احتجاجات العراق تسلط الضوء على الفجوة في السياسة الأميركية

احتجاجات العراق تسلط الضوء على الفجوة في السياسة الأميركية

بينما تستمر معظم العناوين الرئيسية في التركيز على اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتداعيات قمة الناتو، يشهد العراق نوعاً من أكبر الاحتجاجات وأطولها منذ سنوات عديدة. وقد بدأت الاحتجاجات في الأسابيع الأخيرة، وقدح شرارتها نقص المياه والكهرباء، والبطالة، والفساد الحكومي. وعلى الرغم من الاضطرابات المتصاعدة في بلد لدى الولايات المتحدة فيه مصالح مهمة وقوات عسكرية، لم يكن هناك الكثير من الذكر للأحداث الأخيرة الجارية في العراق على ألسنة المسؤولين العراقيين والأميركان أو في وسائل الإعلام الرئيسية.
يدل تركيز الولايات المتحدة الضيق على التحديات العسكرية والأمنية في العراق، خاصة فيما يتعلق بتنظيم “داعش”، على اتجاهات السياسة الأميركية الحالية. وتشكل العمليات العسكرية لمكافحة الإرهاب، المجردة من أي استراتيجية أوسع للعراق، دليلا على أن التحديات الاقتصادية والأمنية في العراق ترتبط جوهريا بنشوء الاضطرابات، كما تبين في تقرير أخير صدر عن “مبادرة مجلس الأطلسي العراقية”، تحت عنوان “ما وراء الأمن: الاستقرار، والحكم والتحديات الاجتماعية-الاقتصادية في العراق”.
بدأت الاحتجاجات على فشل بغداد في توفير الخدمات الأساسية في 8 تموز (يوليو) في محافظة البصرة الغنية بالنفط، وأثارتها الانقطاعات المستمرة في التيار الكهربائي، والنقص في المياه، وقضايا الصرف الصحي على خلفية الحرارة القائظة التي تشهدها فصول الصيف في العراق. وسرعان ما انتشرت هذه الاحتجاجات إلى محافظات أخرى في جنوب البلد ذي الأغلبية الشيعية، فهاجم المحتجون المباني الحكومية واجتاحوا مطار النجف الدولي، حيث أصيب ثلاثة مدنيين على الأقل بجراح في مواجهات مع الشرطة.
وفي 14 تموز (يوليو)، ذُكر أن ما لا يقل عن 9 من أفراد الأمن و21 محتجاً أصيبوا بجراح في مواجهات وقعت في مكاتب الحكومة في محافظة ميسان، كما أصيب 36 رجل شرطة و6 متظاهرين في محافظة ذي قار. وفي اليوم التالي، استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه ضد المتظاهرين في البصرة، واستخدمت الهراوات والخراطيم لتفريق المحتجين خارج حقل الزبير النفطي في جنوب العراق. وفي اليوم الذي تلا ذلك، انتشرت التظاهرات إلى بغداد. وبحلول 18 تموز (يوليو)، أفاد مسؤولو الصحة العراقيون أن 8 مدنيين قُتلوا منذ اندلاع الاحتجاجات، وأن 60 آخرين أصيبوا بجراح.
بالإضافة إلى حملة القمع التي تشنها قوات الأمن على المحتجين، قامت الحكومة بقطع الاتصال بالإنترنت عن كثير من مناطق العراق في نهاية الأسبوع الماضي. وقالت مصادر لمنظمة العفو الدولية إنهم يعتقدون بأنه تم قطع اتصال الإنترنت لمنع المواطنين من نشر الصور ومقاطع الأفلام التي توثق القوة المفرطة التي تستخدمها قوات الأمن، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية. ويعتقد آخرون بأنها محاولة للحد من الاتصال بين آلاف المتظاهرين، على غرار التكتيك الذي استخدمته الأنظمة خلال احتجاجات الربيع العربي في العام 2011. وقد أعادت الحكومة خدمات الإنترنت جزئياً، لكنها أبقت القيود على منصات وسائل الإعلام الاجتماعية.
على الرغم من التكهنات بأن الاحتجاجات لقيت التشجيع من إيران، فإنها تظل في معظمها مناهضة لطهران في طبيعتها، حيث قام المحتجون بإحراق لوحة إعلانية تحمل صورة القائد الإيراني الأعلى الراحل آية الله الخميني. وفي حين أن اللاعبين السياسيين المختلفين ربما يسعون إلى استغلال الاضطرابات لتعظيم مكاسبهم الخاصة، فإن القوة الدافعة خلف الاحتجاجات هي المخاوف الاقتصادية-الاجتماعية للعراقيين. ويوم 17 تموز (يوليو)، قامت جماعة قيادية مكونة من الناشطين والزعماء القبليين في محافظة البصرة بنشر قائمة بالمطالب التي عبر عنها المتظاهرون. وكانت البنود الثلاثة الأولى على رأس القائمة هي حل مشاكل المياه والكهرباء؛ ومعالجة البطالة بين الشباب في البصرة؛ وتحسين الخدمات العامة، وخاصة الصحة والتعليم.
وتجيء المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع الاضطرابات في العراق إلى حد كبير نتيجة للحكم البائس. وقد أدى سوء الإدارة الموثق جيداً والذي تمارسه الحكومة العراقية في التعامل مع الثروة النفطية في محافظات مثل البصرة، من بين مكامن قلق أخرى حول قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية، أدى ذلك إلى تصنيف العراق باستمرار بين أكثر الدول فسادا في العالم. وفي حين أن الحكومة طبقت بعض الإصلاحات للوفاء بالاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإن القطاع الخاص يبقى ضعيفاً والقطاع العام متضخماً بينما تكافح الحكومة لتنويع اقتصادها وخفض الاعتماد على النفط.
على الرغم من النظرة الإيجابية إلى الزيادة في الدخل المحلي الإجمالي الناجمة عن تحسين البيئة الأمنية واستثمارات إعادة الإعمار، فإن معظم العراقيين لا يشعرون مباشرة بفوائد النمو الذي يشهده بلدهم. ويؤدي التوزيع غير المتساوي للثروة والخدمات العامة إلى نتائج مزعزعة للاستقرار في المناطق المهملة، مثل الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي ونقص المياه في جنوب العراق.
بالإضافة إلى الافتقار إلى الخدمات العامة الأساسية بسبب الحكم البائس وسوء الإدارة، يواجه العراقيون ندرة الوظائف والتدني المستمر في مستوى المعيشة والافتقار إلى الحيوية الاجتماعية الذي ينجم عن ذلك. وبالنظر إلى تصاعد مظاهر المحاباة والمحسوبية، لا تكون الوظائف الحكومية متاحة لمعظم العراقيين، مما يؤدي إلى ارتفاع التفاوت في الدخل وزيادة معدلات البطالة. ومما يثير القلق بشكل خاص معدلات البطالة بين الشباب، والتي تقدر بنحو 30 في المائة وما تزال في ارتفاع. ويؤدي النمو الديمغرافي المتسارع الذي يشهده البلد إلى مفاقمة هذه المشكلة فحسب.
إذا ما تم إهماله، فإن العدد المتزايد من السكان الشباب المتعلمين -وإنما الذين يعانون من البطالة، والمحرومين اجتماعياً واقتصادياً والساخطين من عدم كفاءة الحكومة-ربما يفضي إلى قدر أكبر من عدم الاستقرار في العراق، وقد يزيد الاتجاه إلى التطرف. ومن الواضح أن ذلك لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة التي لها جنود منتشرون في البلد، والتي استثمرت بكثافة في محاربة الإرهاب هناك. ومع ذلك، فإن الحملة المضادة لـ”داعش” استأثرت في كثير من الأحيان بجل الاهتمام على حساب كل مكامن القلق الأخرى التي تهدد أمن البلد. ومن الملفت أن آخر تصريح صحفي صدر عن وزارة الدفاع الأميركية بخصوص العراق –يوم 17 تموز (يوليو)، أي في نفس اليوم الذي كانت قوات الأمن تضرب فيه المتظاهرين بالخراطيم المطاطية- كان يتحدث فقط عن تطهير مقاتلي “داعش” في شمال العراق.
في الأثناء، وعندما سُئلت عن الاحتجاجات العراقية خلال إيجاز صحفي لوزارة الخارجية الأميركية، وصفت المتحدثة باسم الوزارة، هيذر ناويرت، الاحتجاجات بأنها قضية “داخلية”، وأكدت على حق الحكومة العراقية في المحافظة على أمن الممتلكات العامة. كما أنها تجاهلت الأسئلة حول مكافحة الفساد في العراق أيضاً. وتستطيع الولايات المتحدة أن تستفيد من استراتيجية أوسع للاستقرار وبناء السلام في العراق، والتي تخاطب الظروف الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء الصراع العنيف والاضطرابات خارج إطار محاربة “الدولة الإسلامية”.
كما هو مقترح في تقرير جديد أعده الزميل الرفيع غير المقيم في مجلس الأطلسي، الدكتور حارث حسن، فإن هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل إقامة تقديم الولايات المتحدة المساعدات للعراق على شرط تشجيع الإصلاحات الحكومية التي تخلق الوظائف، وتُطور الاستثمارات، وتخفض الفساد. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تدعم الولايات المتحدة مبادرات لتطوير الموارد البشرية وتدريب الشباب على الانخراط في اقتصاد يزدهر على الإبداع والمبادرة، وتزويدهم بالمهارات اللازمة للتعامل مع التقنيات الجديدة –مثل مبادرة الشباب العراقي التي ترعاها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتي دربت أكثر من 3.200 شاب في الفترة ما بين العام 2010 والعام 2012 على أن يكونوا رواد أعمال مستقلين. ومن أجل متابعة تحقيق هذه الأهداف، يمكن أن تلتزم الولايات المتحدة علناً بتمويل الاستقرار ونشاطات إعادة الإعمار في العراق، وهو ما فشلت في فعله في مؤتمر التبرعات الأخير الذي انعقد في الكويت. وبينما تتراجع حدة القتال ضد “داعش”، فإن السياسة الأميركية يجب أن تتحول عن المصالح الأمنية قصيرة الأمد إلى نهج أكثر دقة، والذي يركز على معالجة بعض من التحديات الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة التي يواجهها العراقيون يومياً.

إميلي بيرشفيلد

الغد