شعب فلسطين عصي على الاقتلاع

شعب فلسطين عصي على الاقتلاع

لا تكفّ وسائل الإعلام العربية عن التعليقات على صفقة دونالد ترامببشأن القضية الفلسطينية، وهي بصورة مقصودة أو غير مقصودة تحاول إشاعة الفزع في صفوف الشعب الفلسطيني.

ورغم أن الصفقة لم تُعلن بعدُ، ووسائل الإعلام لا تعرف بالضبط بنودها؛ فإنها تتصرف وكأنها تعرفها وتقيم التحليلات بناءً على تكهنات. هناك من يعرف من العرب وخاصة في مصر والسعودية والأردن، وما دام قادة هذه الدول يعلمون فإن محمود عباس -رئيس السلطة الفلسطينية غير الشرعي- يعلم. قادة الأطراف العربية لم يشرحوا بنود الصفقة التي بالتأكيد طُلب منهم ألا يتحدثوا عنها.

تقول وسائل الإعلام إن الصفقة تختص بتصفية القضية الفلسطينية وذلك عبر أمور ثلاثة، وهي: تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإجلاء الفلسطينيين من القدس، وإقامة دولة فلسطينية على أرض غير فلسطينية. أي أن ترامب لا يهدف إلى فض قضية اللاجئين وإقفال حق العودة فحسب، وإنما يهدف لاقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره، وتصنيع فلسطين استعمارية جديدة بشعب منقول.

الكاتب لا يعرف ما هي صفقة القرن، لكنه لا يتوقع أبدا خيرا من الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعربوالمسلمين. أميركا تعادي العرب والمسلمين، وتقدم كل أنواع الدعم للكيان الصهيوني الإرهابي، والسنوات الخالية -منذ نهاية القرن التاسع عشر- أكدت لنا عداء أميركا لهذه الأمة.

وذلك بنهب ثرواتها والإصرار على تجزئتها، والعمل الدؤوب على إبقائها ضعيفة ومطية للآخرين خاصة الصهاينة، ومنع البحث عن وسائل وأساليب لتوحيد الأمة، وإشعال الحروب البينية واستنزاف الطاقات. لا ثقة بأميركا أبدا، وليس متوقعا أن ينجم عن سياساتها خير للأمة أو فلسطين خاصة. ولهذا يُحتمل أن تصيب بعض التحليلات الإعلامية التي تفترض الشر في عيون ترامب وسياساته.

“تقول وسائل الإعلام إن الصفقة تختص بتصفية القضية الفلسطينية وذلك عبر أمور ثلاثة، وهي: تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإجلاء الفلسطينيين من القدس، وإقامة دولة فلسطينية على أرض غير فلسطينية. أي أن ترامب لا يهدف إلى فض قضية اللاجئين وإقفال حق العودة فحسب، وإنما يهدف لاقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره، وتصنيع فلسطين استعمارية جديدة بشعب منقول”

من المفروض أن يوصل صاحب العِلم علمه إلى الناس، لكي يبقوا على علم بما يحيط بهم فيتدبروا أمرهم ويتخذوا احتياطاتهم. ولا يجوز لقائد أو مسؤول يملك عِلما بمشاريع وبرامج وخطط تمس حياة الناس أن يبقى صامتا، إلا إذا كان في ذلك قيمة أمنية عليا تؤثر على سلامة الناس عموما.

هناك قادة عرب يعلمون عن الصفقة، وجاريد كوشنر (مستشار ترامب) لم يتحدث إليهم عن أوهام وإنما عن خطط. لكنهم جميعا لم يتحدثوا بصراحة ووضوح للإعلام لكي يكون الناس على بينة. وهذه مشكلة متأصلة في السلوك القيادي العربي، حيث إن الحقائق تبقى طي الكتمان إلى أن يتناولها الإعلام الأجنبي.

وقد مرت علينا فترات لا نعرف حقيقة ما يدور فيها إلا من خلال إذاعة لندن أو إذاعة الكيان الصهيوني. هذا أمر ينطبق على الفلسطينيين الذين لم يكونوا يدرون عما يجري من مفاوضات بين الصهاينة وعناصر منظمة التحرير إلا عبر الإعلام الصهيوني.

إسلاميا؛ كتْم البينات لا يجوز، ومن يكتم البينات فهو كمن تغلي في بطنه النار. هذا أمر مهم إسلاميا لأنه لا يجوز أن يبقى الناس في الظلام وتفاجئهم الأحداث. يستطيع من يعرف الحقيقة أن يدبّر أمره ويخطط سلفا، ويستجمع القوى من أجل مواجهة ما يدبره الآخرون ضده.

وأيضا تساعد الحقيقة الناسَ على التفكر معا، والعمل على صياغة موقف موحد ذي قوة ميدانية تحول دون الوقوع في مصيبة أو مأساة. إن تكوين رأي عام مهم جدا في حياة الشعوب، وهذا الرأي لا يمكن أن يكون مفيدا إن استند إلى معلومات خاطئة.

ولهذا لا يمكن الثقة بقائد يكذب أو يُخفي الحقيقة عن الناس لأمور في نفسه أو استجابة لعدو أو خصم، وعلى الجماهير ألا تسكت على تصرفاته وتتركه يعبث كما يشاء.

هناك من يلوم شعب فلسطين على عدم التحرك في مواجهة القيادات الفلسطينية التي أثّرت سلبا على مكانة القضية الفلسطينية، وعملت باستمرار على تدمير وحدة الشعب الفلسطيني.

الملامة حق لأن الناس يرون الموبقات الوطنية تقترف كل يوم بحق القضية والشعب، لكن لنأخذ في الاعتبار أيضا أن المعلومة الصحيحة لا تصل إلى الناس، وتقع الأحداث غالبا على رؤوسهم فجأة دون أن يكونوا قد استعدوا لامتصاصها ورد سلبياتها على من أحدثها. والقيادات الفلسطينية تتحمل مسؤولية كبيرة في هذا، ويجب محاسبتها على ذلك حتى ولو كان عناصرها مع الأموات.

مهما احلولكت الليالي وادلهمّ الخطب وقست الحياة؛ فإن جذور شعب فلسطين ستبقى راسخة في الأرض ورؤوسهم شاهقة في السماء، ولن يطاولهم أبناء صهيون مهما بلغوا من القوة والصلف والاعتداء.

الصهاينة بلا جذور وتاريخهم كتبه حاخامات جهلة زوّروا الأحداث وصنعوا لأنفسهم أوهاما اعتبروها مقدسات. والأدلة على ذلك كثيرة، ويأتي على رأسها التناقضات العلمية والسردية التي يوردها كتاب التوراة التي بين أيدي اليهود الآن.

لقد زوروا التعاليم الدينية والأحداث التاريخية وتعاقب الحضارات لكي يثبتوا حقوقا لهم في أرض كنعان وبلاد الشام، الأرض المباركة أرض فلسطين. وهناك من العرب فئات سياسية وأكاديمية تطوعت لخدمة التزوير فتبنّت الرواية اليهودية.

فليقرأ من أراد العلم والمعرفة كتاب الدكتور العلامة الكبير كمال الصليبيعن تاريخ اليهود، وليقرأ كتبا غربية أخرى مثل كتاب بول جونسون عن تاريخ اليهود.

“جذور الشعب الفلسطيني أقوى بمئات المرات من قوة أميركا العسكرية، وكل الهجمات الشرسة المسلحة على هذا الشعب لن تقتلعه. ومهما حاول ترامب ومعه الصهاينة؛ فإنهم لا يمكن أن يتغلبوا على قوة التاريخ وصلابة الثقافة والإرادة التي لا تلين. ودائما النتائج مشمولة في المقدمات والحصاد من جنس البذار، ومقدمات الشعب الفلسطيني وبذاره هي التي ستحدد النتائج، لأن مقدمات ترامب وبذاره تقوم على الشر والعدوان”

على أية حال؛ شعب فلسطين يتعرض لهجمات شرسة منذ عام 1882، ولمحاولات أحباء صهيون غزو البلاد والاستيلاء عليها بمساعدة قوى عالمية وأثرياء غربيين، وقد ذاق هذا الشعب مُرّ العذاب وقسوة الحياة وضيق العيش، وبقي صامدا مكافحا يقدم كل التضحيات الممكنة ليبقى مرفوع الرأس متجذرا ثابتا في وطنه.

وإذا كان هذا الشعب قد أصابته عثرة وازنة فذلك بسبب مساومات القيادات السياسية، وهو حتما سينهض من جديد ليكون سيد قضيته والحارس الأمين عليها. إن جذور الشعب الفلسطيني أقوى بمئات المرات من قوة أميركا العسكرية، وكل الهجمات الشرسة المسلحة على هذا الشعب لن تقتلعه.

ومهما حاول ترامب ومعه الصهاينة؛ فإنهم لا يمكن أن يتغلبوا على قوة التاريخ وصلابة الثقافة والإرادةالتي لا تلين. ودائما النتائج مشمولة في المقدمات والحصاد من جنس البذار، ومقدمات الشعب الفلسطيني وبذاره هي التي ستحدد النتائج، لأن مقدمات ترامب وبذاره تقوم على الشر والعدوان.

من العرب من يتحمس للصهاينة وصفقة ترامب؛ وهم يحاولون إقناع القيادة الفلسطينية غير الشرعية بها. ومن الوارد أن تقتنع القيادة غير الشرعية خاصة إذا مورست عليها ضغوط مالية، لكن كم من مرة لجأت القيادات الفلسطينية إلى المساومات وفشلت؟

هي كانت تفشل لأنها كانت تتنازل عن حقوق وطنية فلسطينية وتعترف بالكيان الصهيوني، ولأنها كانت تتعرض أيضا لضغوط كبيرة من دول عربية وغربية، لكن كل مساوماتها لم تنته إلى حل للقضية، وكل حل لا يلبي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقف على أقدامه، حتى ولو أقيمت دولة فلسطينية ذات سيادة وبمعزل عن المعايير الصهيونية والأميركية.

لقد تواطأت القيادات ضد الثقافة الفلسطينية لكي تطمس وعي الناس بقضيتهم، لكن الأجيال الصاعدة تثبت أنها أكثر وعيا بقضيتها من أصحاب السياسة، وأن وعيها عصي على التغييب والانهيار.

لذلك لا ضرورة للانتباه كثيرا إلى المخاوف التي تبثها وسائل الإعلام التي لا تعرف بعدُ جوهر صفقة ترامب. الصفقة ستُلحق مزيد أذى بالشعب الفلسطيني، وأميركا لا يمكن أن ينتج عنها خير، لكن على الشعب الفلسطيني أن يتسلح بمزيد من قوة الإرادة والإصرار، وهو قادر على إفشال كل المؤامرات القادمة كما أفشل السابقة.

من الضروري ألا يستكين الشعب لقوة التاريخ والمنطق وقوة الحق، وإنما مطلوب منه البقاء في ميدان التحدي والمواجهة، بمعزل عن قيادات مزّقت الشعب وقدمته للأعداء ليتلاعبوا بمصيره.

عبدالستار قاسم

الجزيرة