أجهزة بوتين السرية.. كيف نظّم الكرملين جهاز الأمن الفيدرالي الروسي؟

أجهزة بوتين السرية.. كيف نظّم الكرملين جهاز الأمن الفيدرالي الروسي؟

كان تحسين الانضباط هو بالضبط ما شرع بوتين في عمله؛ فوجد الحكام الإداريون والمسؤولون أنفسهم في السجن بتهمة الفساد؛ وتم إلقاء مخرجي الأفلام، والعلماء والأشخاص العاديين في السجن بتهمة مساعدة أوكرانيا. ولعب جهاز الأمن الفيدرالي دوراً رئيسياً في تنفيذ هذه الحملات الصارمة، وإنما ليس بمبادرة منه على الإطلاق. والآن، أصبح بوتين، الذي يحكم من خلال الإدارة الرئاسية، هو الذي يتخذ القرارات ويحدد الوجهات ويقوم بلعب الدور القديم لـ”المكتب السياسي”.
*   *   *
في شهر نيسان (أبريل)، ضربت سلسلة من الاحتجاجات منطقة موسكو. ولم تكن هذه الاحتجاجات ذات طابع سياسي بشكل واضح -كان المواطنون يحتجون على مدافن النفايات السامة في أحيائهم- ولم تكن التجمعات كبيرة للغاية؛ حيث كانت تضم في الغالب بضعة آلاف من الأشخاص في منطقة يقطنها ما يزيد على سبعة ملايين نسمة. وفي ذروة الاحتجاجات، خرج الناس إلى الشوارع في تسع بلدات تحيط بالمدينة.
مع ذلك، بدت هذه الاحتجاجات منسقة بشكل جيد. وفي بعض المدن، دعمت سلطات المدينة الناس ومنحتهم الإذن بالاحتجاج. فحتى بالنسبة للمسؤولين، كان من الصعب تجاهل الروائح النكراء التي تنبثق من مدافن النفايات، أو مشاعر الأمهات والآباء الغاضبين الذين أصيب أطفالهم بالتسمم. وإحدى هذه البلدات كانت سيرباخوف، التي تقع على بعد 60 ميلاً إلى الجنوب من موسكو.
بعد أسبوع من بدء الاحتجاجات، تم استدعاء مسؤول من منطقة سيرباخوف، ألكسندر شيستون، إلى الكرملين. وهناك، التقى مع إيفان تكاتشيف، وهو جنرال من جهاز الأمن الفيدرالي، وكالة الاستخبارات الروسية القوية وخليفة جهاز الشرطة السرية في العهد السوفياتي، (كيه. جي. بي). ولأنه كان متخوفاً من الاجتماع، قرر شيستون تسجيل المحادثة بشكل سري، والتي نشرها لاحقاً على “يوتيوب”.
في التسجيل، يهدد تكاتشيف شيستون، ويقول له: “سوف تُسحق بالمدحلة إذا لم تستقل. سوف تكون في السجن. مثل كثيرين قبلك، أنت لا تفهم، إنها عملية ‘تطهير’ كبيرة”. وبعد أن ألمح إلى أنه كان يتلقى الأوامر من الكرملين، ذكر أسماء العديد من المسؤولين الكبار الذين تم سجنهم بالفعل، بما في ذلك جنرال من وزارة الداخلية، واثنان من المحافظين -حتى أن تكاتشيف يلمح في حديثه إلى أن أندريه فوروبيوف، محافظ منطقة موسكو والرئيس السابق للحزب الحاكم “روسيا المتحدة”، يمكن أن يكون الهدف التالي.
لم تكن محاولة جهاز الأمن الفيدرالي الخرقاء لإسكات صوت شيستون حادثة منعزلة. بدلاً من ذلك، وفي إطار نهجها القائم على الترهيب والقمع الانتقائي -الذي يديره الكرملين وينفذه جهاز الأمن الفيدرالي- كانت هذه الحلقة مثالاً كاشفاً فقط لنوع الحكم الجديد الذي طوره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مدى السنوات الثلاث الماضية، والدور الذي تضطلع به أجهزة الاستخبارات من ضمنه.
النبلاء الجدد
منذ صعود بوتين إلى سدة السلطة في العام 2000 حتى وقت قريب، تمتع أعضاء جهاز الأمن الفيدرالي بمكانة “النبلاء الجدد”، على حد تعبير المخرج السابق نيكولاي باتروشيف. وكانت الوكالة ممولة بسخاء، حصينة من الرقابة، وحرة في التصرف ضد أعداء الكرملين الحقيقيين والمتصورين. كما وفرت الوكالة الموارد البشرية -الجنرالات والكولونيلات- لشغل مناصب مهمة داخل الدولة والشركات المملوكة للدولة. ولفترة من الزمن، أصبح جهاز الأمن الفيدرالي -كما وصفناه، إيرينا بوروغان وأنا في العام 2010- هو النخبة الحقيقية للبلاد.
خلال سنواته الأولى في المنصب، عمل بوتين، الضابط السابق في جهاز المخابرات السوفياتية (كيه. جي. بي)، على التخلص من لامركزية أجهزة الاستخبارات الروسية التي حدثت في التسعينيات -وهي مهمة شملت إلى حد كبير تركيز السلطة داخل جهاز الأمن الفيدرالي، والسماح لأفراده بجمع الثروة والنفوذ السياسي. وقد أمل بوتين بأن يقوم ذلك بتحويل أجهزة الاستخبارات إلى شيء يشبه طبقة جديدة -واحدة موالية للكرملين، لها مصلحة في استقرار النظام وقادرة على أن تكون بمثابة ضابط لطموحات الأوليغارشية القوية في روسيا.
لكن إغراءات السلطة وقلة الرقابة كانت بالنسبة للعديد من هؤلاء النبلاء الذين تم تمكينهم حديثاً، أقوى من أن تقاوَم. وبحلول منتصف العام 2000، كانت أجهزة بوتين السرية -بما في ذلك جهاز الأمن الفيدرالي، والدائرة الفيدرالية لمكافحة المخدرات، وجهاز الأمن الرئاسي- تتجادل، وتتقاتل، وتتجسس على بعضها بعضاً وتسجن واحدتها عناصر من الأخرى في سباق التنافس على الغنائم. وفي الحقيقة، تحول كثيرون في هذه الأجهزة إلى مرتزقة للأوليغاركيين الذين كان من المفترض أن تبقيهم تحت السيطرة. وفي العام 2007، اشتكى فيكتور تشيركيسوف، رئيس الدائرة الفيدرالية لمكافحة المخدرات والصديق المقرب من بوتين، من أن “محاربي” أجهزة الاستخبارات قد “تحولوا إلى تجار” بعد قيام جهاز الأمن الفيدرالي بسجن نائبه، الجنرال ألكسندر بولبو،  بتهمة التنصت غير القانوني. ولأن تشيركيسوف اشتكى علناً، فإنه فقد وظيفته.
بالإضافة إلى ذلك، تبين أن ثقة بوتين في جهاز الأمن الفيدرالي كانت في غير محلها. فقد فشلت الوكالة في التنبؤ بالاحتجاجات الضخمة التي ضربت موسكو في العام 2011، ثم بمجرد اندلاع الاحتجاجات، كانت عاجزة عن الاستجابة لاستخدام المتظاهرين لوسائل الإعلام الاجتماعية في التعبئة والتنظيم. وعندما أرسل جهاز الأمن الفيدرالي طلباً إلى الشبكة الاجتماعية الأكثر رواجاً في روسيا، فكونتاكتي، لإزالة الصفحات التي يستخدمها المتظاهرون، فإنه قام بذلك عن طريق الفاكس. وخلال المراحل الأولى من أزمة 2013-2014 في أوكرانيا، أرسلت موسكو فريقاً من جهاز الأمن الفيدرالي إلى هناك لمساعدة حليفها، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وبالنسبة للكرملين، كانت أوكرانيا هي الدولة الأكثر أهمية بينت جميع الجمهوريات السوفياتية السابقة، وكان إبقاؤها ضمن مدار النفوذ الروسي أمراً بالغ الأهمية. ولكن، لم يقتصر الأمر على فشل ضباط جهاز الأمن الفيدرالي في مساعدة يانوكوفيتش على البقاء في السلطة فحسب، وإنما فشلوا حتى في رؤيته وهو يفقد أعصابه ورباطة جأشه، وأُخِذوا بالمفاجأة عندما فر من العاصمة في شباط (فبراير) من العام 2014.
الانضباط العمالي
بعد هذا الفشل المتصاعد، بدأ بوتين، حوالي العام 2015، في تغيير مخططه. وعمد إلى التخلص من الأصدقاء القدامى الذين كانوا مؤيدين ومستفيدين من الدور الموسع للأجهزة السرية. وفي آب (أغسطس) من العام 2015، أطاح بوتين بحليفه السابق فلاديمير ياكونين، وهو ضابط سابق في الاستخبارات السوفياتية (كيه. جي. بي)، من منصبه كرئيس لصناعة السكك الحديدية التي تملكها وتحتكرها الدولة في روسيا. ثم في العام 2016، تعامل مع الثنائي إيفانوف، فقام بإقالة فيكتور وبحل الدائرة الفيدرالية لمكافحة المخدرات في أيار (مايو)، ثم قام بتخفيض رتبة سيرجي، رئيس موظفيه، في آب (أغسطس). وحول ذلك الوقت، توقف بوتين أيضاً عن استخدام جهاز الأمن الفيدرالي كقاعدة للتعيين في المناصب المهمة في الحكومة والاقتصاد.
لم يكن الهدف من هذه التغييرات هو جعل أجهزة الاستخبارات أقل أهمية؛ كان الهدف هو الحد من استقلاليتها. وكان بوتين بصدد التخلي عن فكرة ترسيخ نظام حكم مستقر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ حيث من المفترض أن يلعب النبلاء الجدد دوراً حاسماً. وبدلاً من ذلك، كان يوضح أن ما يحتاجه هو أداة، صرفة وبسيطة، لحماية نظامه فحسب.
هذا النموذج الجديد مألوف من حقبة الاتحاد السوفياتي السابق، عندما أخذ “المكتب السياسي” زمام المبادرة في تقرير وجهة الأمور وأبقى أجهزة الاستخبارات تحت السيطرة الحازمة، مع منحها الحد الأدنى من المساحة للعمل المستقل. وفي المقابل، أبقى جهاز المخابرات السوفياتية (كيه. جي. بي) النخب غير مستقرة وبعيدة عن التوازن (وأخاف السكان) من خلال ممارسة القمع الانتقائي، وهي الاستراتيجية التي وصفها زعيم الاتحاد السوفياتي الذي يقدره بوتين أكثر ما يكون، يوري أندروبوف، بـ”تحسين الانضباط العمالي”. وكان تحسين الانضباط هو بالضبط ما شرع بوتين في عمله؛ فوجد الحكام الإداريون والمسؤولون أنفسهم في السجن بتهمة الفساد؛ وتم إلقاء مخرجي الأفلام، والعلماء والأشخاص العاديين في السجن بتهمة مساعدة أوكرانيا. ولعب جهاز الأمن الفيدرالي دوراً رئيسياً في تنفيذ هذه الحملات الصارمة، وإنما ليس بمبادرة منه على الإطلاق. والآن، أصبح بوتين، الذي يحكم من خلال الإدارة الرئاسية، هو الذي يتخذ القرارات ويحدد الوجهات ويقوم بلعب الدور القديم لـ”المكتب السياسي”.
ثمة جزء مهم من هذا النموذج الجديد هو إبقاء الجميع في حالة من عدم التوازن، بما في ذلك أجهزة إنفاذ القانون والأجهزة السرية. وفي العام الماضي، صُعِق جهاز الأمن الفيدرالي بعمليات التطهير التي ضربت مديريته في موسكو ووحدته الإلكترونية، “مركز أمن المعلومات”، التي أجبر رئيسها، أندريه غيراسيموف، على التقاعد. وتم تقديم نائبين لرئيسها إلى المحكمة –حيث انتهى المطاف بسيرجي ميخائيلوف إلى السجن، بينما حكم على ديمتري برافيكوف بالسجن مع وقف التنفيذ. كما تعرض جهاز الأمن الفيدرالي إلى الإحراج الشديد بسبب قضية تم نشرها على نطاق واسع العام الماضي ضد الجنرال فلاديمير بودولسكي، القائد السابق لوحدة القوات الخاصة الأسطورية التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي، “فيمبل”، الذي اتُهم بالاحتيال وحُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات.
سرعان ما فهم البعض أن البلد كان يعود إلى النموذج السوفياتي. وفي مقابلة أجريت في كانون الأول (ديسمبر) 2017 بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس “تشيكا”، السلف الشهير لجهاز “كيه. جي. بي”، وجد مدير جهاز الأمن الفيدرالي، ألكسندر بورتنيكوف، بعض الكلمات الدافئة ليقتبسها من افرنتي بيريا، جلاد ستالين الرئيسي، وأثنى على جوانب من “تطهير ستالين العظيم”. وقد اعتصم آخرون بالظهور القليل. وتعمل وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، على الحد من ظهورها في المجال العام، كما تخلى الحرس الوطني الذي تم تشكيله مؤخراً عن طموحه للحصول على صلاحيات المراقبة.
طيران على غير هدى
يوحي نموذج بوتين الجديد بعدم وجود متسع كبير للتنافس والعداوات بين الوكالات والأجهزة. فقد أصبح جميع البيروقراطيين في روسيا، من الوزراء إلى جنرالات جهاز الأمن الفيدرالي إلى المسؤولين الإقليميين، يواجهون الآن المستقبل غير المؤكد نفسه. ويجب أن يجعل ذلك النخب في البلاد تحت السيطرة إلى حد كبير؛ حيث يخاف الجميع من القيام بخطوة غير مصرح بها. ولتحقيق هذا الأمن، يبدو بوتين مستعداً للتضحية حتى بالقدرة على التخطيط للمدى الطويل -لا أحد يتوقع من البيروقراطيين الخائفين، أو حتى الجواسيس، أن يخططوا للمستقبل.
ومع ذلك، ينطوي هذا النموذج الجديد على عيب قاتل آخر. فقد رأى بوتين النموذج السوفياتي المتأخر من منصبه المنخفض كضابط في جهاز “كيه. جي. بي” في قسم إقليمي في لينينغراد، ثم في وقت لاحق، في ألمانيا الشرقية. وكان بعيداً جداً عن مركز السلطة في موسكو ليرى بنفسه إخفاقات هذا النظام، الذي لم يكن قادراً على التنبؤ بانهيار الاتحاد السوفياتي أو منع انهياره.
كانت المشكلة الرئيسية في النموذج السوفياتي المتأخر هي أن وكالات جمع المعلومات، بما في ذلك جهاز المخابرات السوفياتية “كيه. جي. بي”، توقفت في نهاية المطاف عن إيصال المعلومات المهمة إلى القمة، خوفاً من إخبار رؤسائها بما لا يريدون سماعه. ومن المفارقات أن هذه مشكلة لا يفهمها بوتين أبداً. وقد رأى مسبقاً أجهزته السرية وهي تخفق وتخذله في لحظات الأزمات، كما حدث أثناء احتجاجات موسكو. ولكنه يعرض نفسه، بأسلوبه في إصلاح هذه الأجهزة، إلى عواقب ربما تكون أكثر كارثية.

أندريه سولداتوف

الغد