حروب الشرق الأوسط تحول المدن إلى “ستالينغرادات”

حروب الشرق الأوسط تحول المدن إلى “ستالينغرادات”

أصبحت مدن الشرق الأوسط مرادفات تراجيدية للصراعات التي تبتلي المنطقة. فأصبحت حلب اختصارا للحرب السورية الكارثية؛ وأصبحت الرقة والموصل اختزالا للمواجهات الهائلة مع “داعش”، وأصبحت مصراتة وبنغازي تجسيدا للتكرارات المختلفة للفوضى الليبية، وأصبحت عدن وتعز تكثيفاً للصراع الجاري في اليمن.

اتخذ الصراع الكبير الجاري في المنطقة منعطفاً حاسماً في اتجاه المدن. وليست الحرب الحضرية جديدة كُلية، لكن المدن أصبحت الآن، في عصر النشاط الدؤوب للميليشيات والمتمردين، نقطة الانطلاق الأساسية للصراعات المطولة والوحشية. وقد أصبحنا نعيش في عالم يعيد إلى الأذهان ذلك العالَم القاتم الذي تنبأ به خبير التخطيط الحضري الماركسي مايك ديفيس في العام 2003، حيث “ليلة بعد ليلة، تطارد المروحيات الشبيهة بالدبابير الأعداء الغامضين في الشوارع الضيقة للأحياء الفقيرة في الضواحي، وتصبُّ نيران الجحيم على الأكواخ أو السيارات الهاربة. وكل صباح، ترُد الأحياء الفقيرة بالمفجرين الانتحاريين والتفجيرات لتعبر عن نفسها ببلاغة”.

كانت الحُديدة، إحدى المدن الساحلية الرئيسية في اليمن، بسكانها البالغ عددهم 600.000 نسمة، هي الأخيرة في هذه السلسلة المقلقة من الصراعات الحضرية. وهناك، تحاول القوات اليمنية، مدعومة من السعودية والإمارات العربية المتحدة، القضاء على المقاتلين الحوثيين، وهم حركة تمرد زَيدية تسيطر على مساحات واسعة من غرب وشمال اليمن. وقد أسفرت التماسات القوى الغربية بوقف العملية وعروض الأمم المتحدة بالتفاوض حول تسليم سلمي للميناء عن وقف مؤقت لإطلاق النار، لكن المدينة ما تزال تحت التهديد.

كانت معظم الصراعات الكبيرة في القرن العشرين ريفية في غالبيتها، حيث شكلت المعارك الحضرية، مثل معركة ستالينغراد، الاستثناء أكثر من كونها القاعدة. وقد دعا ماو تسي تونغ حرب العصابات إلى الانتقال للتواجد بين الناس بحيث تكون مثل السمكة في البحر، وكان يفكر في فلاحي الصين الريفيين. أما اليوم، فإن الجماعات المسلحة من غير الدول –مثل جماعات الثوار والميليشيات الطائفية- تجد طرقا أكثر سهولة للاختلاط بالسكان، حيث تجمع أموالاً أكثر، وتعرقل حملات الحكومة من خلال التواجد في المدن.

أحد الدروس الرئيسية التي يمكن استخلاصها من الحروب الأخيرة هو أن حركات الثوار تميل إلى اتخاذ المدن الكثيفة متمددة الأطراف كقواعد، والتي تزودها بدروع بشرية وبوسائل للتمويه على أعدائها. وقد أصبحت الصراعات والمجموعات المسلحة التي تخوضها تندغم الآن في البنية التحتية للمدن وسكانها.

يشكل النمو السريع للسكان، الذي عادة ما يلقى عليه اللوم في العنف الحضري، جزءاً واحداً فقط من التفسير. وثمة عوامل جذابة أخرى للاعبين المسلحين، مستوطنة في المدن وخارجية على حد سواء، ومنها الحضور الضعيف للدولة في الأطراف الممتدة للمدن، وتوفر الاقتصادات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية. وقد واجهت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عملية تحضر وتمدد لأطراف المدن، والتي كانت مستمرة وغير مدارة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مع ارتفاع حصة الناس الذين يعيشون في المدن من أقل من النصف في العام 1980 إلى ما يقرب من 60 في المائة في العام 2000.

كانت الأطراف المتمددة للمدن في المنطقة، المبتلاة سلفاً بالتوترات السياسية والطائفية، هي التي تأثرت بالصراعات بشكل خاص. وعلى سبيل المثال، تمكنت الميليشيات الشيعية المتمركزة في حي مدينة الصدر الفقير في بغداد من تحدي القوات الأميركية خلال معظم فترة تواجد الأخيرة في العراق خلال العقد الأول من الألفية. وبقي ما يقارب 3 ملايين شخص هناك خارج متناول القوات الأميركية إلى أن انخرط الجيش الأميركي في معركة على مدى شهرين لإضعاف الميليشيا الرئيسية المحلية، جيش المهدي، في العام 2008.

كانت المواجهات الحضرية المطولة اتجاهاً ثابتاً في حروب الشرق الأوسط الأخيرة. وكانت أقسام من حلب، التي شكلت في السابق مركزاً صناعياً مهماً، قد سويت بالأرض تماماً خلال أربع سنوات تقريباً من القتال المتواصل من العام 2012 وحتى 2016، بين جماعات الثوار ونظام الرئيس السوري بشار الأسد. وفي الموصل، استخدمت “الدولة الإسلامية” الأطراف الممتدة لثاني أكبر المدن العراقية للتعويض عن افتقارها إلى الميزة العسكرية ضد عملية الجيش العراقي المدعومة من الولايات المتحدة خلال العامين 2016 و2017. وقد استخدم مقاتلو التنظيم المتفجرات المرتجلة، والكمائن وحواجز الشوارع، وجيشاً من الطائرات المسيَّرة، لفرض انتشار الأعمال القتالية عبر كامل البنية التحتية الحضرية –وهي الاستراتيجية الوحيدة الممكنة التي كانت تسمح لهم بمقاومة نحو 105.000 مقاتل من قوات التحالف.

كما أن المدن مربحة للمتمردين أيضاً. وقد أعطى “داعش” الأولوية لإصلاح الإدارات البلدية بعد وقت قصير من احتلال المدن مثل الموصل والرقة، وفرض جمع الضرائب وقام بإرسال المفتشين –وكذلك الشرطة الدينية- للتحقق من أن الخدمات تعمل والفواتير تُدفع. كما تم رسم دوائر التهريب العابر للحدود ليناسب المناطق الحضرية الكبيرة، وهو ما أتاح تزويد “داعش” بسهولة بالأسلحة والوقود والإمدادات الطبية. وفي مكان أبعد، تعمل مدينة كراتشي الباكستانية مترامية الأطراف كميناء رئيسي للهيروين الذي يمول التمرد في أفغانستان.

في مدينة الحُديدة اليمنية، يبدو المشهد مهيأ لتكرار نفس النوع من الصراع الحضري المطول أيضا. وعلى الرغم من أن النية المعلنة للتحالف هي اقتصار عملياته على مركز المدينة، فإن المفوض السامي للاجئين في الأمم المتحدة يتوقع أن يدور القتال بالقرب من البنية التحتية الحيوية والطرق الرئيسية، والمناطق الأخرى المكتظة بالسكان. وسوف يمتد الضرر بشكل شبه مؤكد إلى خارج الحُديدة نفسها: المدينة اليمنية التي تشكل “العاصمة الزراعية-الصناعية” للبلد، وأحد المحركات الحاسمة للتنمية في بلد فقير إلى حد البؤس.

ضمن هذا العنوان، حذر المانحون، والوكالات الإنسانية، وخبراء الأمن، خلال مؤتمر عقد في جنيف في العام الماضي، من أن أثر الحرب على المدن أصبح يشكل تهديداً للتنمية الدولية، ويصنع أزمة إنسانية كبيرة. وخلص المؤتمر، الذي نظمه المعهد لدولي للدراسات الاستراتيجية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى أن الآثار غير المباشرة للحرب على إعادة التأهيل طويلة الأمد للبنية التحتية الأساسية، والإنتاج الصناعي، وأسواق العمل، والأنظمة الصحية، وإمدادات الطاقة، يمكن أن تكون ضارة بالمدنيين بقدر لا يقل عن الدمار المباشر الذي تحدثه القذائف وحرب البنادق.

يعني انتقال الصراع والتمرد إلى المراكز الحضرية ضرورة أن الحكومات وجيوشها واعية للحاجة الملحة إلى إعادة تأهيل الخدمات الحضرية -وعندما يكون ذلك ممكناً- الإبقاء عليها متماسكة. وقد نصحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأطراف المتحاربة، على سبيل المثال، بتجنب استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق كثيفة السكان والابتعاد عن البنية التحتية التي ستكون حاسمة للسكان المدنيين. وهناك أسباب استراتيجية لهذا، إلى جانب الأسباب الإنسانية: حيث يمكن لعدم الاستقرار طويل الأمد والتخلف اللذين يعقبان الصراعات المسلحة أن يثيرا التوترات المحلية ويزيدا من مخاطر الانتكاسات والعودة إلى الصراع. وبينما تتوسع المدن وتتمدد في كل أنحاء العالم النامي، فإن منع وإنهاء الصراعات الحضرية المطولة يشكل واحداً من التحديات الاستراتيجية والإنسانية الأكثر أهمية وحسماً في وقتنا الحاضر.

أنطونيو سامبايو

الغد