“عاصفة الحزم” والسياسة الخارجية السعودية

“عاصفة الحزم” والسياسة الخارجية السعودية

في 26 آذار/مارس من العام الجاري، انطلقت عملية “عاصفة الحزم” العربية بقيادة المملكة العربية السعودية، والتي اريد منها تحقيق هدفين أولاهما، مواجهة تقدم مليشيات الحوثيين وقوات الجيش اليمني التابعة للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح نحو عدن للسيطرة الكاملة على اليمن، وقد مثّل ذلك التقدم، بالنسبة للمملكة العربية السعودية تطورًا خطيرًا في المشهد اليمني السياسي والأمني والعسكري، كما مثّل أيضًا خطا أحمر لن تسمح المملكة بتجاوزه، لأنه قد يوقع اليمن في المجال الحيوي الإيراني، الأمر الذي من شأنه أن يعرض أمنها وأمن جيرانها في منظومة دول مجلس التعاون الخليجي لخطر محدق، وثانيهما يتمثل بإعادة الرئيس الشرعي من منفاه الاختياري في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، إلى عاصمة الجنوب اليمني عدن، التي كان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي قد أعلنها عاصمة مؤقتة لليمن بعد أن تمكن من الفرار من إقامته الجبرية التي فرضها عليه الحوثيون.

وإزائها تباينت التحليلات السياسية للخبراء والباحثين بشأن مغزى إعلان المملكة العربية السعودية عن عملية “عاصفة الحزم”، لذا انقسمت التحليلات بشأنها إلى اتجاهين، الأول عدّ قرار العملية بمثابة أحد تجليات التغييرات التي لحقت بالسياسة الخارجية السعودية في عهد “الملك الجديد” سليمان بن عبدالعزيز التي تبنت أسلوب الضربة الاستباقية في مواجهة المخاطر الحدودية وتصاعد الاعتماد على القوة (الخشنة) العسكرية، اما الاتجاه الثاني فقد أكد أن السياسة الخارجية السعودية لم تشهد سوى تغيرات في كثافة وأدوات مواجهة المخاطر الخارجية دون تغيرات جذرية في الثوابت والتوجهات. لكن السؤال الذي نحاول الإجابة عليه في هذا السياق، هل مجرد استخدام القوة العسكرية لدولة ما- ومنها المملكة العربية السعودية- بشكل غير معتاد في تصريف شؤونها الخارجية، يعد تغيرًا في سياستها الخارجية؟ أم لابد أن يصحب ذلك الفعل وقائع جديدة للسياسة خارجية حينها يمكن وصفها بالجديدة أو المتغيرة.

 وحتى كتابة هذه السطور من الصعوبة بمكان التسليم بالاتجاه الأول، وما يدلل على ذلك بأن الممكلة العربية السعودية في تاريخها المعاصر ومن خلال المارسة الفعلية، سبق لها وأن لجأت إلى القوة العسكرية ضد خصومها من الدول العربية وغير العربية سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر، للحفاظ على أمنها ومصالحها الحيوية، دون أن يؤثر ذلك – فيما بعد- على تقاليد سياستها الخارجية، وهناك ثلاث وقائع تاريخية تؤيد ما نذهب إليه. ففي الحالة الأولى، دخلت المملكة العربية السعودية في عهد الملكين الأسبقين سعود بن عبدالعزيز(1953م-1964م وأخيه الملك فيصل بن عبدالعزيز (1964م-1975م)، حربًا بالوكالة ضد الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر (1954م-1970م)، فقد خاضت الدولتان العربيتان المحوريتان في البيئة العربية حرب عربية باردة في اليمن لم تختلف كثيرًا عن تلك الحرب الباردة التي كانت دائرة على المستوى الدولي آنذاك بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي. حينما تناقض الموقفان السعودي والمصري من الثورة التي قامت باليمن بقيادة عبدالله السلال في 26 أيلول /سبتمبر عام 1962م، ضد حكم الإمام أحمد، فالمملكة العربية السعودية دعمت أنصار الإمام وقدمت الدعم المالي والعسكري لهم، في حين ساندت مصر الثورة اليمنية وقدمت الدعم لأنصار الحكم الجمهوري وقد اتخذ الدعم أشكالًا عدة كالدعم الدبلوماسي والمادي والمسلح والدعم العسكري المصري، حتى وصل عدد الجنود المصريين الذين قاتلوا إلى جانب أنصار الحكم الجمهوري إلى ما يقارب  70ألف مقاتل مصري.

وعلى أثر هذا الصراع دخلت اليمن حرب أهلية بدعم وتشجيع عربي، وقد شبه الخبراء العسكريون والباحثون في العلاقات الدولية، بالقول أن تورط مصر في تلك الحرب أشبه بتورط الولايات المتحدة الأمريكية عسكريًا في حرب الفيتنام (1962م-1975). ونظرًا للنتائج التي ترتبت على هزيمة مصر ودول الطوق العربي في حربهم ضد إسرائيل في الخامس من حزيران عام 1967م، ولإعادة ترتيب البيت العربي الذي تبعثر أيما تبعثر في حرب اليمن واستغلته إسرائيل ضد العرب، فقد تطلب الأمر حينها التوصل إلى تسوية دبلوماسية لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن، حيث أعلنت مصر في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في العاصمة السودانية الخرطوم في 29آب/أغسطس من ذلك العام، بأنها مستعدة لسحب قواتها من مصر، واقترح وزير خارجية مصر الأسبق محمود رياض بإعادة إحياء اتفاق جدة لعام 1965م، والذي كان ينص على إجراء استفتاء في اليمن بموجبه يختار الشعب اليمني نظام الحكم الذي يناسبه، وقد قوبل هذا الإقتراح بموافقة الملك الأسبق فيصل بن عبدالعزيز عليه. وبذلك انتهت الحرب الأهلية في اليمن والتي استمرت ما يقارب ثمان أعوام (1962م-1970م)، في قيام دولتين، الأولى الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وعاصمتها صنعاء والثانية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب وعاصمتها عدن، واستمر هذا الانقسام بين شطري اليمن حتي قيام الوحدة الإندماجية في 22 آيار/مايو عام 1990، واتخاذ صنعاء عاصمة دولة اليمن الموحدة.

وتكمن الواقعة التاريخية الثانية عندما أقدم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين 1978م-2003م) على احتلال الكويت في الثاني من آب/أغسطس عام1990م، حيث اعتبرت المملكة العربية السعودية ممثلة بالملك الأسبق فهد بن عبدالعزيز(1982م-2005م)، بهذا الإحتلال على أنه تهديد صريح لأمن المملكة العربية السعودية بشكل خاص واستقرار الخليج العربي بشكل عام. ولمواجهة هذا التهديد تم تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يتخذ من أراضي المملكة قاعدة للعمليات العسكرية، لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت، وهذا ما تحقق على أرض الواقع في 26 شباط/فبراير عام 1991م.

أما الواقعة الثالثة فتتجسد بدخول قوات”درع الجزيرة” بقيادة المملكة العربية السعودية في 14 آذار/مارس2011م، بناء على طلب ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة لمواجهة المظاهرات التي عمت مختلف أنحاء المملكة، والتي اتسمت بالعنف والطائفية وبتحريض من إيران. وعليه فقد جاء هذا التدخل من قبل المملكة العربية السعودية كرسالة مباشرة لها، بأنها لن تسمح في المساس بأمن وإستقرار مملكة البحرين. وعليه فإن الملاحظ على تدخلاتها التاريخية، وبالإضافة إلى تدخلها الأخير”عاصفة الحزم” في اليمن، يأتي في السياق الحفاظ على مصالحها الحيوية فقط، ومن ثم لا يترتب على هذا النوع من الممارسة الخارجية التقليدية أي تغير في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية. ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المقام، كيف يمكن أن يتسنى للمتابع للشأن السعودي بأن الملكة العربية السعودية تسير في اتجاه جديد في سياستها الخارجية؟

استهل الملك سليمان بن عبدالعزيز حكم المملكة العربية السعودية في كانون الثاني/يناير الماضي بمجموعة من القرارات – ولايزال- التي تتعلق ببنية المناصب الوظيفية في الدولة، وقد جاءت هذه القرارات في بيئة عربية تشهد صعود أنماط جديدة للإرهاب، واحتمالات توافق الغرب مع إيران، وتصاعد تهديدات الحوثيين.وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه القرارات ليس من شأنها أن تصنع سياسة خارجية سعودية بمفردها، ذات دور عربي وإقليمي إيجابي، مالم تتبلور عدة معالم لها، أولهما مواجهة إيران مواجهة سياسية في اليمن والبحرين والعراق ولبنان، وتجنب مواجهتها طائفيا، لأنها- أي إيران- لا تملك سوى ورقة الطائفية للعبث في أمن وأستقرار الدول العربية، فهي ليست وصية على المواطنين العرب الشيعة. ولم يعد سعي إيران للهيمنة والتوسع من قبيل التوقعات المستقبلية وإنما صار واقعاً ملموسا بوجود إيران فعلياً بداخل أربعة عواصم عربية كبرى (بغداد– دمشق– بيروت– صنعاء). وفي هذا السياق صدر تصريح عن “علي يونسي” مستشار الرئيس الإيراني يعتبر فيه أن “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد، وهي مركز ثقافتنا وحضارتنا وهويتنا اليوم كما كانت في الماضي”. وهو ما تزامن مع تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن الولايات المتحدة وإيران برغم خلافاتهما إلا أنه “يجمعهما الآن مصلحة مشتركة تتمثل في التصدي لداعش”، وهو ما يمكن اعتباره ضوءً أخضر من الولايات المتحدة لإيران لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية”داعش”.

ثانيهما، الانتقال من سياسة التحالفات الإقليمية المرنة القائمة على التغير في هياكل التحالفات إلى الاعتماد على التحالفات الوظيفية التي تقوم على التوافق في قضية واحدة مع دول أخرى لتحقيق مصالح مشتركة بغض النظر عن تنافر المصالح في قضايا ثانية. وقد تحول المتغيرات الداخلية والخارجية لدول المنطقة دون التعاون مع المملكة العربية السعودية على مواجهة تلك التحديات والمخاطر، نشير هنا على سبيل المثال الى مصر الحليف التقليدي المثقلة بالأزمات الداخلية والمتعبة إقتصاديا، وغير المستقرة إجتماعيا، وعلى الارجح فان المملكة قد تكون بحاجة لجهود دولة صاعدة في بيئتها الإقليمية كتركيا.

وثالثهما، على السياسة الخارجية السعودية أن لا تنظر للتحول الديمقراطي المتعثر حاليا في بعض الدول العربية التي شهدت تحولات طالت هيئة الحكم في العام 2011م، على أنها تهدد أمنها وإستقراها بل على العكس من ذلك، لتتخلى نهائيا عن لعب دور الدولة المضادة لطموحات الشعوب العربية الساعية لبناء دولة ديمقراطية، فالحكم الديمقراطي الذي يمكنها في المشاركة في حكم دولها يعد مؤشر قوة وليس ضعف.

رابعهما، امتلاك القدرات النووية، فمن الصعوبة بمكان التشكيك في أن المملكة العربية السعودية لديها الدافع القوي والفائض المالي التي تمكنها من امتلاك قدرات نووية غير تقليدية، لاسيما بعد التوقيع على اتفاق لوزان النووي بين دول (5+1) وإيران في الثاني من نيسان/إبريل من العام الجاري الذي من شأنه أن يحدث تقارب بينهما في المشاهد السياسية العربية مثل المشهد العراقي واليمني والسوري إضافةً لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية”داعش”، وهي مقاربات قد تخضع جميعها لمقايضات سياسية من قبل إيران من أجل جني أكبر قدر ممكن من المكاسب.

ومن المرجح أن إيران تحصل على بعض المكاسب من المفاوضات مع دول(5+1) وهو ما يرتبط بتصورين، الأول هو أن تضغط إيران بورقة المشروع النووي بقوة على تلك الدول، لكي يتسع مجالها الحيوي في داخل العراق وسوريا واليمن، مقابل ذلك تقدم إيران على بعض التنازلات المرحلية بشأن برنامجها النووي.

أما التصور الثاني، فهو أن تضغط إيران بورقة النفوذ والتأثير الذي تمتلكه في المشاهد المشار إليها آنفًا، من أجل الحصول على بعض المكاسب فيما يتعلق بالبرنامج النووي. كأن يحدث اتفاق ما، على أن تقدم دول (5+1) تنازلات فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وفي المقابل تدفع إيران ثمن ذلك بمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على الأرض في سوريا والعراق واستخدام نفوذها في تنفيذ الرؤى الغربية في مسار تلك المشاهد، وهو الأمر الذي يعني المزيد من القدرات النووية الإيرانية.

وقد تدفع هذه المآلات المملكة العربية السعودية لمحاولة موازنة القوة بدلا من موازنة المصالح مع إيران التي من المحتمل أن تصبح قوة نووية في غضون مدة قصيرة من خلال امتلاك قدرات نووية غير تقليدية، وربما الاعتماد علي الردع النووي من جانب احدى الدول المتحالفة مع المملكة، ولا ينفصل ذلك عن امتلاك الرياض لصواريخ باليستية متوسطة المدى من طراز CSS-2 التي يتجاوز مداها 2000كم ذات القدرة على حمل رؤوس نووية، وسعيها لشراء مقاتلات غير تقليدية قادرة على حمل قذائف نووية تكتيكي.

خامسهما، على المملكة أن تنخرط كوسيط إيجابي”على مسافة واحدة من المتخاصمين” في حل الأزمات والخلافات بين فرقاء الوطن الواحد، والخلافات العربية البينية، وكذلك العربية الإقليمية، وأن لا تترك هذا الأزمات ومعالجتها حصرا على دولة معينة، فالمملكة بما تمتلكه من قوة دينية واقتصادية ودبلوماسية قادرة على ممارسة هذا الدور في عدة أزمات كأزمة المصالحة الفلسطينية والأزمة الليبية، والعمل على رأب الصدع في العلاقات القطرية المصرية، والمصرية التركية. وفي حال تفعيل الوساطة الإيجابية ستنبذ السياسة الخارجية السعودية القول المأثور”من ليس معنا فهو ضدنا” لتتبنى عوضًا عنها ” المكسب للجميع”.

ان المملكة العربية السعودية في عهد الملك سليمان بن عبدالعزيز قادرة على تبني اتجاه جديد لسياستها الخارجية إن أردات ذلك، وقد يشجعها على ذلك كونها من الناحية السياسية تشكل أحد أهم مراكز الثقل الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، ومن الناحية الدينية تمثل المكانة الروحية للأمة الإسلامية ومن الناحية الإقتصادية، لها مكانة إقتصادية كبيرة، فهي تعد مركز لتدفقات الطاقة العالمية وأحد أعضاء مجموعة العشرين الدولية للدول الاقتصادية الكبرى. هذا الثقل الإستراتيجي يمكنها من ممارسة دور إيجابي في البيئة العربية، كما يمكنها أيضا من قيادة العمل العربي المشترك، لاسيما في المرحلة الراهنة التي تشهد العديد من التحولات الحرجة، ولعل من أهم هذه التحولات الخطر الفعلي الذي بدأ يهدد وجود الدولة في المشرق العربي في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”. وفي حال غياب ذلك الدور فستبقى البيئة العربية خاضعة لتأثيرات دول إقليمية ودولية.

د.معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية