كما أثبتت رحلتي الأخيرة إلى سورية، الحروب قد تصبح أكثر خطورة بينما تنتهي

كما أثبتت رحلتي الأخيرة إلى سورية، الحروب قد تصبح أكثر خطورة بينما تنتهي

من السهل أن يعتقد المرء بأن الحرب قد انتهت -إلى أن يسمع صفير قذائف المورتر وهي تطير من الغوطة فوق دمشق لتحط في منطقة باب توما المسيحية القديمة، بمطاعمها ومحلات البقالة فيها. ستة قتلى. أو عندما يأتي ضابط من الجيش ليقول لك بشكل عرَضي تماماً: “هل تتذكر النقيب وليد؟ لقد استشهد قبل أربعة أيام”. وقد شعرت دائماً بعدم الارتياح إزاء كلمة “استشهد” -عن أي جندي، أو مدني، في كل مكان.
لكن هذه هي الطريقة التي أشار بها الرجل إلى النقيب وليد جبّور خليل. كان مراسلاً حربياً مع الجيش السوري. كان يحمل دفتر ملاحظات، وبندقية. وكان يمارس عملاً خطيراً.
كنتُ أعرفه، ولو ليس كثيراً. في العام الماضي كان يغطي وقائع الحرب على جبال القلمون عالياً فوق لبنان؛ رجل قصير، بهيج، مشورَب، والذي اعتقدتُ أنه أكثر سعادة بكونه مراسلاً عسكرياً رسمياً من كونه رجل مشاة. كان يسجل كيف تستلقي جثث مقاتلي جبهة النصرة على حافة جرف استولى عليه الجيش وحلفاؤه من حزب الله تواً.
كان للمراسلين والمصورين الحربيين الرسميين الروس والألمان متوسط عمر متوقع قصير في الحرب العالمية الثانية -ورقم أعلى قليلاً عند نظرائهم في معسكر “الحلفاء”- وكانوا يجربون حظوظهم في المعارك، الوحشية والعادلة، إلى جانب المعتدين أو المحرِّرين. وكان وليد جبّور، مثل زملائه، يصنع سجلاً لحرب الجيش السوري، بما هي صراع قاسٍ لا يرحم مثل أي تاريخ قريب للشرق الأوسط. وقد أردتهُ قتيلاً رصاصة قناص -ربما رجل من جبهة النصرة- في معركة حرستا في شرق دمشق. كان يرتدي سترة واقية من الرصاص. لكن الرصاصة -المصوبة بعناية كبيرة وفق زملائه- ضربته مباشرة تحت الجانب الأدنى الأيسر من الدرع الواقي.
في واحدة من تلك المفارقات المريعة التي تقذف بها الحرب بلا توقف، كان جبور وزملاؤه المصورون يصنعون فيلماً وثائقياً قبل أسبوعين عن عملهم نفسه. وبذلك، كان مصرعه، بينما يتداعى من خلال مدخل، مسجلاً بكاميراً واحد من أصدقائه المصورين. كان مسيحياً -كيف نحتاج إلى ملاحظة هذه الشؤون الصغيرة الآن، في حرب وضعت ملصقات طائفية ملونة على كل مشهد كل خريطة سورية. كان بعمر 38 عاماً، متزوجاً، وله ابن صغير. وقد حضر الجنازة قائده، الجنرال الدمشقي -مسلم، وكان هذا أول قداس يحضره في كنسية مسيحية في حياته. ألقى كلمة بجوار النعش، كما قال، مندهشاً من الموسيقى والأزياء غير العادية التي يرتديها الكهنة.
غزت قوة الإنترنت كل حرب الآن، ولم يكن جبور فقط هو الذي صدم مصرعه كل أسرة. فعادة ما يتلقى جنود الحكومة السورية ملاحظة عامة أكثر من الضحايا المدنيين على أي من الجانبين -أرقام ضحايا الحرب السورية، في مكان ما بين 240.000 و450.000 قتيل، وصلت الآن أبعاداً خيالية من عدم الاعتمادية. فمن كل ما نعرفه، ربما تكون حتى أقرب إلى نصف مليون، ولو أن ذلك غير مرجح.
لكن كل سوري يعرف -وشاهد مرة ومرة أخرى- تلك الصور المروعة المتحركة لمصرع فادي زيدان -19 عاماً- التلميذ العسكري في ميليشيا “الدفاع الوطني”. كان قد انضم إلى الميليشيا في العام 2015، ليأسره مقاتلو “داعش” بعد أربعة أيام فقط من تطوعه في تدمر. وهناك تم تسجيل مصيره المريع إلى الأبد -الذي لم يُشاهد إلى حد كبير في الغرب، بطبيعة الحال، وإنما شوهد في سورية بكل التبجيل (أو الكراهية، اعتماداً على وجهة نظر الرائي) الذي يمكن أن يسبغه البشر على لوحة دينية.
لأنه كان علَوياً -أو “نصيرياً”، كما سماه جلادُه في الفيلم- قرر “داعش” أنه زنديق وسائق دبابة أيضاً (وهو أمر مستحيل، بما أنه ارتدى الزي العسكري قبل أربعة أيام فحسب)، ولذلك يحكم عليه شخص مرعب متسربل بالبياض خلف الشاب الصغير بالقتل “كما تفعل بشعبنا”. وبعد ذلك، يظهر زيدان مرتدياً بذلة برتقالية من نوع العار الذي يمثله غوانتانامو و”داعش”، وقدماه مقيدتان بالسلاسل، بينما يعلن الرجل بالأبيض بأنه سيداس بدبابة سورية مغنومة.
وتعرض الصورة التالية زيدان وهو يقف، ربما على بعد 20 ياردة، أمام دبابة مزمجرة تنطلق قدُماً بكامل عزمها. ويستدير بيأس محاولاً الابتعاد إلى اليمن بنصف قفزة في سلاسله ليتجنب الموت، لكن جانب الدبابة الأيسر يلتقطه. وقد رأى السوريون اللقطات غير محررة. وينبغي إعفاء القراء من مشاهدتها. وكان كل ما تبقى في اللقطة الأخيرة من الفيلم هو كتلة مسحوقة برتقالية اللون من القماش على الطريق خلف الدبابة، ومجموعة من أعضاء “داعش” يصرخون: “الله أكبر!”، وقد فعل الصرب الشيء نفسه مع مسلمي وادي درينا. وكذلك أيضاً عاقب الجنرال الأوزبكي، دستم، أعداءه في شمال أفغانستان.
ولكن، كيف ينبغي للمرء أن يتأمل هذه البربرية؟ وأن يمضي وقد تقبل المسألة، بالطريقة السهلة غير المكترثة كما قد نفعل نحن في الغرب، بينما السوريون يُقصفون ليتحولوا إلى أشلاء، ويُضربون بالغاز ويجوَّعون بالحصارات؟ كنتُ في قرية من الحجارة السوداء شمال غرب حماة في الأسبوع الماضي -وهي مدمَّرة، بطبيعة الحال- عندما قال لي رائد في الجيش السوري، بلا تكلف: “ابن عمي استشهد هنا قبل ثلاثة أعوام”.
ببطء، تظهر المزيد من الصور. في قرية “العربية” الصغيرة في نفس المنطقة الريفية، مات نحو 350 من الرجال في الزي العسكري -إما في الجيش السوري أو مجموعات “الدفاع الوطني”. وسوف تتضح فداحة الرقم فقط عندما تعرف أن عدد كامل سكان القرية من الرجال والنساء والأطفال يبلغ بالكاد 8.000 نسمة.
ما هي الكلفة الحقيقية لهذه الحرب في صفوف جيش بشار الأسد؟ أعتقد أنها تجاوزت 70.000 قتيل قبل بضعة أشهر. ربما ثمانون ألفاً. وما هي المكافأة التي تتوقعها عائلاتهم مقابل هذه التضحية؟ سوف تكون هناك ديون ينبغي دفعها.
مع ذلك، يجب أن أقول أنني لم أرَ، بعد جولة بطول 2.000 ميل في الكثير من أنحاء سورية -ولأول مرة في الأشهر الأخيرة- حتى عضواً واحداً من حزب الله أو من الحرس الثوري الإيراني. وبما أن قادة الغرب يعتقدون بأن الإيرانيين يُغرقون سورية، فإن هذا الأمر مثير للاهتمام.
بوسعي أن أتنقل هنا حيث أشاء -بعيداً، بطبيعة الحال، عن المناطق الصغيرة التي ما يزال يسيطر عليها “داعش” -وعادة ما أكون سريعاً في ملاحظة مقاتل من حزب الله عندما أراه (لأنهم يأتون من لبنان، حيث أعيش وأعرف البعض منهم). لكن هناك الكثير من الروس الذين يذرعون الطرق الصحراوية، بل ويسيِّرون القوافل على طريق الإمداد الرئيسي من حمص إلى حلب.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أنسى سرب قذائف الهاون التي انصبت على حي “باب توما” قبل بضعة أيام. وبعد المرور -حرفياً- عبر 100 نقطة تفتيش عسكرية، أجد الجنود السوريين ممتلئين بقدر كبير قليلاً من الثقة الآن، ومستعدين جداً لتصديق أن هذا كله بات يأتي تقريباً إلى نهاية. وأفكر بأن الحروب يمكن أن تكون في أكثر أطوارها خطورة عندما تكون نهايتها وشيكة.

روبرت فيسك

صحيفة الغد