متغيرات جيواقتصادية: نفط شرق المتوسط والأمن البحري الإقليمي

متغيرات جيواقتصادية: نفط شرق المتوسط والأمن البحري الإقليمي

نفط المتوسط  داخلية

لا يعد النفط أحد مؤشرات قياس قوة الدول اقتصادياً فقط، بل إنه أصبح سبباً مباشراً لإثارة العديد من النزاعات الإقليمية والدولية في المناطق التي تزخر بثروات نفطية. وفي هذا الصدد، أضحت منطقة شرق البحر المتوسط محط اهتمام إقليمي وعالمي في مجال الطاقة بعد الاكتشافات الملفتة للنظر للموارد النفطية بها، مما جعل هذه المنطقة عاملاً رئيساً في المشهد الجيواستراتيجي.

ومع وجود عدد كبير من الدول التي لها مصالح في شرق المتوسط، يمكن أن يكون قطاع الطاقة بها نقطة ساخنة للصراع؛ فهناك خلاف بين لبنان وإسرائيل حول حدودهما البحرية، وكذلك هي الحال أيضاً بالنسبة للشطرين اليوناني والتركي من قبرص.

في هذا الإطار أعد برنامج السياسة الأمنية والخارجية التابع لـ”صندوق مارشال الألماني” بواشنطن، دراسة تحت عنوان: “اكتشافات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.. الآثار المترتبة على الأمن البحري الإقليمي”، حاول من خلالها الكاتبان “سارة فوجلر Sarah Vogler” المختصة في الدراسات الاستراتيجية بمركز التحليل البحري بواشنطن (CNA)، و”إريك تومبسون Eric Thompson” نائب رئيس مركز (CNA)، إلقاء الضوء على الاكتشافات البترولية الجديدة في شرق البحر المتوسط، وأثر هذه الاكتشافات على المستقبل الاقتصادي والجيوسياسي لدول هذه المنطقة، وعلى احتمالات تأجيج النزاعات الحدودية والاقليمية فيما بينها.

الصراع بين إسرائيل ولبنان

تطرقت الدراسة في هذا الصدد إلى أهمية الاكتشافات النفطية في شرق البحر المتوسط لكل من إسرائيل ولبنان، والصراع بين الدولتين، كالتالي:ـ

1- إسرائيل:

في ضوء اكتشاف موارد نفطية خارجية لإسرائيل خلال العقد الأخير، وفي ظل اعتماد تل أبيب في الماضي على الواردات النفطية المكلفة وغير المستقرة والملوثة للبيئة كالفحم والغاز الطبيعي، فقد وضعت الحكومة الإسرائيلية هدف توفير موارد محلية نفطية آمنة كأولوية أولى لها، وأن تصبح مُصدراً للنفط للدول المجاورة “مصر والأردن”، حيث تعتبر الاستقرار السياسي لهذه الدول ضرورة لأمنها القومي، خاصةً في ظل تواجد جماعات مسلحة على حدودها في الجولان وجنوب لبنان.

وأشارت الدراسة إلى توقيع الشركتين الإسرائيليتين “نوبل وديلك” الرائدتين في مجال التنقيب عن الغاز الطبيعي بالخارج، على اتفاقات لتصدير الغاز لعدد من الشركات في مصر والأردن والأراضي الفسليطينية بمبالغ مالية كبيرة، معتبرةً أن تنفيذ هذه الاتفاقات يتوقف على عدة عوامل منها حل النزاع القانوني الخاص بوقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل.

وألمح الكاتبان إلى التحديات التي تواجه إسرائيل فيما يتعلق بعدم اكتمال ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة مع لبنان وفلسطين، وذلك في ظل التهديد الذي يمثله “حزب الله” على البنية الأساسية للطاقة على مساحة 330 ميل مربع في المناطق الغنية بالمصادر الهيدروكربونية، وكذلك رفض “حركة حماس” مهمة التنقيب عن النفط بساحل قطاع غزة، مشيرين إلى الاستراتيجية الإسرائيلية لتطوير قواتها البحرية وزيادة إنفاقها البحري، ومنها شراء 3 سفن بحرية دورية وتجهيز معدات 5 زوارق صواريخ”، بهدف حماية السواحل وتعزيز مناطقها الاقتصادية الخالصة واستكمال بنيتها التحتية البحرية ومنع تسلل الأسلحة لحزب الله وفرض الحصار على قطاع غزة.

2- لبنان:

أكدت الدراسة أنه بالرغم من الإعلان الحكومي اللبناني عن اكتشاف كميات كبيرة من الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخاصة بها، والتي يمكن أن تعزز من الكميات المعروضة من الطاقة، بيد أن عدم الاستقرار السياسي بالبلاد وقصور لوائح الاستثمار، والصراع في سوريا، قد ألقى بتبعاته على قدرة الدولة لجذب الاستثمارات اللازمة للتنقيب والاستكشاف، ودفعها لتأجيل إصدار تراخيص التنقيب، وهو ما أثَّر على رغبة الشركات العالمية للاستثمار في هذا المجال.

وأوضح الكاتبان أن النزاع الإسرائيلي – اللبناني حول المناطق الاقتصادية الخالصة، يُصَّعب من مهام الحكومة اللبنانية ويزيد من خطر توسيع قدرات البحرية اللبنانية، مشيرين إلى عدم وجود أُفق لحوار دبلوماسي ثنائي بينهما حول نزاعهما البحري بسبب غياب اتفاقية سلام بين الدولتين، كما أن وقوع حادث حدودي عابر بينهما يمكن أن يهدد بتوسيع الصراع بينهما مثلما حدث في حرب لبنان 2006.

واعتبر الكاتبان أن وجود ثروات هيدروكربونية بالقرب من منطقة النزاع البحري، قد دفع الحكومتان في بيروت وتل أبيب إلى إمكانية استخدام قواتهما المسلحة لحماية هذه الموارد. وفي ظل توسيع الجانبين لقدراتهما البحرية واستقلال البحرية اللبنانية عن قوات اليونيفيل الأممية وغياب تراخيص تسمح بالاستكشاف في هذه المنطقة النزاعية، فإنه من المرجح أن تحدث مواجهات بين البحرية الإسرائيلية ونظيرتها اللبنانية، ويمكن أن تبدأ هذه الهجمات من قِبل قوات “حزب الله”.

الخلافات بين قبرص وتركيا

أكدت الدراسة أنه بالرغم من اكتشاف كميات من الغاز الطبيعي في المناطق الاقتصادية الخالصة للجمهورية القبرصية والتي تقدر بنحو 3- 5 تريليون قدم مكعب، وإمكانية اكتشاف الغاز في غضون عقد من الزمن، والذي سيدعم مستقبل قبرص وتعافيها الاقتصادي، بيد أن تركيا وجمهورية شمال قبرص التركيةTRNC  يحدان من سلطة الحكومة القبرصية لاتخاذ قرارات اكتشاف وتنمية المصادر النفطية الموجودة بالمناطق الاقتصادية الخالصة، حيث تصر تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية على استفادة القبارصة الأتراك من هذه المصادر.

وأوضح الكاتبان أن المواجهات التي اندلعت منذ عام 2011 بين تركيا وقبرص نتيجة الاكتشافات الهيدروكربونية بالساحل الجنوبي للجزيرة القبرصية، وما ترتب عليها من إعلان وقف المحادثات الهادفة إلى تسوية النزاع حول الجزيرة القبرصية وكذلك وقف المحادثات بشأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، لم تؤدي فقط لحوادث خطيرة في البحر حتى الآن بين الجانبين، وإنما ترتب عليها كذلك إعادة تأكيد الجانب القبرصي لسلطته على تنمية المناطق الاقتصادية الخالصة المتعلقة به، ومنح حقوق التنقيب لعدد من شركات الطاقة العالمية، وهو ما يُنذر بوقوع مزيد من الحوادث البحرية، كما أدى ذلك إلى توسيع العلاقات القبرصية الأمنية مع كل من إسرائيل ومصر واليونان، والتخطيط القبرصي لتوسيع وحدة الحراسة البحرية لها.

أخطار على المنطقة

أكد الكاتبان أنه على الرغم من أن تطوير وحماية دول شرق المتوسط لمصالحها النفطية قد زاد من آمال شعوب هذه البلدان، فإنه قد يؤدي إلى تفاعلات بحرية غير آمنة، حيث من الممكن أن يحدث هجوم إرهابي أو مسلح على مؤسسات الطاقة البحرية، وما يترتب على ذلك من أعمال انتقامية.

كما أن التوترات الجيوسياسية وتاريخ الصراع المسلح بهذه المنطقة وتزايد القوات البحرية يُسهل من إمكانية حدوث مواجهة بحرية، وهو ما يجعل إدارة الصراع يمثل أولوية لكل من دول شرق المتوسط والمجتمع الدولي كافة.

الأطراف الثالث: روسيا والولايات المتحدة وأوروبا

توضح الدراسة في هذا الجزء تأثير اكتشافات الطاقة في شرق البحر المتوسط على مصالح كل من روسيا والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وذلك كالتالي:

1- روسيا:

أكد الكاتبان على قوة العلاقات الروسية مع كل من إسرائيل وقبرص، حيث تعد موسكو الداعم الأكبر لإسرائيل من النفط الخام، كما تُقدر أصول الشركات والأفراد الروسيين في قبرص بنحو 31 مليار دولار عام 2013.

ويُضاف إلى ذلك القرض الروسي لقبرص، والذي أُعيد هيكلته مؤخراً والمقدر بحوالي 3,3 مليار دولار، وتوقيع شركة غازبروم الروسية في فبراير 2013 على اتفاق لمدة 20 عاماً لشراء الغاز الطبيعي المُسال من حقلي “تمار وداليت” الإسرائيليين، وإبرام شركة “سيوز نفط غاز” الروسية اتفاق تنمية مشترك مع نظام بشار الأسد لاكتشاف مصادر وتأسيس مشروعات تنمية نفطية في المناطق الاقتصادية السورية الخالصة لمدة 25 عاماً بقيمة تبلغ نحو 90 مليون دولار.

ورأى الكاتبان أن ثمة صعوبة لوجود تأثير ملموس للمصالح الروسية فيما يتعلق بالمصادر النفطية في هذه المنطقة، لأن الصراع السوري منع تطوير الموارد النفطية السورية الخارجية، إضافة إلى عدم امتلاك الشركات الروسية تراخيص اكتشاف وإنتاج موارد قبرصية خارجية، ناهيك عن القيود التي فرضتها العقوبات الخاصة بالاتحاد الأوروبي على موسكو. ومع ذلك، فإن روسيا أسست لوجود بحري دائم لها في شرق المتوسط، إذ يوجد لها 16 سفينة و3 مروحيات بحرية وحاملة طائرات.

2- الولايات المتحدة:

أكد الكاتبان على دور شركات البترول الأمريكية – لاسيما “نوبل للطاقة” – في اكتشاف وإنتاج المصادر الهيدروكربونية في شرق المتوسط، وأشارا إلى المصلحة الأمريكية لتحقيق أمن الطاقة في هذه المنطقة، وكذلك أمن البلدان التي تحظى بعلاقة وثيقة معها (إسرائيل والأردن ومصر)، خاصةً في ظل انتقال الصراع إلى سوريا، وتدفق اللاجئين وأنشطة الجماعات الأرهابية.

كما تشجع واشنطن على التعاون الإسرائيلي – الفلسطيني في مجال النفط، بما يُمكَّن من دعم الجهود المستقبلية لإحياء عملية السلام الشرق أوسطية، وكذلك تشجيع خطط تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر والأردن، والتي تهدف لدعم العلاقات الثنائية بين هذه الدول.

كذلك لعبت الولايات المتحدة دوراً في إحياء المفاوضات بين قادة اليونان القبرصيين والجماعات التركية القبرصية بهدف إيجاد تسوية شاملة لمشكلة انقسام الجزيرة القبرصية، حيث يأمل المسئولون الأمريكيون بأن توفر الطاقة حافزاً قوياً لإجراء تقدم في هذه المحادثات بين الجانبين، وأن تسهم في تحقيق المصالحة بين إسرائيل وتركيا. هذا بالاضافة إلى الانتباه الأمريكي لخطورة التواجد الروسي في شرق المتوسط، ودعمها للنظام السوري.

وطبقاً لما أوردته الدراسة، فإن إنتاج واكتشاف مصادر نفط في شرق المتوسط وتوسع الأنشطة البحرية الإسرائيلية في هذه المنطقة، يعني أن ثمة أعداءً إضافيين لإسرائيل، سواء كنتيجة للصراع مع حزب الله، أو انتقام القوات السورية من هجمات إسرائيلية جوية مستقبلية في سوريا، أو تصعيد غير متوقع مع القوات البحرية التركية، وهو ما سيدفع القوات الأمريكية  الملتزمة بالدفاع عن إسرائيل إلى أن تجد نفسها بالقرب من هذه النقاط المشتعلة أو أن تكون هدفاً للهجوم غير المتعمد.

ومن ثم، اعتبر الكاتبان أن التنافس على مصادر الطاقة في شرق المتوسط يُعقد من العلاقات الأمريكية مع تركيا، أو من جهودها للمصالحة الإسرائيلية – التركية والتعاون الأمني بينهما.

3- الاتحاد الأوروبي:

يرتبط الاتحاد الأوروبي بمنطقة شرق المتوسط لعدة أسباب، منها اشتراك كل من اليونان وقبرص في عضويته، وكون تركيا عضو مرشح للانضمام إليه. كما ترتبط سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر باتفاقات معه، بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يعد فاعلاً أساسياً في عدد من المبادرات متعددة الأطراف بالمنطقة، فهو أحد أعضاء اللجنة الرباعية الداعمة لعملية السلام في الشرق الأوسط.

وأوضح الكاتبان أنه على الرغم من أن تنمية مصادر الغاز في شرق المتوسط، يمكن أن يتيح فرصاً للتوسع الاقتصادي لقبرص واليونان، بيد أن عدم التيقن من الاستثمار في البنية الأساسية الضرورية (خطوط الأنابيب أو الغاز الطبيعي المُسال)، وتزايد إنتاج الغاز في أماكن أخرى، والتقلبات في أسواق الطاقة العالمية، يقلل من احتمالية أن يوفر شرق المتوسط الغاز لأوروبا في المستقبل القريب.

كما أن التهديدات الأمنية تؤثر على الاتحاد الأوروبي أيضاً، حيث تسببت الغارات التركية على المناطق الاقتصادية الخالصة القبرصية في إعاقة المحادثات التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي. ومن ثم فإن المصلحة المباشرة للاتحاد الأوروبي تكمن في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي لمنطقة شرق المتوسط التي تجاورها مباشرة، بشكل يحقق الاستفادة للجميع، ويحول دون حدوث توترات.

وفي ختام الدراسة، أكد الكاتبان على تأثير اكتشافات الطاقة في شرق المتوسط على أمن الطاقة في كل من إسرائيل وقبرص، فضلاً عن إمكانية أن تعزز هذه الاكتشافات النفطية من جهود حل الصراع في الشرق الأوسط،، نظراً لتأثيراتها على أمن الطاقة في كل من مصر والأردن من خلال الواردات النفطية المحتملة من إسرائيل، والتي من شأنها أن تعزز استقرار الأنظمة الحاكمة في هاتين الدولتين وتقوية اقتصاداتها.

 * عرض مُوجز لدراسة نشرت عنوان: “اكتشافات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.. الآثار المترتبة على الأمن البحري الإقليمي”، والصادرة في مارس 2015 عن “صندوق مارشال الألماني” GMF وهو مؤسسة بحثية أمريكية مستقلة مقرها واشنطن تأسست عام 1972 كهدية من الحكومة الألمانية، وتهدف إلى تعزيز التعاون الأطلسي لمواجهة التحديات الإقليمية والعالمية.

المصدر:

Sarah Vogler and Eric V. Thompson, Gas Discoveries in the Eastern Mediterranean: Implications for Regional Maritime Security

(Washington: The German Marshall Fund of the United States, March 2015)

عداد: محمد أحمد عبدالنبي

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة