تجديد الثقافة السياسية كمدخل للبناء الديمقراطي في دول الربيع العربي

تجديد الثقافة السياسية كمدخل للبناء الديمقراطي في دول الربيع العربي

201542182214950734_19

ملخص:.
شكَّلت الثورات العربية مرحلة مفصلية في التاريخ السياسي لمجموعة من الدول العربية، حيث كان لها وقع التأثير على أنماط الثقافات السياسية السلطوية القائمة، وفتحت الباب لإمكانية نشوء ثقافة سياسية جديدة كسرت بعض البراديغمات الثابتة في إطار علاقة المواطن بالسلطة، والتي كانت مبنية على ثقافة الخوف والخضوع والخنوع.

وعليه، فتشكل ثقافة سياسية جديدة يعد مدخلًا أساسيًّا للبناء الديمقراطي في دول الربيع العربي، لأنها تهتم أساسًا بالبُعد القِيَمي للديمقراطية عبر استثمار قنوات التنشئة الاجتماعية والسياسية، وليس اختزال البناء الديمقراطي في سياقه المؤسساتي/الإجرائي فقط، فعمليًّا لا يمكن أن تنجح دول الربيع العربي في كسب رهان إحداث قطيعة مع الثقافة السياسية السلطوية الموروثة عن الأنظمة البائدة، دون التأسيس لثقافة سياسية جديدة قائمة على أساس غرس قيم جديدة تؤطِّر العلاقة بين المواطن العربي والسلطة السياسية، قوامها الحرية وحفظ الكرامة وضمان العيش الكريم، وذلك من خلال الاستثمار في بعض المنطلقات المحورية لتثبيت أساسيات تجديد الثقافة السياسية، وهي استنهاض الوعي السياسي وغرس قيم الديمقراطية من خلال قنوات التنشئة السياسية وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين، وتكريس دولة الحق والقانون، ومأسسة السلطة، وغرس قيم الثقافة الديمقراطية على مستوى المجتمع.

مقدمة

تُعرَّف الثقافة السياسية بأنها “مجموعة القيم المستقرة التي تتعلق بنظرة المواطن إلى السلطة، والتي تُعَدُّ مسؤولة إلى حدٍّ بعيد عن درجة شرعية النظام القائم، فالثقافة السياسية تؤثر في علاقة المواطن بالسلطة من حيث تحديد الأدوار والأنشطة المتوقعة من السلطة، ومن حيث طبيعة الواجبات التي يتعين على المواطن القيام بها، كما أن الثقافة السياسية تتضمن التفاصيل الخاصة بهوية الفرد والجماعة(1).

وفي هذا السياق التعريفي يذهب الكثير من الدراسات والأبحاث في التأكيد على ذلك الارتباط المفصلي بين الثقافة السياسية والديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية ليست تعبيرًا عن حقيقة بنائية ومؤسسية فقط ولكنها أيضًا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجِّع على الممارسة الديمقراطية الفاعلة من جانب الحكام والمحكومين، وقد أكدت نظريات الديمقراطية أن غياب هذه المعتقدات والاتجاهات لدى القادة والجماهير يجعل النظام الديمقراطي في مهب الريح؛ ومن ثمَّ تقتضي الديمقراطية -كنظام سياسي- ثقافة ذات مضمون محدد، ويعبَّر عنها باسم الثقافة السياسية الديمقراطية(2).

وفي ظل ربيع الشعوب برزت إشكالية البناء الديمقراطي إلى حدٍّ كبير مجسَّدة في غياب الثقافة السياسية الديمقراطية، على اعتبار أن البناء الديمقراطي لا يتجسد فقط فيما هو مرتبط بالجانب المؤسساتي والإجرائي، وإنما أيضًا بالبناء القيمي للديمقراطية؛ حيث برزت في الأفق استعصاءات كبيرة في تغيير نمط الثقافة السياسية السائدة؛ مما يصعِّب مهام الانتقال والتحول الديمقراطيين في هذه الدول، بفعل استمرارية الثقافة السلطوية ببُعديها السياسي والمجتمعي، ومع هذه المعطيات القائمة تبرز الحاجة إلى ضرورة الاستثمار في تغيير الثقافة السياسية السائدة كمدخل أساسي للبناء الديمقراطي الجيد، وهذا ما سنعمل على تبيانه والتفصيل فيه من خلال العناصر التالية:

أولًا: استثمار معطى تأثير الربيع العربي على الثقافة السياسية في حد ذاتها

إن تفسير العجز الديمقراطي من منظور الثقافة السياسية هو من المداخل الأساسية التي استُخدمت في تحليل ظاهرة رسوخ السلطوية في المجتمعات العربية؛ حيث ركَّز عدد من الدارسين على ربط العجز الديمقراطي العربي بطبيعة “الذهنيات والمسالك التقليدية” السائدة في المجتمعات العربية. وفي هذا الخصوص، تم تحديد مجموعة من المعطيات التاريخية (اللاعقلانية، سيطرة الأعراف التقليدية، الخضوع السلبي، نزعة التوجه نحو الداخل… إلخ) لإبراز أن المجتمعات العربية والإسلامية تنهض على بناء حضاري خاص يختلف كل الاختلاف عن سواها من المجتمعات، وأن بنيتها الفكرية والاجتماعية وتقاليدها السياسية تفتقر إلى أي عناصر أو مقومات تتوافق مع أبسط قواعد الفكرة الديمقراطية، ومن ثم فإن توجهات العرب الثقافية تمثل عائقًا يسدُّ الطريق أمام احتمالات التحول الديمقراطي، ولا أدلَّ على ذلك من قدرتهم على تحمُّل وطأة الاستبداد والانسياق وراء جلَّاديهم، بشكل عفوي، من دون مشاكل تُذكر(3).

ومع الثورات تغيَّرت وتبدَّلت تلك القوالب الثابتة للثقافة السياسية السائدة وحلَّت محلها ثقافة سياسية جديدة شكَّل الفضاء العمومي منطلَقًا لها، وتنهل من قاموس ديمقراطي غير معهود من قبيل حلول شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة ومع تفكيك ثقافة الخوف وتكسير أنماط الخضوع والخنوع، والتحرر من أسيجة وأغلال الاستعباد(4).

وحتى مفهوم “الربيع الديمقراطي” الذي نستعمله للدلالة على الحراك العربي، يعبِّر عن تحيز معرفي للأهداف والقيم النبيلة التي يحملها الربيع لتحقيق قيم العدل والكرامة والحرية، وأيضًا للوقوف على مسافة مع الحمولة الأيديولوجية التي يحملها تعبير “الربيع العربي”. ذلك أن الحراك العربي لم يتخذ في بنيته التأسيسية تمركزًا إثنيًّا أو دينيًّا أو قوميًّا أو عرقيًّا محددًا، بل إن التوصيف السوسيولوجي للميادين يقدم حالة من التنوعية والاختلافية التي وسمت العلاقات بين جميع القوى الشبابية والدينية والسياسية والفكرية والنسائية التي أسهمت في تخليق الوعي الحديث وتوليد نماذجه الفعلية.

الجمهور ولحظة “وعي حديث للمجتمع بذاته”
الربيع الديمقراطي، كما تعكسه اللحظة التأسيسية الكاشفة لحمولته القيمية والسياسية، له تعيُّن عمومي “غير رسمي” تمثله الساحات والميادين التي تفاعلت فيها إرادة الذوات Subjects، وانتهت إلى بروز فاعل جديد هو الجمهور الحامل لـ “وعي حديث بذاته”(5).

ومع الثورات الميدانية يبدأ عهد جديد يتصرف فيه الفرد من الناس العاديين كمواطن له كلمته ورأيه، وله دوره وفعاليته، كمشارك في الثورة على الظلم والطغيان أو في اختيار الحكام. هذا إمكان قد فُتح ولا مرجوع عنه، والأمل أن يُستثمر ولا يُهدر، بحيث يشارك، كل واحد في أعمال البناء والإنماء، على هذا المستوى أو ذاك(6)؛ حيث الثورة الجارية، هي أيضًا وخاصة، ثورة الإنسان العادي الذي طالما كان يحضر بين الحشد وفي الساحات، ولكن كمتلقٍّ يمتثل ويطيع، أو كرقم في قطيع لكي يمارس طقوس التقديس والتعظيم لزعيمه الأوحد أو قائده الملهم، أو بطله المنقِذ والمحرِّر ممن يفكرون ويقررون عنه، أما هو فما كان عليه إلا أن يصدق ويصفق ويهلل(7).

ثانيًا: نحو تكريس “ثقافة التوافق السياسي” في تدبير المرحلة الانتقالية

إن المتتبع لمختلف المخاضات التي تعيشها بلدان الثورات في خضم تبلور سلوكيات وممارسات خارجة عن سياقات التدبير الديمقراطي لمرحلة ما بعد الثورة، يلحظ تبلور حالة من الغليان والتدافعات والتناحرات القائمة بين مختلف الفرقاء السياسيين والتي امتدت في المجتمع، والتي تتجاوز حدود المعقول والحكمة والفطنة، فما هو أكيد أن جُلَّ هذه الصراعات والاختلافات التي تعبِّر عن حالات التعصب الأيديولوجي وأيضًا الديني، وبشكل لا حدود له، يشكِّل عاملًا مغذيًا لانتصار قوى ولوبي الدولة العميقة المضادة للثورة.

فالمطلوب من كل القوى السياسية والمجتمعية الانخراط الإيجابي في إنجاح الاستحقاق الديمقراطي بغضِّ النظر عن هويتها الأيديولوجية والسياسية، على أساس أن تتشكَّل أرضية للحوار الجاد والتفاهم والتوافق على مجموعة من المنطلقات والبناءات والمرجعيات والمبادئ التي من شأنها أن تؤسس لعملية الانتقال الديمقراطي في سياق تحصين مطالب ومكاسب الثورات، التي شكَّل الشباب معصمها وجوهرها.

كما أن الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية بمنطق الأغلبية العددية لا يمكن بمفرده أن يكسب الرهان دون البحث في إيجاد “توليفة جامعة” بينها وبين “تيمة التوافق” التي تستوعب كل التيارات السياسية والمدنية، بغضِّ النظر عن حجم تمثيلها في المجتمع، لأن مرحلة التأسيس للديمقراطية تتطلب الاحتكام إلى احتضان واحتواء واستيعاب كل الآراء التي تخدم العملية الديمقراطية بدل إقصائها وتهميشها.

فثقافة التوافق السياسي قادرة على تذويب الصعاب ومختلف الاختلافات الأيديولوجية والانتماءات السياسية في بوتقة واحدة تخدم بناء الدولة بالدرجة الأولى وتنأى عن مسارات البرغماتية السياسية الضيقة، وبالتالي تفادي تشكُّل نفس سيناريوهات بناءات السلطة البائدة، والخوف الحقيقي الذي أضحى ماثلًا وقائمًا هو العودة إلى رسم نفس إحداثيات وتراسيم السلطوية التي قوضت شوكتها الثورات، خصوصًا في ظل هذا التسابق المحموم نحو الهيمنة والسيطرة على دواليب الدولة باسم شرعية صناديق الاقتراع، وبالتالي فالغيرية واستثمار المجهود السياسي في تكريس مقومات دولة القانون والمؤسسات مطلب مفصلي يفرض نفسه في ظل عسر مخاضات البناء الديمقراطي، وكذلك التعبئة السياسية وتجنيد كل الفاعلين بغضِّ النظر عن هوياتهم السياسية والمدنية الذي يقع في صميم السيرورة الديمقراطية.

ثالثًا: في الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة لتعزيز البناء الديمقراطي الحقيقي

إن للثقافة السياسية تأثيرًا كبيرًا على النظام السياسي بوجه خاص والحياة السياسية بوجه عام؛ إذ تدفع الأفراد والجماعات إما باتجاه الانخراط في النظام السياسي أو تدفعهم باتجاه اللامبالاة والسلبية السياسية، وحسب تقدير (فيربا وألموند)، فإن التوافق بين الثقافة السياسية والبنية السياسية ضروري لتأمين استمرار النظام السياسي، فإذا حصل التفاوت بينهما، يتلكأ النظام ويتعرض حينئذ للزوال، ومع ذلك لا يكون التوافق كاملًا على الدوام لعدم امتلاك الثقافة السياسية التجانس الكامل(8).

ولكل نمط من الثقافة السياسية ما يقابله من البنى السياسية، أو ينمو ويتطور في ظله، ولا يمكن بناء بنية سياسية معينة خارج إطار البناء الثقافي السائد في المجتمع، ومن دون التلاؤم بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، يتعرض النظام السياسي للخطر ويتهدد بالسقوط، والتلاؤم بينهما شرط أساسي للاستقرار السياسي(9).

إن روح الديمقراطية الحقَّة لا تقوم على الأساس المؤسساتي/الإجرائي فقط، فقد تكون الثورات استطاعت أن تقوض مؤسسات ونخب النظم الاستبدادية السابقة إلا أنه يبقى الرهان الحقيقي هو كيفية محق قيم الثقافة السياسية التسلطية التي تغلغلت في جينات العقل السياسي العربي، سواء على مستوى الشعور واللاشعور الذي يحدد أنماط السلوك السياسي السلطوي حيث استطاعت لردح من الزمن أن تحصِّن هذه النظم السياسية التسلطية؛ فالظاهر في هذه المخاضات التي تعيشها دول الربيع الديمقراطي، أن عملية هدم المؤسسات السياسية واستبدال أخرى بها، تعبِّر عن إرادة الشعب، هي عملية يسيرة على خلاف ما إذا كان الأمر يتعلق باستبدال قيم ثقافة سياسية ديمقراطية بقيم ثقافة سياسية استبدادية. هي مسألة بالغة التعقيد، وقد تحتاج إلى وقت بفعل موانع وإكراهات تشكِّل التفكير الجمعي السلطوي ليس فقط في علاقة السلطة بالمواطن وإنما بفعل تمكنها حتى من العلاقات الاجتماعية مما يفرض تحديات كبيرة وعظمى.

والثقافة السياسية الجديدة التي تفترضها استراتيجية الانتقال الديمقراطي هي -باختصار- الثقافة التي تحمل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية (أي: التوتاليتارية)، وتحمل التوافق والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء… إلخ، فتفتح المجال السياسي -بذلك- أمام المشاركة الطبيعية للجميع، وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهومًا مركزيًّا تأسيسيًّا للسياسة والسلطة، وهو أنهما -معًا بحسبها- ملكية عمومية للمجتمع برمته يلتقي معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط ومستحقات السياسة والسلطة على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي(10).

إن كثيرًا من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها بدون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعِرقي المتوافر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة وعلى أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعِرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع في الانكفاء والانحباس في الذات(11).

رابعًا: في ترسيم وتحصين قيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي

إن الترسيم والتحصين الحقيقيين لقيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي يستندان إلى جملة من الموجبات والأساسيات والاشتراطات، أولها: استنهاض الوعي السياسي الديمقراطي الذي يشكِّل منبع التفكير والسلوك الديمقراطيين، وتأتي في مقام ثان التنشئة السياسية من خلال استحضار دورها المحوري في التربية والتأطير وغرس قيم الثقافة الديمقراطية. وفي نفس المنحى تبرز أهمية ومحورية مصالحة المواطن العربي مع السياسة من خلال تعزيز المشاركة السياسية، وما يستتبع ذلك من “مأسسة السلطة”، مع ضرورة تثبيت قيم الثقافة السياسية الديمقراطية مجتمعيًّا.

1- استنهاض الوعي السياسي الديمقراطي
إن الوعي السياسي هو إدراك الفرد لواقع مجتمعه ومحيطه الإقليمي والدولي، ومعرفة طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به، ومعرفة مشكلات العصر المختلفة، وكذلك معرفة القوى الفاعلة والمؤثرة في صناعة القرار وطنيًّا وعالميًّا. والوعي السياسي هو طريق الفرد لمعرفة حقوقه وواجباته في كل الأنظمة الديمقراطية أو الشمولية. والمجتمعات التي تنوي التحول من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي بحاجة إلى منظومة من المعارف السياسية التي تتضمن قيمًا واتجاهات سياسية مختلفة، يستطيع من خلالها الفرد التعرف على الظروف والمشاكل التي تحيط به محليًّا وعالميًّا، ويحدد مكانه وموقفه منها والمساهمة في تغييرها أو تطويرها. ولذلك يحتاج الفرد إلى رؤية سياسية واعية وشاملة بالظروف والأزمات التي تعتري المجتمع(12).

2- الاستثمار في التنشئة السياسية لغرس قيم الثقافة الديمقراطية
إن التنشئة السياسية هي العملية التي يتم من خلالها تشكيل الثقافة السياسية للمجتمع، وتشمل عملية التنشئة السياسية: “كل أنواع التعليم السياسي، الرسمي وغير الرسمي، المخطط وغير المخطط، في كل مرحلة من مراحل حياة الفرد، ويتضمن ذلك مختلف أنواع القيم وأنماط السلوك التي ليس لها علاقة مباشرة بالحياة السياسية ولكنها تؤثر على السلوك السياسي للفرد، مثل اكتساب بعض الاتجاهات الاجتماعية والخصائص الشخصية التي قد يكون لها أثر على سلوك الفرد السياسي”(13)، فالتنشئة السياسية عملية مستمرة ومتجددة، ويكتسب من خلالها الأفراد التوجهات السياسية ونماذج السلوك السياسي Political Orientationsوالمعارف السياسية Political Cognitions التي ترتبط ببيئتهم السياسية(14).

إن الثقافة السياسية للمجتمع هي نتاج لعملية التنشئة السياسية وإن القيم والتوجهات وأنماط السلوك التي تتضمنها هذه الثقافة هي انعكاس لنوعية التنشئة التي يتعرض لها أفراد المجتمع. ويجدر التنويه هنا إلى أن كل النظم السياسية تحاول أن توظف عملية التنشئة السياسية لغرس القيم والتوجهات والأفكار السياسية التي تتفق مع قيم وتوجهات وأفكار السلطات الحاكمة ويتم ذلك عن طريق المؤسسات والقنوات التي تخضع لسيطرة السلطة مثل المؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام، ولكن إلى جانب أسلوب التنشئة الرسمي والمباشر، فإن الفرد يكتسب قيمه وتوجهاته السياسية عن طريق قنوات أخرى قد تتناقض مع قنوات التنشئة الرسمية، مثل الأسرة وغيرها من القنوات التي لا تخضع لسيطرة السلطات بصورة مباشرة(15).

3- تعزيز المشاركة السياسية
إن المشاركة السياسية تزود السلطة الحاكمة بمزيد من الآراء والتصورات التي تسهم في إنضاج القرار وترشيده، وتبقى قناة مناسبة لنقل احتياجات الجماهير للحكام. كما أن الشعور الشعبي بالمشاركة في صنع القرار يجعل تنفيذ الخطط والبرامج أكثر سهولة، وبذلك يتعزز استقرار المجتمع وتتكرس شرعية النظام السياسي ويرتفع مستوى الولاء له، وتتراجع صور استغلال السلطة. وحيث إنه من الصعب قبول مقولة: إن القمع وحده يمكنه وقف التناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمع، وانفجار هذه التناقضات قد يتخذ أشكالًا عنيفة تكون نتائجها مدمرة، لذلك فإن تأطير هذه التناقضات وفتح قنوات المشاركة أمامها، وإشاعة قيم التسامح مع الرأي الآخر تحفظ المجتمع من التناقضات العنيفة. وبذلك تسهم المشاركة السياسية في تنمية الشخصية الديمقراطية على المستويين الفردي والجماعي. وحتى تكون المشاركة السياسية فاعلة لابد أن تكون قنواتها مفتوحة لمختلف التوجهات السياسية في المجتمع، والانتماءات الدينية والقومية، وقادرة على استيعاب الشرائح الاجتماعية الجديدة ومطالبها المتصاعدة في المشاركة في الحكم، على أن تجد صداها لدى النظام السياسي بالاستجابة لمطالب واحتياجات الشعوب(16).

إن بناء الديمقراطية لا يتم إلا بالإنسان ولصالح الإنسان الذي يتخذ في إطار الدولة صفة المواطن، ولذلك فإن هذا الأخير لا يمكن أن يكون معزولًا عما يجري حوله وغائبًا عمَّا يُدار باسمه ولأجله، وإنما لابد أن يكون مشاركًا في الحياة السياسية، والحد الأدنى لهذه المشاركة هو تتبُّع طرق إدارة الشأن العام والمقارنة بين البرامج التي تتقدم بها الأحزاب السياسية والإدلاء بالصوت في الانتخابات العامة، ولكي تكون المشاركة إيجابية ولو في حدها الأدنى المذكور، يجب أن يكون المواطن مدركًا للقواعد التي ينبني عليها المجتمع الديمقراطي ومتشبعًا في ذهنيته وثقافته وسلوكه بالقيم الديمقراطية. وإذا كانت تلك هي الصفات الضرورية التي ينبغي أن يتحلى بها المواطن العادي، فما بالك بالنخب التي تعمل من أجل الوصول إلى مراكز القرار في الجماعة أو الدولة والمساهمة الفعلية في تدبير الشأن العام، وهنا يتضح مدلول المقولة المعروفة، وهي: لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، لأن الديمقراطية لا تصبح أمرًا واقعًا في الحياة العامة بوجود دستور وقوانين وأحزاب وصحافة وانتخابات ومؤسسات، وإنما تتوقف بالإضافة إلى كل ذلك على وجود المواطن الديمقراطي داخل أسرته وفي محيطه الاجتماعي والمهني والسياسي، أي أن تكون الثقافة الديمقراطية شائعة بين المواطنين العاديين والمناضلين السياسيين والنقابيين والفاعلين الجمعويين والكتَّاب والمثقفين والصحافيين والموظفين والمسؤولين الإداريين والقادة السياسيين والماسكين بزمام السلطة ومواقع القرار(17).

4- تكريس “مأسسة السلطة”
إن المنطلق في مأسسة السلطة هو مأسسة العملية السياسية التي تعني احتواء عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية ضمن إطار المؤسسات السياسية؛ مما يسهِّل على النظام السياسي اكتساب قدر يُعتدُّ به من الشرعية السياسية؛ ذلك أن التنظيم المؤسس للعملية السياسية بقدر ما يمكِّن المبادئ والقيم الديمقراطية للممارسة السياسية فإنه يفيد في تحقيقه خصائص عديدة، منها: قانونية العملية السياسية إذا تمكنت المؤسسات من أن تنظم عملها شبكة معقدة ومحكمة من الضوابط والتوازنات، وتعمل وفقًا لأحكام محددة وأسس للتوظيف والتمويل وتقويم الأداء، وتخضع لمقاييس معروفة وعلنية للنجاح والفشل وضوابط للمراقبة والمحاسبة وقواعد للتنسيق بينها، وعقلانية العملية السياسية؛ ذلك أن المؤسسات والمناصب تسمح في إطارها بالعمل على أساس الكفاءة المهنية، مما ينعكس مباشرة على واجباتها تجاه المواطنين. علاوة على عمومية العملية السياسية حيث يُلغي العمل المؤسسي الاعتبارات الشخصية ويعتمد اعتبارات المواطنة ويركز عليها. وأخيرًا استقرار العملية السياسية لأن العمل في المؤسسات لا يتأثر بتغير الأفراد(18).

5- دمقرطة المجتمع
إن علاقات التسلط والرضوخ المنتشرة في الحياة الاجتماعية العربية وروح الإذعان والاتكالية تنعكس في نهاية المطاف على الحياة السياسية ذاتها فيصبح من الطبيعي للإنسان العربي أن يتقبل أي نظام تسلطي، حيث إن هذا هو ما تعوَّد عليه طيلة حياته، ويصبح عنده إحساس بالعجز وعدم القدرة على المشاركة في اتخاذ القرارات، حيث إنه قد تعوَّد على وجود من يتخذ له القرارات في جميع جوانب حياته الأخرى ولذا فإنه يتقبل وجود من يتخذ له القرارات بالنيابة عنه في المجال السياسي. تعتبر الديمقراطية أنها حق المواطن الفرد في المشاركة في اتخاذ القرارات العامة ولكن غياب الإدراك بهذا الحق لدى المواطن العربي وشعوره بالعجز عن المشاركة في اتخاذ القرارات في الأمور التي تخصه، يجعله يقبل بوجود أي نظام تسلطي على أنه أمر يتفق مع طبيعة الأشياء في مجتمعه، بغضِّ النظر عن مشاعره تجاه هذا النظام، وعادة ما تكون مشاعر سلبية مشوبة بالكراهية وعدم القبول لهذا النظام، يصاحبها إحساس بالعجز عن فعل أي شئ تجاه النظام أو تغيير سياساته(19).

إن أي نضال يرمي إلى إقرار ديمقراطية حقيقية لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا كان مبنيًّا على نظرة شمولية للديمقراطية لا تقتصر على الجانب الذي يعني الدولة وإنما تشمل أيضًا المجتمع بأفراده وهيئاته. وكلما انتشرت الثقافة الديمقراطية داخل المجتمع، وترسَّخ السلوك الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني عمومًا، تعبَّدت الطريق أكثر نحو الديمقراطية التي لا يعتريها الخلل من أي جانب، لأن الدولة والمجتمع كل منهما يصب في الآخر، ولا يمكن للدولة إلا أن تعكس مستوى تطور المجتمع في شموليته وليس في أجزاء محدودة منه(20).

خاتمة

إن المضيَّ قُدمًا في إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي وترسيخ البناء الديمقراطي الجيد لا يمكن أن يكتب لهما النجاح دون الاستثمار في الثقافة السياسية، على اعتبار أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في بعدها المؤسساتي/الإجرائي، فصيرورة الدمقرطة تستوجب وتسترعي استحضار بُعدها القيمي/الثقافي، الذي يشكِّل اللبنة/الأساس في تحصين العملية الديمقراطية خصوصًا إذا تولَّد هناك اقتناع وإيمان راسخان لدى الصفوة/النخبة والمجتمع في التوافق حول ضرورة القطع مع مجمل الخلافات والصراعات الضيقة وتركها جانبًا مع تغليب المصلحة العامة والانشغال بكل الأمور التي هي في صالح السير بسكة الديمقراطية نحو المسار الصحيح.

إن البناء الديمقراطي الحقيقي بحاجة إلى تشكيل ثقافة سياسية جمعية نابذة لكل الصراعات الطائفية والقَبَلية والعشائرية والإثنية والذوبان والتموقع في بوتقة الدولة الواحدة، بمعنى ترسيخ الجهود في سبيل تحقيق العيش المشترك وتحت سقف الديمقراطية التي تحفظ أيضًا حقوق كل الأقليات والمذاهب والانتماءات لكن بالشكل الذي يزكِّي تيمات ومقومات الدولة الحديثة ويقطع مع الثقافة السلطوية بمختلف لبوساتها وتشكلاتها.
_______________________________
د. عثمان الزياني – أستاذ جامعي في جامعة مولاي إسماعيل، مكناس، المغرب.

الهوامش والمراجع
(1) المنوفي كمال، الثقافة السياسية للفلاحين المصريين: تحليل نظري ودراسة ميدانية في قرية مصرية، (دار بن خلدون، بيروت، 1980)، ص14.
(2) انظر بتفصيل حول علاقة الثقافة السياسية بالديمقراطية، عبد السلام علي نوير، الاتجاهات المعاصرة في دراسة الثقافة السياسية، (مجلة عالم الفكر، العدد 1، المجلد40، يوليو/تموز-سبتمبر/أيلول2011)، الصفحات من 23 إلى 26.
(3) الحمادي سمير، قبل الثورات وبعدها: أزمة الديمقراطية العربية، انظر: معهد العربية للدراسات، على الرابط التالي:
http://studies.alarabiya.net/
(تاريخ الدخول، 09 مارس/آذار 2015).
(4) أحمد سعيد نوفل، أثر الربيع العربي على الثقافة السياسية، انظر الرابط الإلكتروني التالي: www.philadelphia.edu.jo/arts/17th/day…/nofal.doc
)تاريخ الدخول 09 مارس/آذار 2015).
(5) عز الدين العزماني، الربيع الديمقراطي العربي وإمكان العمومية النقدية، مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: http://www.mominoun.com/arabic/ar-sa/articles /2177
(تاريخ الدخول 09 مارس/آذار 2015).
(6) علي حرب، ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، من المنظومة إلى الشبكة، (الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثانية)، ص10.
(7) المرجع نفسه، ص9.
(8) حسين علوان، إشكالية بناء الثقافة السياسية في الوطن العربي، (مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2009)، ص11.
(9) المرجع نفسه، ص12.
(10) محفوظ محمد، “العرب والثقافة السياسية الجديدة”، النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية، انظر الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.alriyadh.com/2004/10/05/article13079.html
(تاريخ الدخول، 11 مارس/آذار 2015).
(11) المرجع نفسه.
(12) ناجي الغزي، “مفهوم الوعي السياسي”، انظر الموقع الإلكتروني التالي:
http://www.alrayy.com/473.htm
(تاريخ الدخول 12 مارس/آذار 2015).
(13) مشتاق زاهر، “التنشئة السياسية والمرونة الديمقراطية”، صحيفة الجمهورية، على الرابط الإلكتروني التالي:
http://www.algomhoriah.net/atach.php?id=28060
(تاريخ الدخول 12 مارس/آذار 2015).
(14) طه مطر ظلال فراج، “التنشئة السياسية وخصائص الشخصية، كمتغيرات مُنبِئة بالمشاركة السياسية في دولة الكويت”، ص7، جامعة الزقازيق، كلية الآداب، قسم علم النفس، مصر، انظر الرابط الإلكتروني التالي:
www.arts.zu.edu.eg/…/علم%20نفس%20السياسي.pdf‎
(تاريخ الدخول 12 مارس 2015).
(15) انظر تقرير حول “العرب بين ثقافة الديمقراطية وثقافة التسلط”، مرجع سابق.
(16) خيري عبد الرزاق جاسم، “الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية”، مقال منشور على موقع:
http://www.ahali-iraq.com/printarticle.php?id=139&p9=index
(تاريخ الدخول 13 مارس/آذار 2015).
(17) العلمي عبد القادر، في الثقافة السياسية الجديدة، (منشورات الزمن، الطبعة الثانية، 2013)، ص43/44.
(18) عبد العظيم محمود حنفي، النظم السياسية ومأسسة العملية السياسية، انظر الرابط الإلكتروني: minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2485
(تاريخ الدخول 14 مارس/آذار 2015).
(19) انظر: تقرير حول العرب بين ثقافة الديمقراطية وثقافة التسلط، مرجع سابق.
(20) العلمي عبد القادر، مرجع سابق، ص195.

د. عثمان الزياني

مركز الجزيرة للدراسات