأن مصارف إيران تعاني حالياً من مديونية كبيرة لا تتمكن معها من تسديد الفوائد المترتبة على القروض. وسوف تترتب آثار على خفض سعر الفائدة بحدة، خاصة مع بقاء التضخم عنيداً. أولاً، سيجد المدخرون أن ودائعهم تفقد القيمة. ومن شأن ذلك أن يلحق الضرر بالمدخرين ذوي الدخول الأقل الذين تكون لديهم طائفة أقل تنوعاً من الأصول. وما يزال أعضاء الطبقة الوسطى يستفيدون من رفع الأصول في مجالات ما تزال قوية، مثل العقارات والأسهم، وحتى الذهب. وقد تحسنت ثروات الطبقة الوسطى نوعاً ما في أعقاب الاتفاق النووي لهذا السبب. وعلى النقيض من ذلك، يعتمد أعضاء الطبقة العاملة على حسابات الودائع التي تدر فوائد لتقنين الثروة، ولذلك تكون هشة جداً أمام التقلبات في أسعار الفائدة. ويعد الجدل الذي دار حول أسعار الفائدة غير المستدامة التي عرضتها مؤسسات إدخار وإقراض غير مرخصة، والتي أثارت احتجاجات في مدن في عموم إيران في صيف العام 2017، مؤشراً على الهشاشة.
ثانياً، من شأن سعر فائدة أقل أن يهدد الوضع المالي الجيد للعديد من بنوك إيران التي لطالما خفضت نسب الاحتياط وراكمت ديناً سُمّياً. ويجعل أي تراجع مرافق في الودائع من الأصعب على البنوك الوصول إلى بر الأمان باحتياطياتها، مما يزيد من احتمالات جعل إعادة الرسملة محفوفة بالمخاوف من الناحية السياسية. وفي التقييم الحديث لبرفيز أغيلي، الرئيس التنفيذي لمصرف إيران للشرق الأوسط، فإن جعل موازنة إيران البالغة 700 مليار دولار متقيدة بمعايير بازل 3 التي تدعو إلى نسبة رفع تبلغ 6 % في الحد الأدنى، سيكلف 200 مليار دولار. وبالمقارنة، تبلغ موازنة روحاني الإجمالية للسنة المالية الإيرانية التالية 104 مليارات دولار.
في مواجهة خيارات محدودة، اعتقدت إدارة روحاني أن التجارة والاستثمار في مرحلة ما بعد العقوبات، والتي أصبحت ممكنة بسبب تخفيف العقوبات الذي عرضه اتفاق إيران، سوف تمكن البلد من الانطلاق في النمو والاستثمار، مما يدعم خلق الوظائف. لكن العوائد الاقتصادية للصفقة النووية لم تتجسد على النحو الذي كان مستشرفاً من قبل. ويعتقد معظم قادة الأعمال التجارية أن هذا يعود بشكل رئيسي إلى عوامل خارجية -تحديداً تهديد الرئيس ترامب بإعادة فرض العقوبات على إيران، أكثر منه بسبب بيئة إيران التجارية الخاصة التي تنطوي على تحديات. وما يزال الاتفاق النووي يحتل الصدارة في خطة روحاني الاقتصادية، حيث يكون الاتفاق النووي وصفقات الاستثمار مندغمين بشكل رئيسي في كثير من الخطاب، إلى درجة أن القلق حول مستقبل الاتفاق النووي هز الثقة أيضاً في الإدارة الاقتصادية لروحاني بشكل عام.
بالإجمال، يدير روحاني موازنة تقشف لأنه بين المطرقة والسندان. وتبقى السياسات التي يتبناها معقولة اقتصادياً وضرورية -إلى حد أن الموازنات مرت على الرغم من إعاقات البرلمان وزوايا أخرى من هيكل السلطة في إيران فيما يتعلق بالنهج، أهو ليبرالية جديدة أم لا. لكن السياسات تبقى مكلفة سياسياً، حيث تختبر صبر الشعب الذي يشعر بأن الآمال المعقودة على تحقيق حياة أفضل قد خفتت في السنوات السابقة. وكما يكتب محمد علي شاباني، فإن من الممكن وسف الظروف في إيران بمفهوم “منحنى جيه” الذي يعتقد أن التجييش يحدث “عندما تأتي في أغقاب فترة طويلة من التوقعات المتصاعدة والرضا فترة ينخفض فيها الرضا فجأة… بينما تستمر التوقعات في الصعود”.
إننا لا نستطيع أن نخطِّئ الإيرانيين على توقعاتهم المتصاعدة، لأنهم شعب يعرف إمكانياته الهائلة. وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للطبقات العاملة لأنها بنت اقتصاد إيران المتنوع بعملها، كما بنت ثقافة إيران الثرية بقيمها. وبينما تصبح إيران أكثر ثراءً وأكثر تقدماً، تصبح الطبقة الوسطى المتبرعمة ممثلة للمستقبل. لكن الخبرات الحديثة للاقتصادات الأغنى تعرض قصة تحذيرية عن “نسيان” الطبقات العاملة والتضحية بتوقعاتها من أجل حماية رضا الآخرين.

اسفنديار باتمانغيلدج

صحيفة الغد