العربية الفصحى في تراجع: واقع مقلق لهذه الأسباب

العربية الفصحى في تراجع: واقع مقلق لهذه الأسباب

ينبغي أن يثير تراجع اللغة العربية الفصحى قلق صانعي السياسة في المنطقة. فهو يكشف عن تراجع الطبقات المتعلمة، وفشل الحكومات العربية في خلق أنظمة تعلمية يمكن أن تفي بحاجات مواطنيها. ومع أن البعض يحتفون بالاستخدام واسع النطاق للهجات المحلية في وسائل الإعلام الاجتماعية، كمؤشر على أن الهويات المحلية تنتصر على الهوية “الجامعة” المفروضة قسراً، فإن هذا الواقع ينبغي أن يقابَل بالحذر. إن الهويات المحلية ليست بالضرورة هويات وطنية، وإنما هي في كثير من الأحيان دون وطنية. وبذلك، وبدلاً من التعبير عن تماسك وطني قوي، فإنها تظهر فشل الدول العربية في توحيد شعوبها.

* * *

يحذر الكثيرون الآن من أن اللغة العربية الفصحى أصبحت في حالة انحدار. ويبدو البعض سعيدين برؤية أفولها. لكن من المهم ملاحظة العوامل التي تدفع بهذا الانحدار، وما الذي يعنيه تراجعها للمنطقة.

غالباً ما يرى العرب انحدار اللغة العربية الفصحى باعتبارها فشلاً لدولهم في الحفاظ على تراث اللغة العربية؛ لغة القرآن والإسلام. ومع أن البعض يبتهجون بصعود اللغات العامية أو اللهجات المحكية، كمؤشر على أن الهويات المحلية تصعد وتكسب المزيد من الهيمنة، فإن تراجع العربية الفصحى يشكل في الحقيقة تحذيراً من ضعف يصيب البنية التحتية الاجتماعية، ومن تراجع النظام التعليمي.

قبل أن نذهب أبعد في هذا الإطار، من الجدير أن نتساءل عما إذا كانت اللغة العربية الفصحى تشهد تراجعاً حقاً. وليست هناك -للأسف- إحصائيات واضحة حول هذا الموضوع، وكل ما يشاهده الناس بشكل عام هو مجرد مؤشرات فردية. وتستخدم اللغة العربية الفصحى عادة في وسائل الإعلام العربية، وفي المواقف الرسمية مثل الخطب السياسية، والعظات والنصوص الدينية، والأدب. وعندما يتحدث الناس عن تراجع العربية الفصحى، فإنهم يشيرون عموماً إلى التراجع في الأدب، والتعليم، وتصاعد استخدام اللهجات المحلية أو اللغات الأجنبية بدلاً من العربية الفصحى.

يشكل ضعف الاقتصادات، والحروب والرقابة بعضاً من العوامل الرئيسية التي تدفع تراجع اللغة العربية الفصحى. ومع أن معدلات التعليم في مقابل الأمية في الشرق الأوسط في ارتفاع -ربما باستثناء العراق في السنوات الأخيرة (وربما سورية أيضاً، إذا أمكن جمع الإحصائيات من البلد الذي مزقته الحرب)- فإن هذه المقاييس ربما تكون مضللة. وعادة ما تنظر الإحصائيات فقط في التعليم الوظيفي، أو القدرة على فهم “عبارة قصيرة وبسيطة عن حياة المرء اليومية”. كما أنها قائمة على مسوحات تستخدم مقياساً ثنائياً للمتعلم في مقابل غير المتعلم؛ حيث يُطلَب من أفراد العينة أن يجيبوا عن الأسئلة وحدهم (بحيث تعاني الإجابات عادة من انحياز الاختيار الذاتي). وعادة ما لا يتم التعامل في المسوحات مع الأسئلة عن المستويات المختلفة من التعليم، أو مجموعات المهارات اللغوية المختلفة مثل القدرة على الإنتاج (الكتابة)، والانخراط النشط مع النص، أو مجرد القراءة السلبية فحسب.

وهكذا، لا تناقض في القول إن التعليم الوظيفي في ارتفاع، لكن ذلك التواصل مع اللغة العربية الفصحى واستعمالاتها -مثل النصوص الأدبية والأكاديمية المتطورة أو المعقدة- هو في تراجع. وينشر العالم العربي الآن ما بين 15.000 و18.000 كتاب سنوياً، أي بقدر ما تنشر دار “بينغوين راندوم هاوس” للنشر وحدها. وكانت مصر ذات مرة أكبر منتج للكتب في العالم العربي، بمجموع يتراوح بين 7.000 و9.000 كتاب في العام. وعلى الرغم من أن إنتاجها كان سابقاً في صعود، فإنه هبط بنسبة هائلة هي 70 في المائة بعد ثورة العام 2011، وبحلول العام 2016 فقط “أصبح يعرض بوادر انتعاش”. وتترجم اليونان من الكتب إلى اليونانية أكثر بخمسة أضعاف ما تترجمه كل الـ22 دولة عربية مجتمعة. ويقول الكاتب والناقد الأدبي المغربي، عبد الفتاح كيليطو، إن طلبته في الماجستير “لا يقرؤون أي شيء على الإطلاق”.

تعاني المراكز العربية الرئيسية كلها في هذا الصدد، وخاصة مصر ولبنان وسورية والعراق. وحسب نيغار عزمي، من محرري نشرة “بدون” Bidoun: “في عهد مبارك، تعثر المشهد الأدبي المصري”. وكانت الرقابة تدفع المثقفين إلى الخروج، مثلما حدث مع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، الأستاذ في جامعة القاهرة الذي كتب عن الدين. وقد أعلنت المحكمة أبو زيد مرتداً عن الدين الإسلامي وطلقته من زوجته (بما أن رجلاً غير مسلم لا يستطيع أن يتزوج امرأة مسلمة في مصر). وقادته التهديدات بالموت لاحقاً إلى طلب اللجوء هو وزوجته في هولندا. وحتى لو لم يكن أحد الكتب محظوراً بشكل رسمي، فإن بالوسع جعل الوصول إليه صعباً بطرق أخرى، مثل عدم وجود جهة تقوم بنشره أو طباعته. وعلى سبيل المثال، بعد سؤال العديد من المكتبات في مصر عن رواية محمد يوسف القعيد “لبن العصفور”، وهي رواية كُتبت بالعامية المصرية، قيل لي إنه ليس محظوراً لكن محلات الكتب لا تقتنيه لأنه مثير للجدل.

تعاني سورية والعراق من الحروب. وسورية -التي كانت معروفة ذات مرة بوجود أكاديمية للغة العربية تعنى بدراسة وتطوير اللغة، بالإضافة إلى أن كل نظامها التعليمي انتهاء بالجامعة هو باللغة العربية- أصبحت الآن مدمرة. ويجد اللاجئون السوريون أنفسهم في بلدان لا تستخدم اللغة العربية في التعليم. وحتى لبنان المجاور يستخدم الإنجليزية أو الفرنسية في نظامه التعليمي.

أدى تضافر هذه العوامل أيضاً إلى إضعاف الطبقات المتعلمة -من أولئك الذين تعلموا باللغة العربية الفصحى في الدول العربية. وعادة ما تتحدث الطبقة المتعلمة، أو أنها تكون قادرة على الأقل على التحدث عند الحاجة بمستوى أكثر رسمية من العربية، أو ما يسمه اللغوي المصري سيد بدوي “عامية المثقفين” لتمييزها كشكل أقرب إلى اللغة العربية الفصحى من كلام الناس الأقل تعليماً والأميين. وفي الحركة النمطية لهجرة الأدمغة، يستطيع القادرون الانتقال إلى الخارج لتجنب الحروب أو العثور على الأمل وتأمين مستقبل لأطفالهم. وحتى أولئك الذين لا يغادرون، يفضلون في معظم الأحيان اللغات الأجنبية على العربية الفصحى. وهم ينظرون إلى اللغات الأجنبية باعتبارها أكثر عملية، وأفضل للمظهر الاجتماعي، والتي يرجح أن تضمن لهم وظيفة. وغالباً ما يعمل الشباب عبر المنطقة بشكل كامل باستخدام لغة أجنبية ولا يكونون مرتاحين مع العربية الفصحى. وذكر حرم جامعة “نورث ويسترن” في دولة قطر مؤخراً أن معظم طلبة الجامعة ليسوا ماهرين بما يكفي في العربية الفصحى للظهور على شاشة الجزيرة. ويقال إن شباب منطقة الخليج العربي يستخدمون الإنجليزية أكثر من العربية في المنزل.

كما تعاني العربية الفصحى أيضاً من كيفية تصور العرب وفهمهم لها. وبينما يُنظر إلى العربية الفصحى في كثير من الأحيان على أنها تستخدم فقط في المؤسسات الرسمية (وتدعى في بعض الأحيان “العربية الرسمية”)، فإن هذا السياق يكشف عن الكثير. فمع نضوب الطبقات المتعلمة، تصبح العربية الفصحى مقصورة أكثر وأكثر على السياقات السياسية والدينية، والتي عادة ما ترتبط بمنظومات قمعية ومحافظة. ويعد الأدب بشكل عام مادة ثقيلة؛ وثمة القليل من الكتب الخفيفة مثل “كتب الشاطئ”، أو الأشكال الأكثر تسلية من الأدب مثل الروايات المصورة، التي تنشر بالعربية (العامية أو الفصحى). وعلى النقيض من ذلك، تُصنع أكثر العروض التلفزيونية والأفلام والمسلسلات العربية باللهجات العامية. وفي وسائل الإعلام الاجتماعية، تهيمن اللهجات المحكية، ولو أن العربية الفصحى تُستخدم فيها أيضاً.

من اللافت أن بعض المحاولات قد بذلت لإعادة تنشيط العربية الفصحى. لكن من غير المرجح أن تنجح هذه الجهود في إنقاذ العربية الفصحى في وجه الاقتصادات المتداعية، والحروب والرقابة. وتتم دبلجة بعض أفلام “ديزني” بالعربية الفصحى بدلاً من اللهجة المصرية التي كانت تُستخدم عادة حتى تكون هذه الأفلام أسهل وصولاً إلى الأطفال. كما يتم نشر بعض الروايات المصورة بالعربية الفصحى أيضاً. لكن هذه المنتجات تشكو مع ذلك من قلة الوصول وصعوبة الفهم، ولذلك من غير الواضح ما إذا كانت قابلة للإدامة مالياً على المدى الطويل. وعلى سبيل المثال، يقول همفري ديفيز، المعروف بترجمته لكتب الأدب العربي، إنه في حين أن الروايات المصورة وروايات الرسوم الكرتونية حققت نجاحاً كبيراً منذ ثورة العام 2011 في مصر، فإنها تخضع للرقابة في كثير من الأحيان بسبب “مباشرة تأثيرها البصري”. وبشكل عام، تُظهر منطقة الخليج وعياً متنامياً بحقيقة تراجع الاهتمام باللغة العربية الفصحى، لكنها لا تعرض حلولاً واقعية. وفي تجسيد للمفارقة، فإن الكثير من المواد الإعلامية (المقالات والفيديوهات) التي تتحدث عن تراجع اللغة العربية تكون مشغولة باللغة الإنجليزية. كما ظهرت أيضاً دراسات تبحث في كيفية تحسين تعليم العربية، لكنها تتطلب إجراء تغييرات اجتماعية وبيروقراطية هائلة، والتي لا يمكن تطبيقها بسرعة وسهولة.

ينبغي أن يثير تراجع اللغة العربية الفصحى قلق صانعي السياسة في المنطقة. فهو يكشف عن تراجع الطبقات المتعلمة، وفشل الحكومات العربية في خلق أنظمة تعلمية يمكن أن تفي بحاجات مواطنيها. ومع أن البعض يحتفون بالاستخدام واسع النطاق للهجات المحلية في وسائل الإعلام الاجتماعية، كمؤشر على أن الهويات المحلية تنتصر على الهوية “الجامعة” المفروضة قسراً، فإن هذا الواقع ينبغي أن يقابَل بالحذر. إن الهويات المحلية ليست بالضرورة هويات وطنية، وإنما هي في كثير من الأحيان دون وطنية. وبذلك، وبدلاً من التعبير عن تماسك وطني قوي، فإنها تظهر فشل الدول العربية في توحيد شعوبها.

وحتى لو ذهبت اللهجات المحكية إلى المقدمة ووصلت إلى مكانة اللغات الوطنية الرسمية -وهي نتيجة غير مرجحة بالنظر إلى المكانة الرفيعة التي يعطيها العرب للغة العربية الفصحى- فإن تحديات أخرى سوف تظهر. وعلى سبيل المثال، لم تطوِّر اللهجات المحلية مطلقاً أي مفردات تقنية بالطريقة التي فعلتها العربية الفصحى، وسوف يترتب إجراء مراجعات شاملة وتنقيح كامل للأنظمة التعلمية حتى يمكن التعليم باللهجات.

إن الرواية قاتمة، لكن هذا لا يعني أن الوضع ميؤوس منه. في الماضي، عندما كانت اقتصاداتها أقوى، كانت الدول العربية قادرة على بناء طبقة متعلمة كانت مرتاحة مع استخدام العربية الفصحى. ومع ذلك، من دون الاستثمار في مواطنيها، ومن دون بذل جهد منسق ومتضافر لتغيير التصورات عن العربية الفصحى، ومن دون مراجعة أنظمتها التعليمية بحيث تستطيع جسر الهوة بين العربية الفصحى واللهجات المحلية المحكية بشكل أفضل، فإننا سنواصل على الأغلب مشاهدة تراجع اللغة العربية الفصحى، والذي يعكس انحداراً أوسع في المنطقة برمتها.

حسام أبو زهر

الغد