الصين كما ترى من بيت زجاجي

الصين كما ترى من بيت زجاجي

تعديل دستور الصين يُعَد انتكاسة محبطة في مجال الإدارة الحكومية من منظور الديمقراطيات الليبرالية، لكنه قد يكون، من المنظور الصيني، الخيار الأوحد لمعالجة ضرورات التنفيذ المهولة التي تجابهها الدولة.
*   *   *
نيوهافين – جاء حذف المادة التي تنص على تقييد ولاية الرئيس بفترتين مدتهما خمس سنوات من الدستور الصيني بمثابة صدمة للكثيرين. فبالنسبة للصين، كان ترسيخ صفة المؤسساتية بالنسبة لمسألة تعاقب القادة إرثاً بالغ الأهمية خلّفه دينج شياو بينج، وإشارة لنهاية حقبة من التقلب المؤلم تحت القيادة المضطربة للزعيم الأوحد ماو تسي تونج. أما بالنسبة للغرب، فقد كان تحديد الفترات جسراً إيديولوجياً قاد إلى طريق من التفاعل والالتحام. فهل يكون إلغاؤه نقطة التحول في علاقات أميركية-صينية غير مستقرة بالفعل؟
لنبدأ بالصين وما تعنيه هذه الخطوة لمستقبلها. لكي نفهم ما سيتغير في ظل إطار مختلف لتداول الزعامة، ينبغي لنا أن نتجاوز بسرعة خطاب السلطات المبهم -بخصوص انتقال “المجتمع الذي يتمتع بوضع مُرض لدرجة معقولة” إلى “العصر الجديد”- وأن نُخضع استراتيجيتها الأساسية للتنمية لاختبار جاد وصعب.
على الرغم من اتساع باب الاحتمالات ليشمل أي شيء، والإقرار بإمكانية وقوع أخطاء في أي وقت، فإني أراهن على ثبات الصين على مسارها الحالي. وسواء كان هناك تداول للسلطة أم لا، فلا يمكن أن يكون هناك تراجع عن تحولٍ قاد دولة نامية كبيرة فقيرة إلى حافة الرخاء المتمثل في اقتصاد حديث عالي الدخل.
في البداية، أوضحت القيادة الصينية وجهة نظرها من منظور تحليلي في معرض ردها على الانتقاد المفاجئ لرئيس الوزراء الصيني السابق وين جيا باو لاقتصاد بلاده في العام 2007، عندما وصفه بأنه بات “غير مستقر، غير متوازن، غير منسق، غير مستدام” على نحو متزايد. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وخلال خطاب له أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب، كرر الرئيس شي جين بينج وجهة النظر نفسها، وإنما من منظور إيديولوجي؛ حيث أعاد صياغة ما يسمى بالتناقض الماركسي الرئيس حول مخاطر وشراك التنمية “غير المتوازنة وغير الكافية”.
وإلى حد كبير يقود هذان المنظوران -التحليلي والأيديولوجي- الصين إلى وجهة واحدة: اقتصاد مزدهر ومجتمع به طبقة متوسطة مزدهرة. وللوصول إلى تلك الوجهة، يتعين على الصين المرور بعملية إعادة توازن تحوّلي من التصنيع للخدمات، ومن الاعتماد على الصادرات إلى الاستهلاك المحلي، ومن ملكية الدولة إلى القطاع الخاص، ومن الريف إلى الحضر.
كل هذه الأمور أضحت مفهومة بشكل جيد الآن، حيث يركز النقاش الحالي في الصين على التنفيذ أكثر من تصميم الاستراتيجيات. وهذا في الحقيقة كان الأولوية الأولى للرئيس شي جين بينج عند توليه منصبه في أواخر العام 2012، كما شكّل السبب الجوهري وراء حملة غير مسبوقة لمكافحة الفساد استهدفت خلخلة تكتلات القوى المتعمقة بشدة التي كانت تحبط جهود التحول.
لكن الآن، وبعد مرور خمس سنوات، تتأهب القيادة الصينية للتعامل مع المرحلة التالية من تحدي التنفيذ، حيث يوجد إحساس واضح بالحاجة الملحة إلى إنجاز هذه المهمة. فخلف مظهر القائد الواثق الذي يبدو عليه شي جين بينج أمام العامة، هناك إقرار منه باحتمالية الفشل. ومن منظور تحليلي، جاء التعبير عن هذا الأمر بالحديث عن ركود يشبه الركود الياباني إذا أساءت الصين إدارة اقتصادها. ومن منظور إيديولوجي، تلوح مرحلة نهائية من الفوضى والثورة حال الإخفاق في حل “التناقض الرئيس”.
بالأخذ في الاعتبار هذه المخاوف المتصاعدة، يتم تقديم مخاطر التنفيذ الآن في ضوء مختلف. فقد ألمح نائب رئيس الوزراء الصيني للسياسة الاقتصادية ليو هي، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس في كانون الثاني (يناير)، إلى اعتزام بلاده تنفيذ الإصلاحات المقبلة بسرعة مذهلة. كما أشار في مقال تعقيبي له نُشر باسمه مؤخراً في صحيفة “الشعب” اليومية إلى أن “تقوية القيادة الكلية للحزب هي القضية الجوهرية”.
ولا تأتي مثل هذه الآراء من فراغ؛ إذ يبدو ليو، وهو أستاذ بارع في التكتيك، مصرا على تأكيد العلاقة الوطيدة بين قوة ونفوذ الحزب ووتيرة الإصلاحات. وقد أصبحت الحاجة الملموسة لتعظيم نفوذ الحزب وقوته -وهو ما انعكس في التخلص من شرط تقييد المدد الرئاسية- عنصرا رئيسا في جهود التنفيذ التي تقوم بها السلطات. ونظرا لتوافق هذا مع ميول شي جين بينج المبكرة، فقد يكون هذا التحرك السبيل الوحيد أمام الصين لتجنب “الطريق المسدود” الذي حذر منه دينج في العام 1992.
صحيح أن تعديل دستور الصين يُعَد انتكاسة محبطة في مجال الإدارة الحكومية من منظور الديمقراطيات الليبرالية، لكنه قد يكون، من المنظور الصيني، الخيار الأوحد لمعالجة ضرورات التنفيذ المهولة التي تجابهها الدولة. وبالتأكيد تمثل التجارب الأخيرة للدول الأخرى، خاصة الولايات المتحدة، تحذيرا من نزوع الغرب إلى الخلط بين تداول السلطة وجودة القيادة.
وفي الحقيقة يدفع القصور الذي يعتري القيادة الأميركية كلا من الولايات المتحدة والصين إلى حافة حرب تجارية. فقد وُضعت محنة الطبقة المتوسطة الأمريكية في إطار لعبة إلقاء اللوم على الآخرين، باتهام الصين وما يوصف زعما بممارساتها التجارية غير العادلة بأنها وحدها وراء هذه المحنة. لكن الأدلة تشير إلى أسباب غير ذلك: نقص ضخم في الادخار المحلي يجعل أمريكا تعتمد على فائض الادخار من الخارج لسد الفجوة. وتكون النتيجة عجزا تجاريا متعدد الأطراف يتطلب من الصين و101 دولة أخرى توفير رأس المال الأجنبي اللازم لميزان المدفوعات.
بمعنى آخر، تعد الصين بالفعل جزءاً مهما من “حل” أميركا لمشكلة تنامي نقص الادخار التي تعاني منها. لكن قادة الولايات المتحدة يجدون في تعليق مشاكلهم على شماعة الصين أسلوباً يخدم مصالحهم، بينما الموقف يتطور من سيئ إلى أسوأ؛ حيث سيفضي الخفض الكبير في الضرائب الذي أُقر نهاية العام 2017 إلى اتساع عجز الموازنة الفدرالية الأميركية بمقدار 1.5 تريليون دولار في العقد المقبل، مما سيدفع الادخار المحلي لانخفاض أكبر -وهي نتيجة ستؤدي لعجز تجاري أوسع مدى وأكثر تكرارا.
وكأن إدارة ترمب، التي تتبنى سياسات الحماية، لا ترى الموقف سيئا بما يكفي، فنجدها تُعلي من أهمية الرسوم المفروضة ضد الصين لتفسح لها دورا مركزيا في أجندتها للسياسات الدولية. لكن تبني تدابير الحماية في مواجهة مظاهر عجز تجاري آخذ في الاتساع لا يعني إلا الاضطراب لأسواق مال فقاعية واقتصاد أميركي يعاني من نقص المدخرات، فضلا عما قد تسببه من تمزق هو الأخطر في العلاقات الصينية-الأميركية منذ العام 1989.
لا أحد يدري كم سيبقى شي جين بينج في منصبه. لكن إذا تمسكت الصين بنهجها، فلن تكون مسألة تداول السلطة مهمة على الأقل في الوقت الراهن. أما إذا انزلقت الصين، فسيكون الحكم حينها مختلفا للغاية. ورغم الاختلاف الكبير الذي يميز دائرة ردود الفعل السياسي في الولايات المتحدة، فإن المساءلة أيضاً مهمة. في النهاية، تمثل جودة القيادة العامل الأهم لكلتا الدولتين. ومن المحزن أن يكون قذف الحجارة أسهل شيء دائماً لمن يعيشون في بيوت زجاجية.

ستيفن س. روش

الغد