حق العودة ومخيمات اللجوء الفلسطيني

حق العودة ومخيمات اللجوء الفلسطيني

في الصراع العربي الاسرائيلي وعلى الأخص ببعده الفلسطيني الإسرائيلي يتحول التاريخ لناطق بالحقائق والتعبيرات. ملايين اليهود نشأوا في منازل عربية وولدوا في منازل مملوكة للعرب ممن طردوا من منازلهم وأرضهم، لكن كما هو الحال لم يعلم الآباء المستوطنون أولادهم بالحقائق، تركوا الأمر للصدفة ليعرف الكثير منهم فيما بعد بأنهم نشأوا في منازل مصادرة لعائلات فلسطينية فرض عليها اللجوء في حرب 1948 من مدن حيفا ويافا وطبريا واللد والرملة وصفد وغيرها. ولم تعرف الأجيال الجديدة من الاسرائيليين بأن قرى تجاوزت الأربعمئة تم جرفها وهدمها لتمهيد الطريق أمام مهاجرين جدد في مستوطنات شيدت على أنقاض القرى الفلسطينية. فإلى غزة والضفة الغربية (ما تبقى من فلسطين) والى لبنان وسوريا والاردن ومصر تم دفع أصحاب البلاد الاصليين بالقوة ليعيشوا في مخيمات منذ العام 1948. بل أصبح ثلث سكان الضفة التي وقعت تحت الحكم الاردني أنذاك من سكان المخيمات ممن ينتمون لقرى ومدن فلسطين التي تم إحتلاها عام 1948، اما في غزة التي وقعت تحت الحكم المصري مع نهاية الحرب فحوالي 70٪ من سكانها أنتموا لذات القرى التي تم هدمها وجرفها عام 1948.
التاريخ الذي أنتج النكبة فتح الطريق أمام مشروع لا إنساني طابعه خيالي ديني وهدفه الشكلي حل مشكلة اليهود في اوروبا. لكن المشروع الصهيوني انتهى بكل عنصريته وسطحيته واضعا المجموعة اليهودية القادمة لفلسطين في عين العاصفة، بل وضعها في موضع العداء لأماني العرب بالتحرر والتقدم، فأسرائيل اصبحت الحارس الاول لمصالح الهيمنة على الاقليم العربي بعد زوال الإستعمار. في الجوهر بسبب هذا المشروع أصبح كل الشرق في عين العاصفة.
الفلسطينيون الذين هجروا من بلادهم عام 1948 لا زالوا يتذكرون تفاصيل المكان الذي أخرجوا منه بالقوة، وقد يصح القول بأن التفاصيل الصغيرة تختفي مع الزمن، لكن تناقلهم للصور القديمة وتعبيرهم عن ما حل بهم ينتقل عبر الرواية الشفوية والمكتوبة، كما وينتقل عبر الإحساس بالألم وتجربته في كل المنعطفات. القصة الفلسطينية مروية نامية وهي حالة تزداد صلابة وانتشارا مع الوقت. فالشعوب المنكوبة والمهجرة تشعر بإختناق مستمد من حاجتها لتصحيح التاريخ. فبفضل أجيال ما بعد النكبة إستمرت قرى ومدن فلسطين في ضمير سكانها.
أمضيت أسبوعا ونصف ضمن جولتين منفصلتين هذا العام 2018 في مخيم شاتيلا الفلسطيني في بيروت وذلك في ظل سعيي لإستكمال مشروع بحثي عن جوانب من تاريخ المخيم. اذهب يوميا للمخيم الذي يعاني الإهمال متنقلا عبر أزقتة الضيقة التي بالكاد تتسع لشخص واحد. وسط النهار في بعض أجزاء المخيم تشعر بالاختناق بينما تعتقد بأن الشمس اختفت وذلك بفضل الظلام الناتج عن تشابك الابنية وكأنها اغصان أشجار كثيفة في غابة مظلمة. وبينما تسير تقفز قليلا هنا وتتجنب من هناك مجاري متدفقة بهدوء بينما تلتف حول كومة للزبالة وشبكات كثيفة من اسلاك الكهرباء المفتوحة التي تتحول لأسقف من الاسلاك عبر ممرات المخيم طولا وعرضا.
وتسير في المخيم بينما ينير طريقك صورة لشهيد هنا وصورة هناك، بل صورة لقائد فلسطيني امام صورة أخرى، تشعر بأنك في مكان مختلف بفضل التاريخ والموضوع الذي صنع المخيم بالاساس. في ازقة المخيم ينطق التاريخ بالمأساة بدءا من تأسيس المخيم بعد النكبة عام 1948 مرورا بالحروب التي شنت على المخيم والمجازر التي تعرض لها بما فيها صبرا وشاتيلا. في زوايا شاتيلا صور دائمة عن العودة للتمسك بالحق، فالمخيم ليس المكان النهائي لهذه المجموعة من الناس. ستجد في بداية المخيم مفتاحا كبيرا يرمز للمشكلة الأصلية التي سببت كل هذا البؤس والشقاء.
قلما تجد في المخيم احدا لم يفقد إبنا أو أخا او أختا وأما وأبا في هذه المجزرة أو تلك. في أسرة واحده من الطبيعي ان تجد خمسة شهداء من أصل 10 إخوة واخوات. ابو أحمد مثلا لديه 8 اولاد وبنات. اثنان منهم استشهدوا في معارك وحروب الدفاع عن المخيم في ثمانينات القرن العشرين، بينما أحد أبنائه استشهد في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، لكن في شاتيلا له ابن وابنه والباقي من أسرته واولاده أصبحوا في السويد وفي كوبنهاغن في أوروبا. يمكن الجزم بأن أكثر من ثلث إلى نصف عائلات المخيمات أصبحت في أوروبا بفضل سياسة هجرة كثيفة سادت ثمانينات واوائل تسعينيات القرن العشرين.
وبينما أجلس مع الكهل الفلسطيني الذي تجاوز 83 عاما في مخيم شاتيلا ارى صورا متناقضة للحوار والجلسة. لم أشعر لوهلة إنني أمام إنسان عادي، فبالرغم من بساطة مظهره إلا أنه ليس بسيطا، ورغم محدودية تعليمه المدرسي إلا انه يجيد لغة المأساة والمتاهة ولغة السياسة التي إكتوى بنارها. رأيت عبر الحديث معه شريط من الآلام والمآسي، فحديثه مفعم بالثقة بالنفس والقوة التي لا تشبه المخيم الذي دمر عدة مرات في حروب مختلفة. الكهل الفلسطيني في المخيم رمز لعمق المأساة وقوتها، غني بتعبيراته، يشعر بإنتمائه لقضية كبرى وذلك بالرغم من ظروفه الصعبة وسكنه في منزل آيل للسقوط في مخيم دمرته حروب متتالية وأعيد بناؤه بعد كل حرب. هذه الثقة مستمدة من التاريخ ومن أبطال المخيم ومجاهديه ممن قادوه في مراحل مختلفة.
وكما صنعت مأساة اليهود التاريخية الحالة اليهودية بكل تعقيداتها، صنع اليهود الذين إحتلوا فلسطين من الفلسطينيين شعب مشتتا يتميز بشوقه للعودة، بل حولوا الشتات لحالة متوقدة للعودة للارض، مع فارق اساسي عن الحالة اليهودية: الشتات الفلسطيني يقع في الزمن الحاضر وليس في الماضي السحيق، وهو قائم اليوم في قلب الارض كما وحول الحدود، وهو يقع في اقليم تتميز شعوبه بالاستضعاف والبحث عن شروط النهضة. إنه شتات واقع في الزمان الراهن كما والمكان القريب.
إن صفقة سياسية بلا حق العودة والقدس وفي ظل السيطرة الاسرائيلية على الارض هي صفقة مستحيلة. الصهيونية عاجزة عن التوصل لحل وسط من أجل السلام. فالصهيونية حتى اللحظة مستمرة في سياسة الاقتلاع وتطهير الارض من سكانها العرب والسيطرة على الإقليم وتخريبه، وهذا يعني بأن كل استراتيجية لمواجهة الصهيونية يجب أن تكون استراتيجية كفاح ضمن خطة للتعامل مع آليات السيطرة والاقتلاع الصهيونية التي تسعى لأخذ ما تبقى من اراضي الفلسطينيين وحقوقهم.
الثابت في الصراع العربي الاسرائيلي أنه صراع مركب. لقد سقط مشروع الدولة الفلسطينية، لكن مشروع الأرض والحقوق والمكان والعودة والقدس والذاكرة والعدالة والمساواة لم يسقط، لقد استنفد مشروع الكفاح المسلح أهم أغراضه في بناء وتشكيل الهوية الفلسطينية، لكن مشروع النضال والكفاح والعودة بكل الأنواع الأخرى لم يتوقف. لازلنا في بداية الصراع العربي الاسرائيلي ولسنا في نهاياته.

د.شفيق ناظم الغبرا