إعادة الإعمار بعد صفقة الحرب: تدخّل إيراني معقّد في سوريا

إعادة الإعمار بعد صفقة الحرب: تدخّل إيراني معقّد في سوريا

كثفت الحكومة الإيرانية وجودها في سوريا مستفيدة من الحرب التي كانت سببا أساسيا في استمرارها وتصعيدها، وعملت -بالتوازي مع المسارين العسكري والسياسي- على ترسيخ نفوذها من خلال السيطرة على المراقد والمزارات الشيعية وحث النظام السوري على تغيير التركيبة السكانية لعدد من المناطق والمدن السورية، في سيناريو مشابه لما حصل في العراق. واليوم، فيما الحرب في سوريا بدأت تتخذ أبعادا جديدة مع سيطرة النظام على أغلب المناطق وأيضا في ظل التحالفات الدولية الجديدة خصوصا بين روسيا والولايات المتحدة، وتدخل إسرائيل على الخط، تسعى إيران إلى اقتناص حصتها من كعكة إعادة إعمار سوريا حتى تضمن بقاءها والحفاظ على مصالحها.

دمشق – قال علي أكبر ولايتي كبير مستشاري الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي إن طهران ستسحب “مستشاريها العسكريين” من سوريا والعراق على الفور إذا كانت تلك هي رغبة حكومتي البلدين، في تصريح لا تأثير له على أرض الواقع، ليس فقط بسبب نفوذ إيران المعقّد ولأن وجودها في العراق وسوريا يتجاوز “المستشارين العسكريين”، إلى ميليشيات مسلحة ونظام وأحزاب سياسية موالية، بل أيضا بسبب وجود الشق المدني والاجتماعي والطائفي وما يشكله ذلك من تأثير خطير على المدى البعيد في البنية الاجتماعية والسكانية في سوريا، كما في العراق.

لكن عند الغوص في العمق السوري، وأيضا العراقي، يتبيّن أن كلام ولايتي مجرد ذر رماد على العيون التي ترى الوجود الإيراني في سوريا مقتصرا على المجال العسكري، وتغفل مشاريع إعادة هندسة التركيبة السكانية والتغييرات الديمغرافية الطائفية والسيطرة الإيرانية على المزارات والمراقد الشيعية والجامعات والمدارس الممولة من إيران، وغير ذلك من المؤثرات الاجتماعية الصامتة، وصولا إلى مشاريع إعادة الإعمار.

وستكون هذه النقطة الأخيرة حجر الزاوية في مشاريع الاستيطان الإيراني في المرحلة القادمة في سوريا. لن تسمح إيران، بعد كل ما استثمرته في سوريا من مال وعتاد ورجال ومرتزقة، بأن تكون خارج لعبة صفقات إعادة الإعمار. وفي تصريح حمّال أوجه كتصريح ولايتي بالانسحاب من سوريا والعراق المشروط بطلب حكومتي البلدين، المدعومتين من إيران، قال نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري إن بلاده تتعهّد بالوقوف إلى جانب سوريا خلال فترة إعادة الإعمار.

وانخرطت إيران في عقد صفقات إعادة الإعمار مع النظام السوري، فيما رحى الحرب ما زالت تدور، في محاولة منها لتحصين نفسها ومصالحها في البلاد، وهي تتابع المتغيرات الإقليمية التي ألقت بظلالها على الحرب في سوريا وعلى نفوذها في عموم المنطقة وعقدت أوضعاها الاقتصادية وأثرت سلبا على وضعها الداخلي، بالإضافة إلى علاقتها الحذرة مع روسيا، فالتوافق بينهما مهما بلغ من متانة يبقى هشّا.

الشارع الإيراني غاضب من المشاريع التي تنفذها إيران في سوريا في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خطيرة

وتحاول إيران استثمار رغبة النظام السوري في إفساح المجال للإيرانيين للمشاركة في إعادة الإعمار، في ظل تردد المجتمع الدولي حول تاريخ بدأ عملية الإعمار وتقدير التكلفة، وأيضا في ظل تخوف النظام السوري من أن يكون أي مقترح، من غير الحلفاء، للمشاركة في إعادة الإعمار مصحوبا بتدخل غير مرحب به سياسيا وحقوقيا.

ومن المتوقع أن تشهد الأشهر القادمة صراعات بين الحليفين الروسي والإيراني حول حصص كلّ طرف من صفقات إعادة الإعمار، مع توقع دخول مساهمين آخرين، على غرار الصين وفرنسا. وفي سياق العمل على ضمان حصتها، أنشأت إيران فرعا لمؤسسة جهاد البناء، في سوريا. ويعمل هذا الفرع منذ سنة 2015 تحت غطاء تنفيذ مشاريع خدمية وإنمائية إنسانية، لا سيما في المناطق التي استعادتها قوات النظام السوري.

إعادة إعمار
تأسست مؤسسة جهاد البناء عام 1985 في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت بتمويل إيراني مباشر، ويديرها حزب الله، بعد الانفجار الضخم الذي ضرب منطقة بئر العبد وقيام مهندسين وفنيين تابعين لحزب الله بأعمال الصيانة والترميم، وتلك كانت أول أعمالها.

وأصبحت فيما بعد الجناح الإنشائي لحزب الله، حيث تولت كل أعمال البناء والمشاريع التابعة له في الضاحية الجنوبية والمناطق التي يسيطر عليها على امتداد الجغرافيا اللبنانية لا سيما الجنوب اللبناني.

وزاد دور المؤسسة بعد حروب 1993 و1996 و2006 وما قامت به من ترميم وإعادة إعمار ما دمرته هذه الحروب من بنى تحتية وعمرانية بتمويل إيراني وخدمة لمشروعها في المنطقة.

وكان من الطبيعي إدخال الشركة إلى سوريا وإشراكها في إعادة إعمار ما دمرته الحرب مستفيدة من التسهيلات الكبيرة التي يقدمها النظام لطهران وشركات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله.

ويقول مراقبون إن مثل هذه الشركات تؤمّن حضورا مزدوجا لإيران في صفقات إعادة الإعمار، أي صفقات عن طريق مؤسساتها المباشرة وعن طريق مؤسسات حزب الله.

ويتوقع أيضا أن تساعد القوانين الجديدة -التي تفتح الأبواب أمام دخول شركات تطوير عقاري وشركات مساهمة، دون أي ذكر لطبيعة هذه الشركات المجهولة وجنسياتها والتي ستملك حصصا ونسبا، على تواجد إيران بطرق غير مباشرة، خاصة إذا فرضت عليها عقوبات دولية جديدة.

وكانت قناة العالم الإيرانية ذكرت في تقرير مصور بثته في نوفمبر 2017 أن مؤسسة جهاد البناء تقوم بدور مؤثر في إعادة إعمار مدينة حلب، بعد استعادة النظام السيطرة عليها.

وجاء في التقرير أن المنظمة شيدت في مدينة نبل أكبر مستشفى في ريف حلب الشمالي، فضلا عن تأهيل عدد كبير من المدارس المتضررة في مدينة حلب وتسيير العديد من قوافل الإغاثة المحملة بعشرات الأطنان من المواد الغذائية. ودعّمت جهاد البناء حضورها بشكل لافت في المنطقة الشرقية وتحديدا في محافظة دير الزور.

ويقول معارضون سوريون إن المؤسسة الإيرانية استغلت حالة الدمار شبه الكاملة في المنطقة ونقمة السكان على التنظيم الذي أبدى أقسى درجات التطرف والعنف في تعامله معهم لتبدأ سياسة استقطابهم عن طريق القيام بأعمال ترميم وتحسين ظروفهم المعقدة وتقديم المساعدات المالية المباشرة، وغير ذلك من المساعدات التي تتم بشتى الوسائل والطرق.

وكانت مصادر إعلامية متابعة لنشاط الميليشيات الإيرانية في المنطقة ذكرت أن مؤسسة جهاد البناء سبق أن افتتحت في نهاية عام 2017 مستشفى ميدانيا في حي القصور بمدينة دير الزور لتقديم الخدمات الطبية للمقاتلين.

صورة توضيحية لمشروع بناء محطة تحويل للطاقة الكهربائية قرب بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في ريف حلب الشمالي بكلفة تزيد عن مليوني دولار أميركي تتولى الإشراف عليه مؤسسة جهاد البناء الإيرانية

وفي شهر مايو الماضي واصلت الشركة أعمالها في إعادة الإعمار بالمشاريع التي استولت عليها في مدينة البوكمال، القريبة من الحدود العراقية والتي تقابلها من الجهة العراقية مدينة القائم، بعد أن افتتحت مكتبا لها في المدينة لتسهيل عمليات شراء العقارات وإعادة استثمارها في توطين عائلات مقاتلي الميليشيات التي تحارب إلى جانب قوات النظام السوري بعد أن أعلنت عن فتح باب تسجيل أسمائهم لتسهيل عملية استقدام عائلاتهم من الدول التي ينتمون إليها في إطار خطة التغيير الديمغرافي على جانبي الحدود.

وأنهت ميليشيا أخرى، مدعومة من قبل ما يعرف بمزارات آل البيت، في شهر أبريل الماضي، بناء قبة فوق أحد الينابيع في ريف مدينة الميادين، التابعة أيضا لمحافظة دير الزور، يسمى”نبع علي” متخذة إياه مزارا شيعيا، إضافة إلى تجهيز مزارات شيعية أخرى في المحافظة.

وفي يناير الماضي حصلت إيران على رخصة المشغل الخليوي الثالث في سوريا، في صفقة يصفها المحلل السوري محمد بسيكي بأنها كانت رأس جبل الجليد في السيطرة والاستحواذ على المشاريع الضخمة ذات الجدوى الاقتصادية والتي ترسخ السيطرة والنفوذ في مجال البنية التحتية والطرق والمساكن.

غضب الشارع الإيراني
لا يثير نشاط الإيرانيين المتسارع في ملف إعادة الإعمار غضب المعارضة السورية واللاجئين الذين فقدوا الأمل في العودة إلى ديارهم فحسب، بل يثير أيضا غضب الشارع الإيراني المشتعل منذ فترة بسبب الأموال التي تصرف على الحرب في سوريا فيما الشعب الإيراني يعاني من أزمة اقتصادية خانقة.

وعبّر الناشطون الإيرانيون عن غضبهم واستيائهم من التورط الإيراني في سوريا ومن المشاريع التي تنفذها طهران من أموال الشعب الإيراني خدمة لمشروع طائفي عقيم، خاصة وأن بلادهم تعاني من مشاكل خطيرة في مجال الطاقة الكهربائية.

وتواجه الحكومة الإيرانية حاليا أخطر أزمة اقتصادية منذ ثورة الخميني نتيجة انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في مايو الماضي، وما تلاه من تصعيد غير مسبوق في العقوبات الأميركية ضد طهران في محاولة جادة من إدارة ترامب لضبط سلوك طهران وتدخلاتها في المنطقة.

وكانت جريدة عنب بلدي المعارضة ذكرت على صفحتها الإلكترونية نقلا عن ناشطين إيرانيين معارضين شروع مؤسسة جهاد البناء الإيرانية في بناء محطة تحويل للطاقة الكهربائية قرب بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في ريف حلب الشمالي.

وتداول الناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي صورا توضيحية لمشروع بناء محطة تحويل للطاقة الكهربائية بكلفة تزيد عن مليوني دولار أميركي.

العرب