التداعيات السياسية والعسكرية لتعرض داعش على الرمادي

التداعيات السياسية والعسكرية لتعرض داعش على الرمادي

في كل يوم يمر تفاجئنا داعش بتطور لم يكن في حسبان مراقبي الموقف الذين ينطلقون من تحليلاتهم من منطلق تقليدي متناسين أن داعش نفسها هي حالة غير تقليدية، تفوقت في أدائها واختيارها أهدافها حتى على نفسها، ناهيك عن سابقتها القاعدة، أو اي من التنظيمات التي تدعو نفسها ” جهادية”. هنا يكمن سر بروز داعش على واجهة الأحداث في كل مرة يتصور الكل أنها انتهت أو تراجعت، أو هزمت إلى غير ذلك من التعابير التي لم تكن في حقيقة أمرها إلا أماني.

بعد تكريت بدأ الجميع يتحدث عن أنداعش قد تحولت إلى الدفاع، وهو موقف سيفرض عليها الترادع، وبدأوا يعدون الخطط لاجتثاثها مما تبقى من أرض العراق الذي تسيطر على ما يقرب من نصف مساحته تواجداً أو تسلطاً.

في معركة تكريت كان الدرس المستنبط الأول هو هزيمة الأساليب العسكرية الإيرانية التي قادها وطبقها قاسم سليماني وكانت نتيجتها إلحاق الكثير من الخسائر بقياداته إذ قتل في معركة تكريت العديد من الضباط الإيرانيين برتبة عقيد وعميد ( جنرال) أعلنت إيران عن مقتلهم وشيعتهم رسمياً. هنا هزمت تكتيكات إيران القتالية اللامتناظرة للمرة الثانية على أرض العراق بعد أن هزمت للمرة الأولى إبان الحرب العراقية الإيرانية. وليس أدل على ذلك ان قاسم سليماني جمع قواته واختفى من المشهد. بعد ذلك تولى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضرب القشرة القوية المدافعة عن تكريت بقنابل العصف وهي التي سبق استخدامها لحسم معركة مطار صدام الدولي في بغداد إبان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

وقد سبق لي وأشرت في ورقة سابق وأن معركة تكريت لن يحسمها إلا التدخل الجوي للتحالف وقد حصل. الموضوع الدرس المستنبط الثاني أن داعش لم تترك تكريت بعد انسحابها منها، بل استمرت بالهجوم والضغط، مظهرة للعالم بشاعة ما قامت به المليشيات الشيعية التي شهد بها كل منصف ومنهم مراسل رويترز الذي هددته المليشيات بالتصفية فاضطر أن يترك العراق. في تكريت أيضاً ضربت داعش ضربة موجعة في مصفى بيجي وتمكنت من السيطرة عليه لفترة وعطلته بتفجير بعض الخزانات والوحدات فيه، ومصفى بيجي هو واحد من أهم وحدات التكرير في العراق إن لم يكن أهمها على الاطلاق. ورغم خروج مقاتلي داعش من محيط المصفى بعد أن حققوا هدفهم، لم يذهبوا بعيداً بل تحصنوا في معهد التدريب النفط الواقع خارج سياج المصفى. نستنتج من عملية داعش هذه إصرارها على الاشتباك بقوات الحكومة وتوجيه ضربات موجعة في أماكن تختارها هي. بالمقابل نجد أن الحكومة تستجيب كرد فعل لما تبادر به داعش التي تقرر هي وقت ومكان واتجاه الضربة.

الخريطة 1 منطقة سيطرة داعش الفعلية في العراق وسوريا كما أوردتها النيويورك تايمز

11

 هذه الخريطة والخرائط اللاحقة نقلاً عن النيويورك تايمز بعددها في 7 نيسان / أبريل 2015

 

 

 

cahbmy

 

الخريطة 2 تدمير خزانات الوقود في مصفى بيجي

معركة الرمادي:

تكمن أهمية معركة الرمادي بأنها تمثل دليلاً واضحاً على أن تنظيم داعش لا يزال قادراً على الحسم في المكان الذي يختاره، كما أنه قادر على المناورة وبسرعة ومرونة على مجمل الأرض التي يتواجد فيها دون أن يتمكن لا طيران التحالف، ولا القوات الحكومية على التدخل في مناوراته. ولعل الملفت للانتباه أننا لم نسمع بيانا يشير إلى التدخل لا من جانب التحالف ول الحكومة وقواتها ومليشياتها مما يثبت قدرة داعش على المناورة وبقوات كبيرة. وقد تكون مبادرة داعش بالهجوم على الرمادي رداً استباقياً لما بدأت وسائل الإعلام الحكومية، وكذلك مسؤوليها الأمنيين التصريح به من كون الأنبار هي المحطة الثانية للتحرير بعد تكريت.

في عموم محافظة الأنبار تمكنت داعش من فرض سيطرتها من المعبر الحدودي العراقي السوري في القائم – ألبوكمال، وحتى  ضواحي بغداد. أما بالنسبة للرمادي عاصمة المحافظة فقد تقاسمت داعش والقوات الحكومية والصحوات السيطرة عليها. لكن داعش كانت تتدخل وبقسوة في مرات متكررة وتلحق بالقوات الحكومية والصحوات خسائر كبيرة دون أن تحسم معركتها وتسيطر على الرمادي.انظر الخريطة (1)

تكمن أهمية الرمادي في عنصرين استراتيجي ومعنوي. فالعنصر المعنوي ينصرف إلى أن الرمادي هي عاصمة أكبر محافظة عراقية تزيد مساحتها على ثلث مساحة العراق، وتحادد ثلاث أقطار عربية مجاورة. كما أن هذه المدينة مجربة في أنها لن تستكين للضيم، وأن أبنائها مقاتلون صعبي المراس، فتكفينا الإشارة إلى أن أبناء هذ ه المحافظة هم من هزم القاعدة عام 2008 بعد فشل الحكومة والأمريكيين بذلك فشلاً ذريعاً. قد يكون من المعقول لو تصرفت هذه الحكومة بحكمة، ولو تخلت عن طائفيتها، وانصياعها لرغبات إيران، والمليشيات الطائفية المرتبطة بها، وأعطت أبناء المحافظات الستة حقوقهم الدستورية المشروعة، لاصطف كل أهالي الأنبار دفاعاً عن محافظتهم ضد الأغراب، ولسحبوا تأييدهم أو حيادهم حيال داعش. لكن حماقة أجهزة السلطة ، وحقد المليشيات الشيعية على أبناء المحافظة أجبرت المواطنين للتصرف بشكل آخر ستدفع الحكومة وقواتها ثمنه حيث أن ماجرى في ديالى والدور وتكريت لن يمحَ من الذاكرة بسهولة. من هنا أصر حتى حلفاء الحكومة على عدم دخول الحشد الشعبي إلى محافظتهم.

33

 

 الخارطة الرقم 3 خارطة العراق وتظهر بها محافظة الأنبار كأكبر محافظة عراقية

من ناحية أخرى تكمن الأهمية الاستراتيجية في أن هذه المحافظة تسيطر على مشاريع إدارة نهر الفرات فمن سد حديثة في أعالي الفرات، إلى مشروع الورار المغذي لبحيرة الحبانية، إلى مشروع الذبان الذي يعيد المياه إلى الفرات كارثة استراتيجية كبرى تلحق بالحكومة، ذلك أنه سيكون بإمكان داعش التحكم بمياه نهر الفرات في توجهه جنوباً باتجاه المحافظات العراقية الجنوبية ذات الأغلبية العربية الشيعية.

إن تكتيكات الإغراق هي إحدى الوسائل التي لجأت إليها كل من العراق و إيران إبان الحرب العراقية الإيرانية باستخدامها إما كموانع دفاعية أمام القطعات، أو لتقصير أو تمديد جبهة لمواجهة. ويشير استخدام  المياه في بداية تهديد داعش لبغداد بعد سقوط الموصل إلى توفر الخبرة التعبوية في استخدام المياه عسكرياً، وهو ما سيكون له أثراً خطيراً على الأرض. إلا أن تنفيذ داعش لهذه العملية يقتضي منها التمسك بالأرض بقوة لأجل إتاحة المجال والمدى الزمني اللازمين لتنفيذ عملية معقدة بهذا المستوى التي تتطلب معرفة جيدة بطوبوغرافية الأرض، وخطوط تقسيم المياه، وغير ذلك من فنون الاستحكامات والنسف و التخريب.

تحليل المعارك:

يبدو لنا من تحليل ما جرى منذ معارك تكريت وحتى الآن أن داعش ستلجأ بين الحين والآخر بشن تعرض بقوة يكون هدفها ما يلي:

ناهيك عن ذراعي دجلة والفرات اللذين يوازنان منسيب دجلة والفرات مما يجعل من سقوط المدينة بيد داعش

  1. إثبات الذات بالتواجد في مناطق ترى فيها أهدافاً مشروعة لها.
  2. استنزاف قوات الحكومة
  3. الاستباق في كل مرة تبدو هنالك مؤشرات على عمل تعرضي للحكومة، فيكون استباق داعش هو إجهاض العمل التعرضي وتدمير القوات التي خصصت للقيام به.
  4. تعريض معنويات قوات الحكومة وتوابعها المحليين للخطر والتأثير على معنوياتهم، وتشير الدلائل إلى وجود تباين واضح في وجهات النظر ضمن القيادات المتعاونة مع الحكومة في مجتمع الرمادي المحلي.
  5. تعد ظاهرة النزوح حالة تلقي بثقلها على عاتق الحكومة وتحرجها، بل قد تقود للانقسام في داخلها، فالكراهية المستحكمة في نفوس القادة الطائفيين في السلطة حيال أهل الأنبار منعت النازحين من الدخول إلى بغداد إلا بكفيل، وهو أمر مستغرب جعل العرب السنة يشعرون بمزيد من الإهانة من جانب الحكومة.
  6. إلحاق الهزيمة بأكبر عدد من قوات الحكومة للتأثير على معنويات القوات المعدة للتعرض المقبل.

التقييم النهائي:

نرى أن كل عمليات داعش في هذه المرحلة ستكون من أنواع قتال المهارشة الذي يهدف لتحقيق ما سبق وأشرنا إليه، وإنها لن تكون تواقة لمسك الأرض في هذه المرحلة خشيت استهدافها من قبل طيران التحالف، دون أن يعني ذلك التخلي عن التمسك بالأرض بشكل نهائي. سيتم التمسك بالأرض حينما تقرر داعش تطوير أهدافها باتجاه بغداد.

د. عبد الوهاب القصاب

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية