لمَ التوقع من إسرائيل أن تسعى إلى السلام؟

لمَ التوقع من إسرائيل أن تسعى إلى السلام؟

في عالم مثالي، تقوم دولة إسرائيل، ذات الأكثرية اليهودية والتي تتمسك بعمق التاريخ الروحي والمدني اليهودي وتسير به قدماً، والتي تضمّ كذلك مجتمعاً عربياً مزدهراً، لتتجاور وفلسطين، ذات الغالبية العربية والتي تحتضن مجتمعاً يهودياً من المواطنين والمقيمين، وتسعى كل منهما إلى صيغة مماثلة للاتحاد الأوروپي تشمل غيرهما من دول المنطقة. وتُحلّ الخلافات، الفردية منها والجماعية، ضمن منظومة عدلية وثقافية قائمة على الثقة المتبادلة. ولكن للأسف، تبدو المنطقة اليوم بعيدة عن هذا التصور أكثر من أي وقت مضى.

أسباب هذا الفشل متعددة، والسياسيون والمثقفون من الجانبين ناشطون في استدعاء سجالياتها، فالمظلوميات هنا وهنالك لها ما يبررها، في حين يمكن بالتأكيد إلقاء اللوم على مختلف الأطراف المؤثّرة، المحلية والإقليمية والدولية، بفعلها وتركها، لما آلت إليه هذه القضية المحبِطة بين فلسطين وإسرائيل.

غير أنه لا بد، من وجهة نظر نقدية ذاتية عربية، من اعتبار جدي لتطورين أخيرين: «مسيرات العودة» المتواصلة عند الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، والتعليقات التي أدلى بها زئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مؤخراً. ففي الحالتين، ثمة سؤال واقعي لا بد من طرحه، إزاء كل من الحدثين كما إزاء ردة الفعل تجاهما في الوسط الثقافي العربي: ما الذي يدعو إسرائيل إلى السعي لتحقيق السلام مع خصم قد عقد العزم على انتقاصها وإلغائها؟

بغضّ النظر عن أي اعتبار قانوني أو إجرائي، ومن وجهة نظر معنوية وأخلاقية محضة، حق الفرد بالعودة إلى داره، وبالسعي إلى استرداد ملكيته، وبالمطالبة بالتعويض لحرمانه منها، هو حق جلّي مؤكّد. وكذلك حق الفرد بأن يحيا بأمان في وطنه دون أن يكون مكرهاً على مجابهة المحاولات الصريحة والخفية لاستئصاله منه أو للقضاء عليه.

والتقييم النزيه لـ «مسيرات العودة» لا بد له من الإقرار بأنها تشكل تحدياً لحق الإسرائيليين بالأمان في موطنهم والاطمئنان إلى ديمومة مجتمعهم، أكثر منها إلى تأكيد حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. فالسلمية التي تشهرها هذه المسيرات تتعارض مع خطاب الإسقاط والاقتلاع الموجّه لـ «الكيان» من أطراف فلسطينية ومن مجمل الثقافة السياسية العربية. التأكيد على الحق الفلسطيني بالعودة، على وضوحه الأخلاقي، لا يكون من خلال رفض الأساس الذي يقوم عليه حلّ الدولتين، والذي يقضي بأن إسرائيل سوف تحصل عند تنفيذ هذا الحل على الثقة بأن دمارها لم يعد هو المرام. والانتقادات، في إسرائيل نفسها وفي مختلف أنحاء العالم، قد توالت للشدة التي تظهرها السلطات الإسرائيلية في مواجهتها لحراك «مسيرات العودة». فهذه المسيرات بالفعل لا تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل كدولة وكمجتمع. غير أن هذه المسيرات تكشف عن النوايا السيئة المبيتة تجاه إسرائيل، ما يدعو حتى أقوى المتمسكين بحق العودة الفلسطيني إلى إعادة اعتبار في موازنة الحقوق، ذلك أن هذه المسيرات، في تأطيرها الوطني الفلسطيني كما الثقافي العربي الطاعن بالحق الإسرائيلي، تبرر وجهة النظر التي التزمها المشككون والمتشائمون من جدوى العملية السلمية، والتي تفيد بأن الحق الفلسطيني بالعودة يعلو عليه الحق الإسرائيلي بالأمان.

وما هو أكثر إشكالية من «مسيرات العودة»، والتي توجهها أو تتحكم بها أطراف، تسعى إلى الكسب الآني وإن على حساب المصلحة الفسطينية الطويلة الأمد، مثل حركة حماس أو إيران، هي التصريحات التي أدلى بها محمود عباس، بصفة رسمية، في محفل رسمي. وفي حين أن العديدين في إسرائيل والغرب قد أدان هذه التصريحات على أنها «معادية للسامية»، إذ تنسب اضطهاد اليهود في أوروپا، بما في ذلك المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية، إلى «دورهم الاجتماعي» كصرّافين ومرابين، لا إلى هويتهم الدينية والثقافية، فإن هذه التصريحات لم تلقَ من يعترض عليها أو يدينها في مجمل الثقافة العربية. بل واقع الأمر هو أن الآراء التي عبّر عنها أبو مازن يمكن تصنيفها على أنها «معتدلة» في سياق ثقافي عربي ينظر إلى اليهود، ككم أحادي، على أنهم «قتلة الأنبياء» وأحفاد القردة والخنازير، ويعتبر «پروتوكولات حكماء صهيون» مرجعاً موثوقاً، ويعيد كافة الشرور التي أضرّت بالعالم، مثل الشيوعية والإمپريالية، إلى أصل خبيث واحد هو «اليهود». بل في معظم الثقافة السياسية العربية لا حاجة من إرفاق صفة ذم بكلمة «يهود»، إذ الكلمة بحد ذاتها هي صفة ذم.

وأبو مازن قد تجاوز في كلامه خطاً أحمر. كان بشار الأسد عام ٢٠٠١ وهو حديث العهد بدوره كحاكم مستبد قد أتحف ضيفه المسنّ البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته لدمشق بسرد مسهب من الأقوال التي تنمّ عن الأصول المختلفة للخطاب المعادي لليهود في الثقافة العربية المعاصرة، فأدرج ما هو منتخب من النصوص الدينية الإسلامية ومن الأدبيات السياسية المعادية للصهيونية بالإضافة إلى التصاوير المستقاة من السردية الأوروپية «المعادية للسامية». وبعد قرابة العقد من السنين، عام ٢٠١٠، أبدى محمد مرسي، القيادي في الإخوان المسلمين والرئيس المصري المنتخب في وقت لاحق، غضبه للأعمال الحربية الإسرائيلية في غزة من خلال استدعاء عبارات مبتذلة من القدح والطعن بحق اليهود. ولكن لا الأسد ولا مرسي من الذين عوّل عليهم أن يكونوا قادة مستنرين يسيرون ببلادهم ومنطقتهم إلى المستقبل الأفضل. أما أبو مازن، ورغم بعض التصريحات الملتبسة السابقة، فإنه الرئيس الفلسطيني الذي كان من المتوقع أن يتجاوز ضجيج الثقافة السياسية المأزومة وأن يدفع مجتمعه باتجاه حل موضوعي لمصابه.

وتصريحاته الأخيرة هي أكثر من مجرد إنكار أو مراجعة للتاريخ. ثمة خصوصية فادحة للمحرقة التي تعرّض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية. ستة ملايين إنسان يهودي قضى نحبه في خضم هذه الحرب التي أودت بأكثر من خمسين مليون ضحية. والخصوصية هي أن هذا الإنسان اليهودي كان الهدف المتعمد للملاحقة والاعتقال والوشم وصولاً إلى القتل ليس لأنه يشكل تهديداً أو يضّلع بدور معادٍ ما، بل لهويته وماهيته. ففي بلدة بعد الأخرى، كان حصاد هؤلاء الناس وشحنهم للإبادة في مخيمات القتل، ليس الصرافين والمرابين منهم دون غيرهم، بل كذلك كل صبي مطهّر، وكل طفلة، وكل رجل، وكل امرأة، وكل مسنّ ومسنّة، كل عازف وكل فنان، كل عامل وكل تاجر، كل مهندس وكل طبيب، أي كل إنسان ثبت «تلطّخه» بأصل يهودي. والساعي إلى قتل هؤلاء كان عقد العزم علناً وصراحة لسعيه، واستجمع القدرات لفعله، وكاد أن ينجح بتحقيق كامل غرضه، ففتك بالغالبية من أفراد المجتمعات اليهودية في أوروپا مخلفاً وحسب قلة قليلة من الناجين في حالة من الترويع الدائم والصدمة الساحقة.

فأن تغيب وطأة هذه الحقيقة عن محمود عباس ، بعد سنين العمر من التواصل مع نظراء يهود، هو أمر مؤسف ويزيد. فأن «تفسّر» المحرقة على أساس «الدور الاجتماعي»، هو من باب إيجاد الأعذار للإبادة، بل هو تبرير لتكرار القتل في بيئة تبدو تواقة له، وإن كانت عاجزة عنه.

أبو مازن اعتذر متوجهاً لمن أساءت إليه تصريحاته. ولكنه لم يتطرق إلى مضمون هذه التصريحات. ويمكن، من باب إحسان الظن، الافتراض بأنه قد أساء التعبير، وأن إدراكه لحساسية الموضوع في الوعي اليهودي، كان قاصراً وإن كان في الأمر غرابة. وعندها، ولكي يكون الاعتذار ذا معنى، ليت الفرصة تكون لتعليم الثقافة السياسية العربية حول الجراح العميقة في التاريخ اليهودي، وليت المعلّم هنا، والناقض للتصوير  المسيء لليهود في عموم المنطقة، يكون محمود عباس نفسه. وإلا فالواقع أن أبو مازن قد أضرّ ضرراً دائماً بصدقيته كشريك للسلام، وقد قدم لإسرائيل سبباً إضافياً كي لا تسعى إلى هذه التسوية الهاربة أبداً.

حسن منيمنة

معهد واشنطن