أي دور للماركسية في عصر الشعبوية والإسلام السياسي

أي دور للماركسية في عصر الشعبوية والإسلام السياسي

تنظم مدينة ترير الألمانية سلسلة من الفعاليات والمعارض، السبت 5 مايو احتفالا بمرور مئتي عام على ميلاد الفيلسوف كارل ماركس، أحد أكثر الفلاسفة إثارة للجدل بأفكاره الثورية عن الرأسمالية والدين والمجتمعات الكادحة.

اليوم، يتردد اسم كارل ماركس في أنحاء العالم وسط صعود الشعبوية وتيارات الإسلام السياسي وتراجع دور اليسار، بسبب اجترار مقولات عفى عليها الزمن، ولم تكن يوما تناسب البيئة العربية بالنسبة لليسار العربي، الذي تحالفت بعض تياراته مع السلطة “البرجوازية”، في حين مالت بعض التيارات اليسارية في الغرب إلى الخط الشعبوي.

وبعد حوالي ثلاثة عقود على انهيار جدار برلين، وفيما بعض ندوب الحرب الباردة لم تلتئم بعد، لا يزال إرث كارل ماركس يثير الانقسام في الغرب، وفي ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة، كما في العالم العربي، الذي شهد صعود تيارات الإسلام السياسي للحكم ثم تصدر المعارضة مقابل تراجع صوت اليسار، بمختلف تفرعاته، في بعض الدول، واتحاد أحزاب يسارية مع تيارات إسلامية في دول أخرى.

الماركسيون العرب لم يقدروا على تفسير الواقع العربي وفق المنهج الجدلي الماركسي وظلوا بمثابة حفظة نصوص

اليوم، تحل الذكرى المئوية الثانية لولادة الفيلسوف الألماني (5 مايو 1818 – 14 مارس 1883)، ويتجدد معها النقاش حول فكره والجرائم التي ارتكبت باسمه، وسط تساؤلات عن مستقبل إحدى أكثر الأفكار والتوجهات الأيديولوجية ثورية في العالم.

ويثير إحياء حاملي الفكر “الأممي البروليتاري” للذكرى المئوية الثانية لكارل ماركس يثير الكثير من الاستفهامات حول ما تبقى من فكر صاحب مؤلف “رأس المال” وخاصة حول ما دعا اليه كارل ماركس بنفسه لوجوب تنفيذ الأفكار والبرامج أي حتمية “البراكسيس”.

يرى البعض أن مؤلف كتاب “رأس المال” كان علاّمة رؤيويا سبق العالم في تشخيص المساوئ التي يحملها اقتصاد السوق، غير أن آخرين ينظرون إليه على أنه الأب الروحي للأنظمة السوفييتية الاستبدادية المتعطشة للدماء. وبين هذا وذاك يبقى كارل ماركس “مفكرا ألمانيا عظيما.. وهو تقدير صحيح حتى وإن كانت هناك تناقضات”، وفق الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير.

تحدث شتاينماير عن ماركس، خلال حلقة نقاشية في قصر بلفيو في العاصمة برلين، مؤكدا على أن الفيلسوف الألماني كان مفكرا حاسما في فكره، “وكانت مبادؤه الحاسمة جامدة جمودا شديدا”، مضيفا أنه قدم “طرحا هائل الحتمية” و”طموحا مطلقا لعالمه الفكري”، غير أن القوة الداخلية الدافعة لماركس كانت هي ظروف عصره.

وأضاف قائلا “لقد اهتم ماركس بالتغلب على البؤس الجمعي من أجل تحرير الناس من الفقر والوصاية ومن اليد الحديدية للدولة العلية”. وأكد على أن “أعمال ماركس لم تكن وحدها هائلة، وإنما كانت آثارها أيضا هائلة”، مستدعيا إلى الذاكرة أن الاتحاد السوفييتي اتخذ جملة من جمل هذا الفيلسوف مبررا لنزع ملكية الملايين من الفلاحين الروس ولنقلهم من ديارهم، كما اتخذت أعماله في ألمانيا الديمقراطية سابقا لتبرير القيود على الحرية من جديد.

منظر الدكتاتوريات

لاستعادة محطات حياته ونتاجه الفكري والإرث المعقد لماركس المشارك في تأليف “بيان الحزب الشيوعي”، تعتزم مدينة ترير، مسقط رأسه، تنظيم 600 فعالية مختلفة للمناسبة. وأبرز هذه المراسم تقام السبت في يوم الذكرى المئوية الثانية مع إزاحة الستار عن تمثال بطول 5.5 أمتار لهذا المفكر. غير أن هذا التكريم يثير سخط ضحايا القمع في زمن ألمانيا الشرقية السابقة، خصوصا وأن التمثال ممول من الصين التي لا تزال شيوعية رسميا.

ويقول رئيس اتحاد مجموعات ضحايا الاستبداد الشيوعي دييتر دومبروفسكي “كارل ماركس وضع الأسس التي قامت عليها كل الأنظمة الدكتاتورية الشيوعية حتى اليوم”.

ويوضح هذا المعتقل السابق خلال الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية السابقة “بحسب قانون العقوبات المعتمد لدينا حاليا، إذا ما حرض أحدهم على القتل وحصلت جريمة القتل فعلا، يدان المحرض أيضا”.

ويشير دومبروفسكي إلى أن عدد القتلى على يد الأنظمة الشيوعية يفوق ذلك العائد لضحايا النازية، مبديا سخطه إزاء “نصب تمثال في ألمانيا” للرجل الذي ألهم الثورة البلشفية في أكتوبر 1917.

وبحسب المسؤولين في ترير، لا يمكن تحميل ماركس الذي توفي العام 1883 في لندن المسؤولية عن تجاوزات اللينينيين والستالينيين والماويين الذين كانوا يؤكدون أنهم يطبقون أفكار ماركس في القرن العشرين.

ويلفت راينر اوتس، مدير الشركة المكلفة الإشراف على المعارض بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لماركس، إلى أن “أفكاره وفلسفته فقدت مصداقيتها بفعل تأليه النظام في ألمانيا الشرقية لماركس”.

وفي ألمانيا الشرقية، كانت الماركسية بنسختها اللينينية عقيدة غير قابلة للنقاش تحت طائلة المعاقبة. وفي تجسيد لهذا المنحى، كانت مدينة كيمنتس الحالية مسماة كارل ماركس شتات خلال العهد الشيوعي.

ويشير اوتس إلى أن هذه الذكرى المئوية الثانية من شأنها السماح بإفهام الرأي العام حقيقة صاحب الشعار الشهير “يا عمال العالم اتحدوا” من دون “تمجيد أو رجم”، لأن أفكار ماركس لا تزال تتردد في العالم الحالي على حد قوله.

وأعادت تجاوزات الأنظمة الرأسمالية وانتهاكاتها الظاهرة خلال السنوات الأخيرة الاهتمام بنظريات ماركس بشأن قمع العامة على يد الطبقات البرجوازية، والتي ظهرت في فترة الثورة الصناعية الأولى.

ماركس لا يزال يقسم ألمانيا

برلين – أعلنت تيارات سياسية مختلفة اعتزامها تنظيم مظاهرات وفعاليات مؤيدة ومعارضة لفيلسوف الشيوعية والماركسية الألماني كارل ماركس بمدينة ترير مسقط رأسه، بمناسبة مرور مئتي عام على ميلاده. وأعلنت إدارة المدينة أنها تراهن على الاحتفالات السلمية بهذه المناسبة من جانب المتظاهرين. وقال ميشائيل شميتس، المتحدث باسم المدينة الواقعة بولاية راينلاند بفالتس غربي ألمانيا، “نأمل بأن يقوم كل راغب في التعامل مع موضوع ماركس بطريقة متحضّرة، ويمكن لمن يريد انتقاد كارل ماركس أن يفعل ذلك أيضا ولكن دون عنف أو غضب مدمّر”. وتصل الاحتفالات بكارل ماركس إلى ذروتها عبر الكشف عن تمثال ضخم للفيلسوف الألماني أهدته الصين لمدينة ترير بوصفها مسقط رأس زعيم الماركسية. وأعلن العديد من النقاد والمتظاهرين اعتراضهم على ذلك. ويعتزم حزب البديل من أجل ألمانيا تنظيم مسيرة صامتة لإحياء ذكرى ضحايا الشيوعية، كما أعلنت حركة فالون غونغ المحظورة في الصين تنظيم وقفات احتجاجية بهذه المناسبة. وكذلك أعلن تحالف ماركسي يضم أعضاء من حزب اليسار والحزب الشيوعي الألماني عن تنظيم مظاهرة “كإشارة لمعارضتهم للرأسمالية والاستغلال”. وتقول شرطة المدينة إن معارضي حزب البديل من أجل ألمانيا سينظمون أيضا مظاهرة معارضة لمظاهرة الحزب اليميني المتطرف. وقال رئيس الشرطة رالف كرامر “إن كثرة الاجتماعات والفعاليات تمثل تحدّيا خاصا”.

عودة ماركس

يجسد النجاح العالمي الكبير لكتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” للخبير الاقتصادي الفرنسي توما بيكيتي، أحد تجليات الرواج المتجدد لنظريات ماركس، القائل إن “الرأسمالية ستجعل كل الأشياء سلع، الدين والفن والأدب وستسلبها قداستها”.

ويشير الباحث المغربي خالد طحطح إلى أن أهم الكتابات التي صدرت في السنوات الأخيرة كتاب “كارل ماركس غير القابل للاختزال” عن منشورات لوموند الفرنسية، وهو عمل مشترك يتضمن مساهمات لمجموعة من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين.

وكان المحور الأساسي والمنطلق الذي ارتكز عليه المؤلف الجماعي تقديم إجابات عن مدى راهنية فكر ماركس أمام المشاكل التي يتخبط فيها العالم الرأسمالي من خلال إعادة طرح سؤال دور الاشتراكية في عالم اليوم.

ويلفت رئيس بلدية ترير فولفرام ليبي إلى أن هذا التأثير العابر للأزمنة رغم فشل الاتحاد السوفييتي والدول التي تدور في فلكه، يستحق أن يُشرح للرأي العام. ويؤكد اوتس أنه “بعد ثلاثة عقود تقريبا من توحيد ألمانيا، لدينا فرصة للعودة إلى ماركس مع نظرة نقدية دون أحكام مسبقة”.

على أهمية الزخم الفكري لرجل الاقتصاد الألماني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأفكاره وأطروحاته المناصرة للفئات الكادحة من العمال والمزارعين، فإن آثار ماركس عرفت مصير التلاشي والانقراض حتى في أهم معاقله التاريخية في روسيا أو بعض بلدان أميركا اللاتينية ليخرج الفكر الماركسي في نهاية المطاف عن الدوائر الاقتصادية وليقتصر حضوره في العالم على مواصلة ما تبقى من الشيوعيين والاشتراكيين في ترويج “ماركسية ليّنة” لا تتحدث سوى عن الأنماط المجتمعية والهوية.

ولوقت غير بعيد كانت شوارع وأنهج مدن وعواصم أوروبا الشرقية تغص بتماثيل المفكّر الألماني لكن تحولات ما بعد عام 1989 حتّمت على أوروبا بشقيها الماركسي والليبرالي التخلي بصفة تكاد نهائية عن الفكر البروليتاري ولعلّ تغيّر توجهات الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الاشتراكي القومي الألماني الذي كاد لآخر لحظة أن يتحالف مع حزب ديني (الاتحاد المسيحي تتزعمه أنجيلا ميركل) خير دليل على بقاء الفكر الماركسي حبيس المفاهيم والمصطلحات الفلسفية غير القابلة للتطبيق.

أما بخصوص العالم العربي، فإن تجارب الأحزاب والشخصيات الماركسية والشيوعية أثبتت فشلا ذريعا عبّد الطريق للإسلاميين على مزاحمة الليبراليين والرأسماليين لا على السلطة فحسب بل أيضا في القدرة على تشكيل المجتمعات أو تنميطها.

وبرغم أهمية التشكيلات الماركسية في العالم العربي لتعديل المشهد فإنها لم تقدر على ترجمة أفكارها إلى برامج عملية لأسباب فكرية ربما منها أن الفكر الشيوعي أو الاشتراكي لا يتناسب مع أرضية المجتمع العربي المسلم وثقافته وتقاليده.

أما النقطة الأبرز والأهم والتي حبست الفكر الماركسي في الدول العربية في مجالات نقاش ضيّقة لا يفقهها سوى النخب هي أن الماركسيين العرب لم يقدروا على تفسير الواقع العربي وفق المنهج الجدلي الماركسي، وبدلا من استخدام المنهج الجدلي في فهم الواقع المحلّي ووضع التصورات والحلول بما يتناسب مع هذا الواقع، ظلوا بمثابة حفظة نصوص لا أكثر ولا اقل دون محاولة فهم المجتمع عبر الغوص فيه أو اختراقه لأدراك متطلباته.

والتجارب العربية كثيرة، ومنها على سبيل المثال تجربة اليسار التونسي الذي وجد نفسه مقارنة بالبلدان العربية الأخرى أمام فرصة تاريخية لمنافسة الإسلاميين في الحكم وفي الشارع لكن أمراض عدة شقته ومنها هوس الزعامة فجعلته مشتّتا وغير قادر لا على التجميع ولا على التعبئة.