عقيدة الإبادة الجماعية الجديدة في إسرائيل

عقيدة الإبادة الجماعية الجديدة في إسرائيل

بصفتي يهودياً إسرائيلياً من نسل ناجين من الهولوكوست، أعتقد أن المقارنة بين الظروف في فلسطين وتلك التي سبقت المحرقة ليست مبررة فحسب، وإنما ضرورية أيضاً. فقد أصبحت إسرائيل مستعدة إيديولوجياً لتنفيذ عملية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في الوقت الحالي. وإذا لم نتحرك ونفعل شيئاً، فإن هذه العملية سوف تسير إلى مرحلتها الحاسمة الجديدة –لتصل إلى 6 ملايين فلسطيني وأكثر.
* * *
أنا أدرس وأكتب القصص التأملية التي تستشرف المستقبل. وتتأمل الكثير من كتاباتي في المستقبل الإسرائيلي، وتتصور سيناريوهات غرائبية، بشعة ووحشية، كنوع من التحذير لثقافتي. ولكن في هذه الأيام، عندما أقوم بتثبيت فكرة أخرى في نهاية فصل جديد، فإن شعوري بالإنجاز يكون قاصراً، لأن الواقع يصعد ويعلو على تخيلاتي. وفي الحقيقة، لم يكن بوسع أي مؤلف أن ينبئ عن الجنون الحالي، مثل شاشة التلفزيون الإسرائيلي المقسومة نصفين في البث الحي يوم 14 أيار (مايو): حيث أشباه نتنياهو وأشباه ترامب يبتسمون بهدوء في جانب، والمحتجون الفلسطينيون يحملون قتلاهم في الجانب الآخر، ثم في تلك الليلة حينما كان سكان غزة يبكون على الجثامين بينما يرقص الإسرائيليون بعشرات الآلاف في ميدان رابين، ويغنون “أنا لست لعبتك”.
في الرواية التي أعمل عليها حالياً، أتأمل ما الذي يمكن أن تبدو عليه عملية إبادة جماعية إسرائيلية كاملة (والمقاومة ضدها) من منظور أحد مرتكبي المذبحة وأحد الضحايا. ولكن، بينما بدأت هذا المشروع بابتكار الظروف التي سيحدث فيها مثل هذا الحدث، كانت هذه الظروف -وبما أصابني بالهلع- قد نضجت بالفعل في المجتمع الإسرائيلي. لقد استيقظت على الوضع الذي يتسارع فيه مستقبل ديستوبي بائس قادماً إلى الوجود، ولا أستطيع أن أتدبر حتى مجرد توقف قصير لأكتب عنه قبل وصول العاصفة. لقد أصبح العالم عالقاً في لعبة مستمرة، حيث تغذيات الأخبار تنعش نفسها بلا توقف -وبشكل يتعذر تجنبه، يتدفق الدم. وأصبحت أعاني من قلق غريب ليس له اسم، وأشاهد مستقبلا يبدو كثير الشبه بالماضي، والذي يزحف الآن على الحاضر.
الجانب الدموي بين السياسيين الإسرائيليين -عضو الكنيست سموتريتش، وزير التعليم بينيت، عمدة القدس بركات وأمثالهم- أصبحوا يدعون في الوقت الحاضر إلى الانتقال إلى ما يسمى “المرحلة الحاسمة” في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ إلى تخطي الوضع الراهن إلى “سلام دائم” (بالمناسبة، هذا هو عنوان الكتاب الوحيد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو): “حل نهائي للقضية الفلسطينية”. هذه الرؤية، على طريقة سموتريتش، مأخوذة من سفر يشوع، حيث يقوم الإسرائيليون الغزاة بتنفيذ عملية إبادة ضد الكنعانيين الأصليين، حتى لا تُترك روح واحدة تتنفس، باقتباس توصيف الحاخام موسى بن ميمون. وبحسب المدراش، كانت هناك ثلاث مراحل لهذه العملية. أولاً، أرسل يشوع إلى الكنعانيين رسالة نصحهم فيها بالفرار. ثم، يمكن للذين بقوا أن يقبلوا بمكانة المواطنة الدنيا وباستعبادهم. وأخيراً، إذا قاوموا، سوف تتم إبادتهم. وقدم سموتريتش هذه الخطة علناً باعتبارها التحول المطلوب إلى المرحلة الحاسمة من الصراع. إذا لم يهرب الفلسطينيون ورفضوا القبول بمواطنة أدنى، كما يفعل أي شخص ذي كرامة، “سوف يعرف جيش الدفاع الإسرائيلي ما الذي يجب عمله”، كما يقول.
نعم، كما حدث في قصة مارغريت أتوود “حكاية الخادمة”، يقوم الساسة الإسرائيليون الآن باقتراح السياسات على أساس “السابقة التوراتية”. وهو يتجاهلون في لاهوتهم الرجعي الوصايا من نوع “تيكون عولام” (“إصلاح العالم”، التعليمات التي توصي بالنضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة)، و”فيئاهافتا” (“أحبَّ جارك كما تحب نفسك”، الفكرة التي علم بها الحاخام هيلل التوراة بأكملها)، والمفاهيم التلمودية مثل “شيفيم بانيم لاتورا”، (“سبعون وجهاً للتوراة،” التي تعني أن من الممكن اشتقاق العشرات من النصوص من كل آية).
كما حدث في حالة الأتراك والأرمن، والهوتو والتوتسي، والألمان واليهود، يتم تبرير الإبادة الجماعية على أساس أن هناك لعبة محصلتها صفر، والتي لا يمكن أن ينتصر فيها إلا جانب واحد فقط. الفلسطينيون يريدون أن يلقوا بنا في البحر، كما يدعي الصهاينة، و”هو الذي يأتي لقتلك، انهض مبكراً واقتله أولاً”. وفي كتابه، الذي يقول مساعدوه إنه يعود إليه في بعض الأحيان لكتابة خطاباته، يرى رئيس الوزراء نتنياهو “الفلسطينيين” (ويتأكد من وضعهم اسمهم بين علامات تنصيص) كـ”أمة وهمية” (ص 56)، وينكر وجودهم كشعب له ثقافة وتاريخ فريدان متفردان. وهو يعتبرهم أداة في اللعبة التي محصلتها صفر بين الإسلام والغرب. ويرى المؤرخ الإسرائيلي البارز بيني موريس، الذي روى بدقة جرائم الصهاينة، من الاغتصاب والقتل إلى التطهير العرقي في العام 1948، أن نزوح 750.000 فلسطيني فقط في تلك الحرب كان أكبر خطأ ارتكبه بن غوريون. وفي رأيه، كان ينبغي على بن غوريون أن ينهي المهمة، وهذا بالضبط ما يسعى إليه رجال الدولة الإسرائيليون البارزون هذا اليوم.
لا توجد قوى في المجتمع الإسرائيلي قادرة -أو راغبة في- وقف صعود هذا الاتجاه. ويجري تلقين الجنود الإسرائيليين، كما أظهر القناصة المبتهجون للعالم في غزة، بحيث يعتبرون جميع الفلسطينيين تهديدات أمنية تستحق الموت. وتحتفل الجماهير الإسرائيلية بالإفراج المبكر عن القتلة الإسرائيليين المدانين، طالما أن الضحايا هم من العرب. وتهتف الحشود إسرائيلية: “أحرقوهم، أطلقوا الرصاص عليهم، اقتلوهم” بينما يتم افتتاح السفارة الأميركية في القدس. ومن جنود المشاة إلى كبار الضباط، ومن الذين يلوحون بالأعلام في الشوارع إلى قمم الأوساط الأكاديمية، أصبحت إسرائيل جاهزة لتنفيذ “محرقة فلسطينية”.
سوف ينكمش بعض اليهود أثناء قراءة هذه الكلمات. فقد أصبحت عبارة “أسور لي-هاشفوت” (“المقارنة محظورة”) الآن مثلاً عبرياً شائعاً. من المحظور مقارنة المعاناة اليهودية بمعاناة الآخرين. وقد أجريتُ عدة مقارنات. ومع ذلك، وبصفتي يهودياً إسرائيلياً من نسل ناجين من الهولوكوست، فإنني أعتقد أن هذه المقارنات ليست مبررة فحسب، بل إنها واجبة وضرورية. إن المجتمع الإسرائيلي مستعدٌ إيديولوجياً لتنفيذ عملية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في الوقت الحالي، وإذا لم نقم بعقد المقارنة والتصرف على هذا الأساس، فإن إسرائيل ستسير إلى المرحلة الحاسمة -وصولاً إلى تطهير 6 ملايين فلسطيني وأكثر.
في مقارنته الخاصة، شبَّه الوزير الإسرائيلي جلعاد أردان الفلسطينيين القتلى بالنازيين، وقال: “إن عدد القتلى لا يشير إلى أي شيء –تماما كما أن عدد النازيين الذين ماتوا في الحرب العالمية لا يجعل من النازية شيئاً يمكنك تفسيره أو فهمه”. ومن الواضح أن إحصاء القتلى لن يساعد في إيقاظ الإسرائيليين على هول أفعالهم. فقط بعد سقوط نظامهم –كما كان حال أبناء جنوب أفريقيا البيض مع نظام الفصل العنصري المؤسف- سوف يدركونها بفزع. ولذلك، من أجل وقف الإبادة الجماعية الوشيكة، يجب على زعماء العالم التوقف عن الكلام والبدء في العمل. وسوف يشكل حظر الأسلحة والعقوبات الاقتصادية واعتقال مجرمي الحرب المسافرين بداية مستحقة طال انتظارها. وسيكون أي شيء أقل من ذلك تواطؤاً.
بصفتي إسرائيلياً، فإنني أدرك العواقب التي قد ترتبها هذه التدابير على حياتي وعلى حياة أحبائي. وتتضاءل هذه العواقب كلها أمام نتائج الاعتداء على الحقوق الفلسطينية. سوف يتم الشعور بذلك في جميع أنحاء العالم، وخاصة عند الناس المهمشين، كما تهدد آن كولتر، عندما تشاهد إطلاق النار على المتظاهرين الفلسطينيين، وتقول: “هل يمكننا أن نفعل ذلك”؟ ومع تخصيص 75 % من الصناعة العسكرية الإسرائيلية للتصدير، توقعوا الطائرات المسيّرة الإسرائيلية المختصة بإسقاط قنابل الغاز المسيل للدموع وهي تئز فوق احتجاج “ستاندينغ روك” التالي أو “التمرد الباريسي” التالي. وتوقعوا أن يطلق القناصة النار على المهاجرين المكسيكيين.
توقعوا أن تصل العاصفة قبل أن نشرع في الانتباه. وفي قصتي المتخيلة، سوف تحدث المحرقة الفلسطينية أثناء الحرب مع سلطة إسلامية محلية. وسوف تبرر إسرائيل المذبحة الجماعية بأنها حقها في الدفاع عن نفسها. لن تضع الغزيين على متن القطارات أو تبني لهم معسكرات للإبادة، لكنها ستقصفهم حتى الموت. ومن المفارقات أن وجود المستوطنين سيكون بمثابة درع بشري فعلي بحكم الأمر الواقع، والذي يستلزم استخدام أساليب مختلفة لإبادة وترحيل فلسطينيي الضفة الغربية، وفلسطينيي القدس الشرقية، والفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية. وإذا فشل العالم في التصرف بفعالية لدعم الفلسطينيين، فسيكون هذا هو ذروة النكبة -عملية إبادة الفلسطينيين التي بدأت منذ 140 عاماً.

أميتاي بن أبا 

الغد