المحكمة العليا.. قبضة المحافظين التي قد تغير أميركا لعقود

المحكمة العليا.. قبضة المحافظين التي قد تغير أميركا لعقود

 

 

 

وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتلهف إلى بسط سيطرته على مختلف المؤسسات الأميركية نفسه أمام فرصة نادرة لزيادة نفوذه في المحكمة العليا المرجعية الدستورية الأهم، والهيئة القضائية الأعلى في الولايات المتحدة مع تقاعد قاض بارز وتخليه عن منصبه.
وقد أعلنت المحكمة الأميركية العليا أن القاضي أنتوني كينيدي (81 عاما) سيتقاعد في نهاية يوليو/تموز المقبل مع بلوغه سن 82 عاما، وذلك بعد أن خدم في المحكمة الفدرالية 43 عاما، من بينها ثلاثون في المحكمة العليا، حسب تصريحات أدلى بها في خطاب استقالته.

فرصة من ذهب
ربما يمثل تقاعد كينيدي أعظم هدية استقبلها الرئيس ترامب في الآونة الأخيرة، حيث تمثل المحكمة العليا دورا محوريا وجوهريا في النظام القضائي الأميركي، وتعتبر المرجعية الأخيرة للقوانين الذي تتباين الرؤى بشأنها قبولا ورفضا، وتحمل قراراتها ثقلا سياسيا هائلا.

ويظل قضاتها في مناصبهم مدى الحياة ما دام سلوكهم حسنا، ولا تنتهي خدمتهم إلا بالوفاة أو الاستقالة أو التقاعد أو الإدانة، وهو ما يعني أن ترامب لا يملك -في الظروف الطبيعية- أي أوراق للتأثير عليهم إقالة أو تغييرا أو تحويلا.

وتتكون المحكمة العليا الأميركية من رئيس وثمانية قضاة معاونين يعينهم الرئيس الأميركي ويوافق عليهم مجلس الشيوخ بالتصويت بالأغلبية، ويتوفر كل قاض على صوت واحد.

ويمنح تعيين قاض جديد الرئيس ترامب فرصة نادرة لتعزيز سيطرته وتقوية نفوذ المحافظين عموما على هذه المحكمة التي ترجع إليها الكلمة الأخيرة في القضايا والقوانين التي تثير الجدل، والحكم بشأن دستوريتها، فضلا عن تثبيت أو إلغاء الأوامر التنفيذية التي يصدرها الرئيس في مراحل الاستئناف النهائية.

وقد أصدرت هذه المحكمة قبل ثلاثة أيام قرارا نهائيا بتأييد قرار ترامب المثير للجدل حظر دخول مواطني عدة دول تسكنها أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة رغم رفضه من العديد من محاكم الولايات والمحاكم الفدرالية الأميركية.

صراع جديد
وظل تعيين قضاة هذه المحكمة العتيدة محل جدل سياسي دائم بين الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي طوال العقود الماضية، ولكن تشكيلتها مع ذلك حافظت في الأغلب على نوع من التوازن يميل أحيانا لهذا الطرف أو ذاك.

ومع تقاعد كينيدي يطل ذات الجدل الإعلامي والصراع السياسي بين الطرفين بعناوين جديدة هذه المرة، فالجمهوريون يحاولون اغتنام الفرصة وتسريع إجراءات المصادقة على القاضي الجديد الذي يفترض أن يعلن ترامب ترشيحه قريبا قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في حين يضغط الديمقراطيون لإفشال هذا الخيار وتأجيل التصويت عليه إلى ما بعد الانتخابات طمعا في ميل الكفة لصالحهم في مجلس الشيوخ.

ويبدو أن ترامب -الذي يخوض معارك في اتجاهات عدة، ويخضع لتحقيق قضائي يقترب من عنقه- لن يضيع فرصة ما قبل الانتخابات، حيث بدا فرحا مسرورا بتقاعد كنيدي مستعجلا الخطوة التالية المتعلقة بتعيين خليفة له، خصوصا أنه لا يملك -في الظروف الطبيعية- حق إقالة قضاة المحكمة أو تغييرهم أو تحويلهم.

وقال إنه سيبدأ فورا إجراءات تعيين بديل للقاضي المتقاعد الذي اعتبره “قاضيا عظيما ورجلا صاحب رؤية حقيقية وقلب واسع”.

وعلى الفور ضجت وسائل الإعلام بالتعليقات التي تتحدث عن تأثيرات تقاعد كينيدي، كما تفاعل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل مع طموحات ترامب، وقال إن مجلس الشيوخ مستعد لأداء دوره الدستوري والموافقة على مرشح الرئيس لملء هذا المنصب، ونعتزم التصويت على خلف للقاضي كنيدي مرشح الرئيس في هذا الخريف.

وفي موازاة ذلك تحاول الأقلية الديمقراطية -التي ما زالت غاضبة من رفض ماكونيل النظر إلى مرشح الرئيس باراك أوباما لشغل منصب شاغر بالمحكمة العليا في 2016- وقف النتيجة التي لا مفر منها، بحسب تعبير صحيفة وول ستريت جورنال.

وقد ظهرت فرصة أخرى للرئيس السابق باراك أوباما في العام 2016 لتعيين قاض غير محافظ يرجح الكفة لصالح الديمقراطيين بعد وفاة القاضي الراحل أنتونين سكاليا الذي كان أكثر القضاة المحافظين تشددا وصاحب أطول مدة خدمة في المحكمة ومدافعا شرسا عن الدستور ودولة القانون، وكان المحافظون قبل وفاته يتمتعون بالأغلبية بين أعضاء المحكمة العليا.

ورغم أن أوباما رشح قاضيا يوصف بالمعتدل لشغل المنصب الشاغر فإن الأغلبية الجمهورية رفضت عرضه للتصويت، متعللة بأن الرئيس في السنة الأخيرة من ولايته الرئاسية، وأن عليه ترك الأمر للرئيس القادم.

وما زال الديمقراطيون يتذكرون بغضب شديد كيف استغل الجمهوريون أغلبيتهم لمنع أوباما من إنفاذ حقه في تعيين قاض للمحكمة العليا، ولذلك سارع زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ شاك شومر إلى تذكير الجمهوريين بذلك الموقف، وقال إنه “على زملائنا الجمهوريين التقيد بالقاعدة التي وضعوها في العام 2016، وهي ألا ينظر في تعيين قاض للمحكمة العليا في عام انتخابي”.

ولن تكون أغلبية ستين صوتا المطلوبة عرفا لتمرير تثبيت مرشح الرئيس عائقا هذه المرة، فقد يلجأ الجمهوريون إلى “الخيار النووي” لاعتماده، علما بأنه حتى عام 2013 كان تثبيت مرشحي الرؤساء الأميركيين لمناصب وزارية أو القضاء الفدرالي أسوة بالمحكمة العليا يتم عن طريق حصول المرشح على تأييد ستين صوتا على الأقل داخل المجلس، إلا أنه في ذلك العام وبسبب مماطلة الجمهوريين في تثبيت مرشح أوباما لهذه المناصب استخدم الديمقراطيون “الخيار النووي” لأول مرة.

ويتم اللجوء إلى “الخيار النووي” في حال فشل المجلس بالتصويت لصالح تثبيت المرشح، أو في حال عدم التوافق عليه، حيث يتيح تمرير القرار بموافقة بالأغلبية البسيطة (50+1)، واستخدم الخيار النووي مرتين فقط في مجلس الشيوخ الأميركي: الأولى عام 2013 عندما لجأت إليه الأكثرية الديمقراطية لتجاوز تعطيل الأقلية الجمهورية عددا من التعيينات في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.

أما المرة الثانية التي تم اللجوء فيها إلى “الخيار النووي” فكانت في أبريل/نيسان 2017 عندما استخدمته الأكثرية الجمهورية لتجاوز تعطيل الأقلية الديمقراطية للتصديق على مرشح ترامب لمنصب المحكمة العليا القاضي المحافظ نيل غورستش بعدما اختاره الرئيس ترامب في يناير/كانون الثاني 2017.

قبضة يمينية
ورغم الضجة التي سيثيرها الديمقراطيون فمن الراجح وفقا للمعطيات الحالية أن يتمكن ترامب من تعيين ثاني قاض في المحكمة العليا خلال فترة وجيزة وهي فرصة ندر أن تتاح لرئيس مثله، وإذا نجح في ذلك فالراجح أنه سيتمكن من صبغ أعلى وأهم هيئة قضائية في البلاد بلون يميني محافظ ولمدة عقود قادمة على الأرجح.

ويقول العديد من الكتاب والمحللين إن ترامب سيحقق من خلال ذلك أهدافا عديدة يتمثل أولها في ضمان انسيابية قرارات المحكمة العليا وانسياقها مع توجهاته التي توصف على نطاق واسع بالشعبوية والمتطرفة والعنصرية.

ويقول الكاتب في صحيفة الواشنطن بوست جاك غولد سميث إنه على مدى ثلاثة عقود كان القاضي المستقيل أنتوني كنيدي قوة توجيهية في قرارات المحكمة الأكثر أهمية، سواء تعلقت بقرارات ذات خلفية محافظة أو ليبرالية، وبمغادرته سيترك القانون الدستوري في البلاد عرضة للمطامع.

ويشير كاتب آخر في نفس الصحيفة هو جوشوا ماتز في مقال تحت عنوان “ستقع المحكمة العليا الآن في الفوضى” إلى أن المحكمة العليا تحمي مبادئ الحرية والكرامة والديمقراطية وتساعد على جعل الدستور حقيقيا في حياتنا، وأن القاضي المستقيل أنتوني كينيدي كرس خدمته القضائية لهذه الرؤية، ولكن بتقاعده في هذه اللحظة المحفوفة بالمخاطر أطلق العنان لقوى ستضع المحكمة على المحك كما لم يحدث من قبل.

وينتقد ماتز واقع الولايات المتحدة الحالي، ويقول إنها تمر بأيام مظلمة، حيث يتفشى التعصب وحكم الطبقة الفاسدة، والبيت الأبيض محاصر باتهامات ذات مصداقية بشأن الإجرام والفساد، وقد فقد الكثيرون الثقة في مؤسساتهم الحكومية، كما أن الديمقراطية الأميركية ذاتها تبدو محاصرة.

ويشير كاتب آخر في الواشنطن بوست هو يوجين جوزيف ديون إلى مخاطر الخلل المتوقع حين ينجح ترامب في تعيين قاض محافظ جديد في المحكمة العليا، حيث إن النظام الدستوري الخاص بـ”الضوابط والتوازنات” يعمل فقط إذا كان من هم في وضع يسمح لهم بتشغيل أدوات التدقيق والموازنة يقومون بعملهم، ومن الواضح أن الكونغرس الجمهوري والجمهوريين المعينين في المحكمة العليا لا يميلون لمثل هذا العمل، وفي الوقت الحالي فإن الرئيس ترامب غير مراقب وغير متوازن في الأغلب.

من الواضح أيضا -وفق هذا الكاتب- أن الخماسي الجمهوري في أعلى محكمة في البلاد قد عمل لمصالح حزبه، والآن أصبحت الأمور أكثر سوءا بسبب تقاعد القاضي أنتوني كينيدي الذي كان على الأقل في بعض المناسبات قوة اعتدال.

وبحسب كتاب آخرين، فإن تأثيرات التغييرات المتوقعة في المحكمة العليا لن تقتصر فقط على تمكين المحافظين وتعزيز سيطرتهم على الجهاز القضائي في البلد، بل هناك تخوفات أيضا من ضرب أحد أهم المبادئ الذي قامت عليها الديمقراطية الغربية، وهو مبدأ فصل السلطات في ظل التماهي المتوقع بين أجهزة تنفيذية وتشريعية وقضائية تنتمي قيادتها لذات اللون السياسي والأيديولوجي، ولا تتورع في أحيان كثيرة عن تصفية خصومها واستغلال المؤسسات الدستورية في تمرير أجندتها الخاصة داخليا وخارجيا.

المصدر : الجزيرة + وكالات,الصحافة الأميركية