أوباما والشرق الأوسط الجديد

أوباما والشرق الأوسط الجديد

يتسم المشهد الشرق أوسطي الحالي بثلاثة متغيرات جديدة تستحق الانتباه:

أولها، انتقال مركز التأثير والفاعلية داخل النظام العربي من المحور المشرقي إلى منطقة الخليج مع بروز محاولة جديدة لترميم المعادلة الإقليمية لمواجهة مخاطر التحلل الداخلي والتدخل الخارجي.

ثانيها، تمحور عملية الصراع الإقليمي حول النزاع العربي – الإيراني إثر استفحال التدخل الإيراني في الأزمات الحادة التي تعصف بعدد من البلدان العربية الرئيسية وفق تخريج طائفي مدمر.

ثالثها، تغير نوعي في الموقف الأميركي إزاء المعادلة الشرق أوسطية بالانفتاح على إيران، مما فرض على الطرف العربي لأول مرة منذ الثورة الخمينية 1979 تدبير السياسات الإقليمية بطريقة منفردة دون التعويل على التنسيق مع الشريك الأميركي.

السؤال المطروح اليوم بقوة هو: كيف يمكن أن نقرأ هذه المتغيرات من زاوية الرؤية الاستراتيجية الأميركية الجديدة للمنطقة، التي يبدو أنها شهدت في حقبة الرئيس أوباما تحولات جذرية في التوجه والأولويات والمواقف؟ الواقع أن أوباما أفصح خلال السنوات الأربع الأخيرة وفي مرات متتالية عن هذه التحولات التي انعكست في إدارة ملفات ثلاث: حركية «الربيع العربي»، الحرب الأهلية في سوريا والعراق، الملف النووي الإيراني. والملاحظ في هذا السياق أن استراتيجية أوباما تأرجحت بين توجهين متعارضين: النزوع الرسالي المثالي من خلال خطاب نشر الديمقراطية وفرض التغيير الداخلي والنزوع الواقعي البراجماتي في التعامل مع الأزمات الإقليمية (الإحجام عن إسناد المعارضة السورية والصفقة الأخيرة مع إيران). ما يبدو تناقضاً في رؤية أوباما الاستراتيجية ينسجم في الواقع مع الخط الفكري للرئيس الأميركي الذي ينحدر من الاتجاه اليساري الحقوقي النشط في أوساط الأقليات وحركية المجتمع المدني، ومن أبرز عناصره المحيطة به حالياً مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة «سمانتا باور» التي طورت أطروحات الفيلسوفة اليهودية «حنة أرنت» في الاستبداد، و«آن ماري سلاوتر» التي كانت مساعدة مقربة من وزيرة الخارجية السابقة «هيلاري كلينتون»، وقد اشتهرت بكتابها «النظام العالمي الجديد» (2004)، الذي قدم فيه نقداً جذريا لتجربة الحروب الأميركية الأخيرة (في العراق وأفغانستان). والخط الذي يصدر عنه هذا الاتجاه هو بمنأى عن القسمة التقليدية داخل الحقل الاستراتيجي الأميركي بين المدرستين المثالية (الولسونية) والواقعية، وهو خط «الواقعية الأخلاقية» أو «الواقعية المسيحية»، الذي تعود جذوره إلى الفيلسوف اللاهوتي «رينولد نيبور» (توفي 1971)، الذي صرح مرات بأنه الفيلسوف المفضل لديه.

الفكرة الأساسية التي يصدر عنها هذا الاتجاه هي الجمع بين المثل الأخلاقية السلمية وحقائق النفس الإنسانية الضعيفة، مما يقتضي سلوكاً فردياً وعمومياً يتداخل فيه الحزم والمرونة والتصميم والحلول التوفيقية، بما تعبر عنه مقولة «الصبر الاستراتيجي»، التي وردت في الوثيقة الاستراتيجية للإدارة الأميركية الحالية.

وقد شكلت هذه النزعة الواقعية الأخلاقية خلفية «عقيدة الاحتواء»، التي بلورها الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي «جورج كنان» خلال مرحلة الحرب الباردة إزاء التهديد السوفييتي في عهد الرئيس ترومان. وتقوم هذه العقيدة على الجمع بين المسارات العسكرية والسياسية والثقافية في مواجهة الخصم مع الرهان على قدرة الديبلوماسية الحازمة في حسم الصراع الاستراتيجي.

في مقال بعنوان «العودة للريادة الأميركية» (فورين أفيرز، يوليو 2007)، يذهب أوباما إلى أن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تُحسم بالوسائل العسكرية، أو عن طريق تصدير الديمقراطية، بل من خلال وسائل مركبة تجمع بين مختلف أوجه السلطة في مناحيها السياسية والثقافية والاقتصادية، معتبراً أن الولايات المتحدة يجب أن تتخلى عن هدف الهيمنة الأحادية لتبني خيار الريادة عن طريق الشراكة مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة.

من خلال الاتفاق الأخير مع إيران، يحاول أوباما تطبيق استراتيجية الاحتواء إزاء طهران بوسائل الضغط الدبلوماسي، بيد أن الخشية قائمة من تحول الصفقة التوافقية إلى شراكة إقليمية كاملة على حساب المصالح العربية بضغط من اللوبي الإيراني القوي في الإدارة الأميركية.

من الحجج التي يستند إليها هذا اللوبي الحاجة إلى إيران قوية ومتماسكة في مواجهة «التطرف السُني» وإطفاء حرائق الحروب الأميركية في المنطقة وأزمات «الربيع العربي». ومن هنا تظهر حاجة العرب إلى بلورة استراتيجية ناجعة لسد الثغرة المتولدة عن السياسات الأميركية الجديدة بما تعنيه من احتواء مغاير من حيث الخلفيات والآليات للخطر الإيراني الذي أصبح في قلب المنطقة ومحور أزماتها وصراعاتها.

د. السيد ولد أباه

الاتحاد الظبيانية